نهاية النقابية التقليدية

نهاية النقابية التقليدية

من الفعل النقابي إلى النهوض المجتمعي

مبارك الموساوي


1.مقدمة

يفرض الرصيد التاريخي، خلال القرون الثلاثة الأخيرة، على النقابة ضغطا شديدا يحول بينها وبين إبداع مخرج حقيقي من الأزمة التي يعيشها العمل النقابي بين يدي تحولات عميقة في عالم الاتصال والتواصل، وفي نظام العمل، وفي بنياته المادية والقانونية والإنسانية وفي ومهامه الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى تقوقع الفعل النقابي إلى حد العجز عن اتخاذ المبادرة في كثير من المناسبات، بل في إعادة السؤال حول ماهية وجوده.

لقد كان من أهم نتائج ما سمي بالربيع العربي خلا العشرية الثانية من القرن  الواحد والعشرين الكشف عن العجز الرهيب الضارب في جسم النقابة، ومن ثمة في مفهوم النقابية الذي تستند عليه في وجودها، وفي حركتها، وفي تحديد أساليب عملها واستراتيجياته، وفي بنائها التنظيمي والهيكلي، وفي تحديد ماهية القيادة النقابية.

هذا العجز الممتد إلى حد إرباك العلاقة مع باقي الأطراف المعنية بمجال اشتغال النقابة (الدولة – الأحزاب- أرباب العمل – المكونات المجتمعية....) فقدت معه، النقابة، القدرة على القيام بمهامها المنوطة بها في المرحلة، بل ظهر ارتباك شديد في تحديد هذه المهام؛ هل يحظى فيها الاجتماعي بالأولوية أم السياسي أم الاقتصادي أم ماذا، بل ماهو الجواب عن سؤال الذات النقابية؟

لذلك تدعو المرحلة بكل معطياتها عدم التفريط في مكتسب النقابة، باعتبارها قوة مجتمعية، مع ضرورة اكتشاف معنى جديد مناسب للنقابية يضمن تفعيلها (النقابة) في سياق التحولات العميقة في مجالات المعرفة والتواصل والتنظيم والإدارة.

2.أهم عوامل عجز النقابة التقليدية ومظاهره.

يشكل انحصار النقابة اليوم في سياق تاريخي، كان محكوما بعوامل ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية وديموغرافية بشرية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ميلاديين، أهم عوامل انكماشها ثم تقوقعها ثم فقد توازن حركتها في سياق التغيرات الجوهرية والمتسارعة التي عرفها القرن الواحد والعشرين، كما كان عامل ارتهانها (النقابة) إلى بنية تنظيمية مسنودة إلى مفهوم طبقي فئوي، وإلى تصورات غلب عليها في عالمنا العربي والإسلامي المفاهيم الثورية اليسارية المسجونة في متاهات الصراع الطبقي، فضيعت فرص انسجام تموقعها مع مراحل التطور التاريخي والمجتمعي.

لقد ساهمت هذه العوامل في تكريس بناء تنظيمي هيمن على توجيه الفعل النقابي دون أن يفتح له آفاق الإبداع لتحقيق التكامل المجتمعي بين قواه، الأمر الذي كرس وعيا تنظيميا منغلقا كانت من أخطر نتائجه فرض نظام قيادة مركزي، في الغالب الأعم، أدى إلى تفتت الإرادة العامة للقاعدة النقابية، مما أفقد النقابة مصدر قوتها الحقيقي؛ وهو وحدة القاعدة وإن تعددت بنياتها الهيكلية افقيا وعموديا.

لذلك، ففقد قوة التنظيم القاعدي وتجسيد إرادته على مستوى القيادة أدى إلى ضعف النقابة وجلب حالة التمرد عليها، التي برزت خلال أواخر العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين على شكل تنظيمات فئوية فاقدة لأي شكل من أشكال التنسيق الضامن للقوة التنوع وتنوع القوة.

أما أهم مظاهر عجز النقابة التقليدية فتجلت خلال ما سمي بالربيع العربي؛ إذ لم يكن لها الدور الهام المنوط بها في تفعيل مضامين الحراك، والمساهمة في تصحيح أهدافه في الوقت المناسب وتدقيق آفاقه الاجتماعية، وكذا المساهمة القوية في تمريض المراحل الانتقالية تفاديا للانهيارات الاجتماعية التي ضربت عددا من المجتمعات ولا زال العديد منها يرزح تحت آلامها ومعاناتها الشاملة.

لا يمكن تحميل النقابة أكثر من واجبها، لكن الواضح أنها كانت غاية في التخلف عن اللحظة التاريخية التي عاشتها المجتمعات في هذه المرحلة، وقد كان أكبر مظهر يتجلى في غياب الجواب الاجتماعي عن السؤال الاجتماعي الذي كان هو مجال اشتغال النقابة خلال العقود الثلاثة السابقة وكان السؤال الملح بعد الحراك، مما أدى إلى فشل الإدارة السياسية لمرحلة ما بعد حراك ماسمي بالربيع العربي، إذ كان الاجتماعي هو الامتحان العويص والمعقد في هذه الرمحلة.

فبعد حوالي عقد من الزمن على هذا الحراك ظهر العجز المطلق للنقابة القائمة، ليس فقط في أبعادها التنظيمية وكفاءتها القيادية في إدارة المرحلة من موقعها، وإنما في عجز مفهوم النقابية الذي يؤطرها عن توفير المضامين المعرفية القادرة على استيعاب المضمون التاريخي لهذه المرحلة وفتح آفاق حركية شاملة للتحرر، لذلك لا يتعلق السؤال اليوم بالنقابة فقط بقدر ما يتعلق بالنقابية باعتبارها إطارا مرجعيا يستمد مضامينه من ماهية المشروع المجتمعي كأساس معرفي وليس فقط برنامجا سياسيا قد يهتم بالجانب الاجتماعي أو لا يهتم.

3.من الفعل النقابي إلى النهوض المجتمعي

لا تعني الحاجة الملحة للنهوض المجتمعي اليوم على أساس اللحمة الاجتماعية نفيا لدور النقابة، وإنما لتأكيده وإعادة بناء فعلها في سياق تجديدي يرفع من أهمية النهوض المجتمعي الشامل في تحديد ذلك الدور مضمونا وأهدافا ووسائل؛ أي اكتشاف المشروع المجتمعي وبناء أرضيته الاجتماعية التي ينطلق منها الفعل النقابي وتتأسس عليها النقابة باعتبارها أرضية صلبة، وهو ما يفرض وعيا تنظيميا مناسبا للمرحلة تكون أهم معالمه استثمار الثورة التواصلية بما يضمن الفاعلية عموديا وأفقيا، ويساهم في تقوية التنظيم القاعدي وفاعلية القيادة المجسدة حقيقة لإرادة القاعدة.

فالنهوض المجتمعي هو أهم مهام القوة المجتمعية التي تفرز قيادتها الحقيقية وفق صيورة حراكية لا تؤمن بتزاحم المطالب الاجتماعية والسياسية، لكنها تتحرك وفق أولويات تطلبها المرحلة خارج تزاحم الإرادات، إردات الأطراف المجتمعية والسياسية،  بل بتكاملها على وضوح يستثمر اللحمة الاجتماعية، التي تحتل الأولوية القصوى في البناء، لتدقيق المطالب والأهداف السياسة المرحلية والاستراتيجية وتمريض المراحل الانتقالية التي يجب أن تكون النقابة بهذا المعنى التجديدي قطب رحى القيادة المجتمعية.

ومن مقتضيات هذا التجديد العمل على إعادة تعريف مفاهيم العمل النقابي وإعادة بناء مدلولاته القانونية في سياق تفرضه القوة المجتمعية التي تقوم بإعادة ترتيب مواقع القوى المجتمعية والسياسية وفق مهامها الطبيعية.

فقد كان من أخطاء الماضي جعل النقابة في موقع مجتمعي وسياسي لم يعد مناسبا للمرحلة القائمة اليوم تماما، لذلك يقتضي اعتبار المشروع المجتمعي كأساس معرفي إعادة النظر في مفهوم القوة العاملة نظرا للتحولات الجذرية والعميقة والسريعة التي تحدث في بنيات المجتمعات، ومنه إعادة النظر في ساعات العمل، حيث تم تحديد ثمان ساعات في ظروف القرن الثامن عشر وإنسان القرن الثامن عشر، وفي مواقع العمل الفاعلة والمنتجة، وفي الأنظمة الاجتماعية، وفي علاقة كل ذلك بالتنمية الشاملة التي تحقق القوة والتحرر والعدل السياسي والاجتماعي.

إن المشروع المجتمعي الكفيل بتحقيق هذه الأهداف هو الذي يجعل من السياسي خادما للمجتمعي، ومن الاجتماعي لحمة تحمي من الانهيارات المتنوعة وتضمن التنمية واستمرارها، وهو ما يعني أن النقابة ليست مجرد وعاء مطلبي لفئة أو فئات، وإنما تنظم هذا في سياق القيام بالواجب المجتمعي لتحقيق تلك الأهداف: القوة والتحرر والعدل السياسي والاجتماعي.

أما المشروع المجتمعي فيفقد صفة الأساس المعرفي إذا لم يصدر عن منظومة أخلاقية وقيمية جامعة لأطراف المجتمع ومنظمة لعلاقاتهم الداخلية والخارجية، وهو بذلك يمنح النقابة الصادرة عنه شرعية الوجود وشرعية الفعل، ويخرجها من الدور التقليدي المحدد في مفاهيم "النضال" التقليدية إلى سعة المشاركة والمساهمة المجتمعيين للقيام بالمهام الحاسمة لصالح  تحقيق العدل الاجتماعي والتحرر السياسي، وبذلك لا يكون الاحتفال بعيد العمال مجرد رفع مطالب فئوية خاصة هي مضمون العقد النقابي بين القاعدة النقابية والقيادة النقابية، وإنما يكون لحظة الاحتفال بدرجة النهوض المجتمعي المحقق والتأسيس لأرضية هذا النهوض على المدى القريب والبعيد وفق روح نقدية صارمة لا تتهاون في تفكيك الواقع والعمل على إعادة تركيبه بما يخدم تحقيق أهداف: القوة والتحرر والعدل السياسي والاجتماعي.

وفي الختام إن بناء مفهوم جديد للنقابية، يحقق فاعلية جديدة للنقابة اليوم، يقتضي تجاوزا حتميا لمفاهيم القيادة القابضة على النقابة، كما يقتضي وعيا تنظيميا جديدا يستثمر واقع التحولات في مجالات المعرفة والتواصل ويتجه إلى نقل إرادة القاعدة النقابية نقلا حاسما في تحديد ماهية ونوع القيادة المؤهلة لإدارة المرحلة في بعدها السياسي والتاريخي من موقعها الطبيعي في حركة المجتمع، وبذلك يمكن أن تنبعث النقابة من بين ركام حالة العجز الذي تعيشه إلى مواقع القوة التي تمكنها من القيام بمهامها المنوطة بها اتجاه العامل ومنظومة العمل واتجاه المجتمع ولحكمته الاجتماعية التي تشكل الأرضية الصلبة للفعل السياسي الجامع.

مراكش في 25 رمضان 1443هـ الموافق ل27 ابريل 2022. 

تفكيك مفهوم التنظيم لصالح معنى الجماعة

تفكيك مفهوم التنظيم لصالح معنى الجماعة
أو مستقبل الحركة الإسلامية من الفكرة الى العلم



تقديم

لايمكن الحديث عن تحول تاريخي أو اي تغيير سياسي دون "ثورة علمية" كاملة، وذلك نجد أن كثيرا من الأحداث ذات القيمة التاريخية لا تستوعب ولا تستثمر في اتجاه ذلك التحول لكون النخبة في المرحلة لا تعيش وضع "الثورة العلمية" (القومة العلمية).
نجد هذه القاعدة متجلية تماما في وضع غالب الحركة الإسلامية اليوم، لذلك كانت من النهايات التي أكدها ما سمي بالربيع العربي نهاية الحركة الإسلامية على صورتها المعاصرة، إذ يمكن القول بأنها صارت (أي الصورة)، في غالبها، مظهرا من مظاهر المجتمع التقليدي، والتي استغرقت حوالي قرن من الزمن عُرف بتحولات جذرية في مجالات الاتصال والتواصل، لذلك يأتي هذا المقال محاولة لفتح آفاق جديدة من الوعي التنظيمي الذي يجب أن تنتقل إليه هذه الحركة وهي تعرض مشاريع التجديد والإصلاح والتغيير.
فحينما نفكك مفهوم التنظيم لصالح معنى الجماعة، فإننا نقترح على الباحثين والممارسين، على السواء، الانتباه الى نتائج علمية وعملية واعدة ضمن استراتيجيات التجديد الشامل، لأن هذا المنحى، فضلا عن أنه سيفتح آفاقا حركية ووعيا تنظيميا لدى العاملين في مجال العمل الاسلامي بكل صوره، وفي مجال العمل المجتمعي والسياسي عموما، فإنه سيقدم أرضية مناسبة لاستثماره في الخروج من المأزق الاجتماعي والسياسي الذي يكبل حركة المجتمعات المسلمة لتقوقعها ضمن صراع وهمي بين التقليد وبين الحداثة وبين أطرهما المرجعية، صراع صنع رموزه الفكرية والإعلامية المتنوعة، وهو خروج عبر تحرر شامل من التقليد والحداثة على السواء دون السقوط في فخ التلفيق والترقيع بينهما لكونه تكريسا للمأزق وتعميقا لتعقيداته التي تُترجم في مجالات عدة إلى صراعات دموية أو انهيارات مجتمعية تبدأ مقدماتها على صور ناعمة في انهيار منظومات القيم والتربية والتعليم والعلاقات والسلوكات الاجتماعية، وفي التمزقات السياسية والفسيفسائية المجتمعية.
والباب لهذا تفعيل معنى الجماعة من حيث هو قيم كلية حاكمة وتنظيم جامع ونظام عمراني أخوي متكامل.
إن معنى الجماعة يقدم اتجاها نقديا جديدا للتجربة الاسلامية المعاصرة التي قدمت مجهودات فكرية كبرى وتضحيات جسيمة لابد من الاستفادة منها، إذ استنفدت هذه التجربة رصيدها التأسيسي الذي غطى حوالي قرن من الزمن، خاصة أن هذه الحركات كان يحمل بعضها، وما زال بعضها الآخر، عبارة "الجماعة" في تسمياتها الرسمية وخطاباتها الداخلية والخارجية، وهو ما يدلل على أنه مفهوم مركزي لكن مع كثافة شديدة من الغموض أفرزت ارتباكات تصورية وعملية في لحظات دقيقة من مسارها، كما أترث على مردوديتها العملية وعلى فاعليتها في الواقع والتاريخ نظرا للقصور العلمي والمعرفي الذي خلفه ذلك الغموض.
فمعنى الجماعة أداة تحليلية وتفسيرية لكل الوقائع التنظيمية في المجتمع المسلم، وفي نفس الوقت كلية بنائية جذرية لإعادة تركيبه وفق استراتيجية إصلاحية تغييرية منتبهة إلى المضمون التاريخي للمرحلة المعيشة ومؤسسة للمضمون السياسي الذي يناسبها استنادا إلى قيمها الجامعة والمجموعة في كلية الوحي باعتباره وحدة موحدة.
فهذا المقال يريد أن يقدم تصورا يقتضي أن تحريك التنظيم وهياكله، أي تنظيم، عبر معنى الجماعة هو الحل الجذري لإعادة بناء واقع الأمة لتحقيق مطالب الحرية والاستقلال والقوة عبر عملية نقدية شاملة لبنيات المجتمع القائم وللعوامل الكبرى المهيمنة عليه، كما يروم هدفا من الأهداف؛ وهو جر النخبة العالمة والمثقفة والقيادة في الحركة الإسلامية إلى نقاش علمي رصين يخرج من دائرة الانطباعية والأحكام والتمتلات المسبقة والساذجة والاعتماد على التقارير الرسمية فقط إلى بناء الخطوات على علم راسخ تُفكك من خلاله فعلها اليومي في البناء الذي تقوقع زمنا طويلا ضمن سيرورة وعي تنظيمي لم يتجاوز صوره التأسيسية التي غلب أفكارا جامدة وهياكل تنظيمية جعلت النظرة جملة في قبضة حركتها اليومية فتحولت بهذا التقوقع إلى عادات حركية وتنظيمية، وإلى مهام ذات سقف سياسي محدود أو مهام ذات صبغة اجتماعية تضامنية دفع الكل التنظيمي إلى الانكماش إلى مجرد كيان اجتماعي ينشط داخل المجتمع بأهداف سياسية محدودة، ومستسلما عن وعي أو من دونه لسلطة تحالف التقليد والاستبداد والتبعية، وهو تحالف تراهن اليوم عناصره على بعضها البعض في المحافظة على نفسها وسلطتها.
لهذا يكون معنى الجماعة قوة علمية دافعة وصانعة ومجددة للفعل اليومي من خلال هياكل التنظيم الذي يجب أن يعكس جملة وتفصيلا قيم الجماعة، إذ لا جهاد عمراني إلا عبر التنظيم في مرحلة  كبرى أولى وعبر نظام في مرحلة كبرى ثانية، تلك القيم التي سمحت بساطة المجتمع زمن النبوة والخلافة الراشدة وعدم تعقد واقعها الهيكلي والتنظيمي بوضوحها الكامل وبسرعة هيمنتها على كل تفاصيل الفكر والنفس والمشاعر والأعمال اليومية والعلاقات الخاصة والعامة، ولاشك أن تلك القيم التي استطاعت تفكيك نظام الولاء العنيف والحاد، الذي كان مترجما في حروب دموية ضارية ودائمة وفي تقوقع قبلي مقيت، ستكون لها القدرة بالأحرى على تفكيك هذا التحالف الثلاثي، تحالف التقليد والاستبداد والتبعية، مهما كانت قوته المعنوية والمادية، ذلك أن مستقبل الحرية رهن بالتحرر الكامل منه ومن عناصره.
ويلاحظ أنه على الرغم من قصر فترة النبوة والخلافة الأولى فقد امتد أثر رصيد معنى الجماعة وقيمها في حياة الأمة قرونا من الزمن حتى اكتشف الغرب "الرجل المريض" فاتجه بسرعة قياسية إلى تمزيقه والعمل على اختراقه في كل ميادين حياته لما وصل غياب تنظيم قيم الجماعة في بنياته ذروته، إذ كان عبارة عن مجتمع تقليدي ساكن إلا من بعض النبضات العلمية والعملية الضامنة له الحياة فقط دون الفاعلية المطلوبة التي ظهرت أهميتها مع مقاومات الاستعمار التي لم تتطور بعامل تغرب النخبة الحاكمة والمهيمنة على دواليب الدولة ومصادر التأثير التربوية والتعليمية والثقافية وغيرها بعد "الاستقلال السياسي" وإقصاء التوجه الإسلامي باكرا بعد هذا الاستقلال.
إن الصراعات الهامشية، وكذلك الوهمية، التي تغطي حركة المجتمعات المسلمة اليوم لا تخرج عن دائرة العجز في تفعيل معنى الجماعة الذي حافظ على كيان هذه المجتمعات رغم الأزمات الكبرى التي تعرضت لها قروننا من الزمن، لذلك فالصمود الذي أظهره معنى الجماعة وقيمها، رغم الانقلاب الأموي المبكر عليه والذي فتح الباب لقيم متعارضة مع ماهية الجماعة في صور كل العصبيات المذهبية والطائفية والإثنية وغيرها، يدلل على عظمة هذا المعنى وهذه القيم التي تصلح، بهذا الاعتبار على الأقل، أن تكون أرض النهضة الجديدة والدورة التاريخية الكبرى لهذه المجتمعات ولأمتها.
وقصد بيان هذا نعرض لمعنى الجماعة ولقيمته النقدية والبنائية الجذرية من خلال المحاور التالية:
الأول: معنى الجماعة وبنية التنظيم.
الثاني: معنى الجماعة والحرية والتعدد التنظيمي.
الثالث: الصحبة والجماعة.
الرابع: معنى الجماعة وبنية المجتمع التقليدي.
الخامس: معنى الجماعة ونظريات علم الاجتماع الغربي.

1.معنى الجماعة وبنية التنظيم

تشكل تنظيمات الحركة الإسلامية اليوم مقدمة فكرية وحركية لمعنى الجماعة الذي يتوج في مرحلة التحرر بالتأسيس لنظام مجتمعي متكامل، ولذلك، فكلما اضمحلت معاني الجماعة في التنظيم كلما اضمحل جسمه وضاق بأهله وانحدرت آفاقه وسقوف مطالبه، وتصير هذه الحالة المرضية خطيرة لما يصبح معها التنظيم في حاجة الى خارجه ليزود بشراب الدواء وحقن العلاج قبل فوات الأوان، وهو الوضع الذي نبه إليه الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، جماعة "الاخوان المسلمون" لما ذكرها بضرورة البحث عن رجل مصحوب ولو من خارج الجماعة لما جعلت إرث الامام حسن البنا، رحمه الله، مجدد القرن الهجري الرابع عشر، موضوع تبرك فقط، وهذه الحالة المرضية تكون مميتة لجسم التنظيم لما لا يتوفر ابتداء لدى رجاله هذا الوعي حيث تصبح حركته مجرد استهلاك للرصيد المتبقي من رصيد التأسيس عوض اعتماد عوامل التجديد وضمان تفعيلها المستمر، وهو وضع أغلب الحركات الاسلامية المعاصرة اليوم، لذلك نجد الإمام عبد السلام ياسين من خلال تجربة العلمية والعملية أسس لكل عوامل التجديد والتجدد بواسطة حركة الخصال العشر الصاعدة، والتي سنعرج عليها في فقرة "معنى الجماعة والحرية والتعدد التنظيمي"، كما تجسد في ما يمكن تسميته تجاوزا ب"الفلسفة التنظيمية" في بناء التنظيم وعلاقات هياكله وفي تفعيلها.
إن معنى الجماعة يفرض على العضو بشكل عفوي، ومن ثمة على كل المؤسسة التنظيمية التي ينتمي إليها، تجاوز منطق الأداء البسيط للمهام المرحلية حتى لا تسقط في فخ العادة التنظيمية ومتاهة المنطق السياسي الحاكم للمرحلة، إلى معنى العبادة الضامن وحده منع التنظيم من الانكماش والتقوقع وتعقد أوضاعه الهيكلية والحركية؛ وبذلك يُزوَّد الفعل التنظيمي بقوة هائلة تمكن من اختراق الواقع وفتح آفاق عريضة وواضحة، حيث تصير ماهية الفعل وجوهره ثمرة المصير المندمج الذي لا يتحصل إلا عبر التربية الإيمانية الإحسانية الجامع اندماجا بين مصير الفرد العامل عند الله تعالى وبين مصير أمته التاريخي الذي ارتبط به مصير الإنسانية، الأمر الذي يجعل الفعل التنظيمي، مهما كان حجمه صغيرا، لبنة عمرانية تستمد عظمتها من هذا المعنى الغائي الموجه للفاعل التنظيمي، وهو ما يجعل، كذلك، التراتبية التنظيمية، سواء داخل التنظيم الواحد أو داخل بنية المجتمع الهيكلية، وظيفية بنائية وتحمل في بنيتها كل عوامل التجديد والتجدد، وليست غاية حركية عند الأعضاء، لأنها إن صارت كذلك انقلبت حركة التنظيم رأسا على عقب فتفقد قيمتها التاريخية العمرانية، ذلك أن الأداة التي يتضمنها معنى الجماعة في تحريك مواقع التراتبية والمسؤولية داخل التنظيمات وفي بنية المجتمع هي قيمة الشورى والتنافس على الخيرات والتسابق في الخيرات لا منطق التنازع والصراع على المواقع والتآمر على المنكر والتوافق على المصالح الضيقة وجعل المجتمع عبارة عن فضاء تزاحم هذه المصالح وليس خدمة عامة للمصالح العامة.
فالتنظيم عبارة عن تفاعلات حركية يومية ذات أبعاد داخلية وخارجية، أفقيا وعموديا، ومعنى الجماعة هو من يزوده بالقيم الضامنة لاستمرار حركته واستمرار تجددها وإعطاء تلك التفاعلات معنى ممتدا في الزمن ومستغرقا لتفاصيل السلوك فيه ولمستجداته، إذ الجماعة هي الأداة الوحيدة القادرة على تقديم الوحي، قرآنا ونبوة، كلية واحدة موحَّدة وموحِّدة لتحريك كل بنيات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من البنيات الكبرى والصغرى،  في تناسق وتناغم وتكامل يضمن مشاركة الجميع في الحياة العامة بإرادة لا تروم النفع الشخصي الأناني الاستكباري، بل تنشد النفع العام الذي لاشك له عائد مباشر على الأفراد الذين يجعلهم معنى الجماعة متميزين بسمو الغاية ووضوحها وتعلق القلب بالله لا بالعائد المباشر، وهو ما يجعل نظام الجماعة، لما ينظم حركة المجتمع، في خدمة الكل الإنساني من خلال خدمة المستضعفين.
أما حينما يصبح التنظيم بنية هيكلية مغلقة يفقد مع مرور الزمن فاعلية أهم محركين جامعين، هما أهل القلوب العامرة بعلم الرحمة، وأهل العقول المتحركة بنور الحكمة التي يجعلها نظام الجماعة مجرد تجل فاعل لعلم الرحمة، وبذلك يفقد مصدر القيم العظمى والأفكار الكبرى التي تفتح آفاق الفعل والعمل وتخترق الحجب الموضوعية الراهنة لتصور ماهية العقبات المانعة من العمران وماهية الوسائل العلمية والعملية الكلية والفرعية المنجزة لمهامه ومراحله على وضوح شامل، وهي الظاهرة، أي فقد مصدر القيم العظمى والأفكار الكبرى، التي حافظ عليها المجتمع التقليدي وكرسها الاستبداد القروني وعمقها الاستعمار وتوابعه.
فاعتماد "تفكيك مفهوم التنظيم" لدى الحركة الإسلامية هنا لا يعني الاستغناء عن التنظيم، إذ لا عمل بنائي دون تنظيم ونظام، لكن المقصود إزاحة هيمنته على المشاعر والأفكار والأفعال والسلوكات الفردية والعامة حتى لايصبح هو سقفها ومرجعها الأصلي وغايتها والحاكم عليها. فيكون التفكيك، بهذا المضمون، كشف محدودية التنظيم ومرحليته من خلال إخضاع بنياته كليا لمعنى الجماعة حتى يضمن القدرة والقوة على الفعل والحركة التي تكون مجهدة لما تكون صاعدة مما يجعلها دوما في حاجة إلى قوة الدفع.
إن التفكيك بهذا المضمون لمفهوم التنظيم يسمح بتجاوز هذا الأخير شعوريا كقوقعة حاجبة للإرادة الكبرى في السلوك الجماعي إلى الانخراط الكلي في معنى الجماعة الذي لا يتحقق إلا عبر التربية الإيمانية الإحسانية المتكاملة، التي صنعت نموذج الصحابة في الإرادة والعلم والفهم والسلوك، وهي قيم إحسانية، بالمعنى القرآني النبوي الشامل للإحسان، لها وحدها القدرة على تحريك التنظيم وهياكله وفق روح تجديدية لا تتوقف عن الإبداع والبذل والعطاء بلا حدود، كما لا تتوقف عن اختراق الواقع بشكل عجيب لا تستطيع رصده المناهج الحديثة المهيمنة اليوم إلا من زوايا محدودة وضيقة، لذلك من ميزات بناء حركة التنظيم على معنى الجماعة وقيمها أنه لا يستند أبدا على العقلية التبريرية في بناء مواقفه وتقييم نتائجه وتفعيل مضامنه؛ بل يصنعها ويعرضها وفق أسس علمية وعقلية ناقدة وإرادة منفذة وصاعدة.
فهذه الصورة من التفكيك تجعل العضو فاعلا في التنظيم من داخل بنياته، لكنه غير مسجون ضمن قوقعته شعوريا وإراديا حتى يكون مالكا للقدرة على الدفع بحركة التنظيم وكأنه من خارجها لكنه مندمج كليا في ببنياتها ومنفتح على محيطه عبر عملية تواصلية تفاعلية بنائية دون تلفيق أو توافقات مغشوشة أو تبادل لمصالح خاصة، ولاشك أن مستويات التحصيل من هذا تختلف من فرد لآخر بحسب رزقه من ثمار التربية الإيمانية الإحسانية على نموذج الصحابة، لذلك فاختزال معنى الجماعة في بنية تنظيمية مرحلية انقلاب كلي على أعظم أداة في تنفيذ المشروع القرآني النبوي، وهي الجماعة، المؤهلة وحدها إلى تحويله إلى أنظمة قائمة على أرض الواقع، إذ مع مرور الأيام يجعل هذا الاختزال التنظيم مزرعة لنخبة من المسؤولين يتواطؤون عبر منطق تبريري على أوضاع متعارضة مع معنى الجماعة ولو بحسن نية، وهو مقتضى رفض معنى الجماعة للقيادة الجماعية لأنها صورة ناعمة من "الديكتاتورية" التي تتعارض معه جوهريا ومرفوضة جملة وتفصيلا من جهته، اي من جهة معنى الجماعة، لذلك نجد الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، في مناسبات عدة ينبه إلى خطورة القيادة الجماعية ويسمح بها فقط في حالة أن تكون الجماعة على صورة رابطة من التنظيمات الإسلامية التي تحافظ على استقلاليتها التنظيمية في مرحلة انتقالية في انتظار وصول الوعي التنظيمي في مرحلة قادمة لدى الجميع على أن نظام الجماعة في حالته الطبيعية لا يقبل إلا قيادة واحدة جامعة في سياق هيمنة قيم الاحسان والشورى على جميع الحركة، وهي وضعية عفوية في مرحلة استقرار نظام الشورى والعدل في واقع الأمة. (يراجع كتاب "جامعة المسلمين ورابطتها" من تأليف الإمام عبد السلام ياسين).
    ومن مقتضيات رفض هذا الاختزال أن هيمنة رجل التنظيم على رعاية معنى الجماعة حجب مباشر لقيمها العليا لكونه محكوما عمليا ويوميا بالمهام التنظيمية وبأهدافها، وبنفس الخطورة لما يهمين على معنى الجماعة الساهر على صناعة الموقف السياسي المناسب للمرحلة والدفاع عنه، إذ يحرص على تحريك الكل ليبقى محكوما بسقف هذا الجزء الذي هو موقف سياسي لحظي، وفي كلتا الحالتين إنما الأمر تكريس لواقع المجتمع التقليدي وهيمنة الاستبداد القائم فيه، لذلك يحتاج التنظيم إلى مأسسة قوية وواضحة لمواقع أهل القلوب الرحيمة وأهل العقول الحكيمة باعتبارهم رعاة وحماة معنى الجماعة والمؤهلون للحفاظ على وضوح آفاقه وسريان قيمه الإحسانية في تفاصيل الهياكل والمواقف والسلوكات الخاصة والعامة، ولهذا فالانغلاق في بنية تنظيمية واعتبارها سقف الولاء الذي يحتضنه معنى الجماعة يفضي حتما إلى ضيق النظرة العامة ومحدودية الأفق خاصة إذا كان الضغط الخارجي شديدا، وقد يؤدي بالبعض إلى ردود فعل عنيفة ماديا أو رمزيا، ليبقى معنى الجماعة وحده القادر على فتح الآفاق العريضة في الفكر والفعل وامتصاص الضغط الخارجي والابتعاد عن ردود الفعل، لأن قيم الجماعة وحدها القادرة على تزويد التنظيم بالقوة التي لا تقهر وبالوضوح في الرؤية الذي لا يخبو والكاشف لتفاصيل أدق المنعرجات في أدق اللحظات، كما أن سيادة قيم الجماعة يجعل معنى الولاء متصاعدا داخل المجتمع ومستوعبا لكل مكوناته، ويجعل من التنظيمات خادمة للمستقبل لتحركها نحو الغاية الجامعة بعامل وضوح اتجاه حركة معنى الجماعة.


مفتاح الجماعة

مفتاح الجماعة

تمر الأيام والسنين والاعوام ونزداد يقينا في ما ندعو اليه وانه حق مبين، نقترحه على أنفسنا وعلى
أمتنا وعلى الإنسانية لنصعد جميعا الى ذروة الكرامة الآدمية، إلى تحقيق معنى الاستخلاف رحمة عامة وعدلا شاملا حيث تتوفر به ومعه شروط الاختيار الإنساني الحر، و لا يساورنا شك انه بتوفرها لن يختار هذا الإنسان إلا أن يكون عبدا  لله اختيارا كما هو له عبد اضطرارا.

نعم هذا لا يخفى علينا وهو بوصلتنا الجماعية المنتظمة بهم مصيرنا الفردي عند الله على اي حال نلقاه جل وعلا، وعلى اي حال نلق الاحبة محمدا وصحبه ومن سبقنا من انبياء الله ورسل الله واهل الله.

وكيف نلق حبيبا دلنا على الله وعرفنا بالله؟ واكشتفنا بواسطته ومعه، عطاء من الكريم الوهاب، معنى المسؤولية التي ابت السموات والارضين أن يحملنها واشفقن منها.

 أنلقاه بالسكون في اركان بيوتنا خوفا من أن تدنسنا احوال البناء بفضلاتها او قهرا من غيرنا، او نلقاه ونحن نتنابز بالالقاب وكثرة القيل والقال، فنحرم في الدنيا من تأييد رب العزة ونصره الذي وعد به المؤمنين القائمين بنيانا مرصوصا، ونحرم في الآخرة من لذة النظر إلى وجهه الكريم والمجالسة على سرر متقابلين؟

رحلة العمر قصيرة نعم، لكن رحلة العمران طويلة. وكما يطوي سبحانه لمن شاء من عباده سلوكه القلبي اليه يطوي عز وجل طريق العمران لمن شاء من عباده.

وتدلل الأحداث والوقائع على أن  الحركة الإسلامية، وكذلك أبناء الحركة الإسلامية، ما لم تستف الصحبة امراضهم القلبية والنفسية والتنظيمية والحركية فلن يتخلصوا من الحبال والشراك الشيطانية الابليسية التي لا تعد أبوابها  ولا تحصى، ولن يعدوا أن يكونوا رقما من ارقام الوجود البشري حتى اذا اطلوا على مواقع الاختبار الحقيقية هوت بهم السفينة إلى قعر البحر لا قدر الله تعالى ولي المتقين وحبيب المحسنين.

الصحبة هي باب ومفتاح، وانه لا مشيخة بعد الامام المجدد رحمه الله عبد السلام ياسين لا في التربية ولا في الفكر ولا في الحركة ولا في التنظيم؛ وإنما صحبة وجماعة.

اما وقد استوت أرض الصحبة مع الامام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله وفتحت آفاق التجديد الشامل والعمران العظيم، فإن أعظم باب بقي للدخول على الله باب الجماعة والتفرغ الكلي لاستكمال بناء صروحها، جماعة الربانيين القائمين لله الدالين عليه على خطى المنهاج النبوي.

ومن لم يصبح همه الجامع بناء الجماعة ما ذاق طعم المنهاج ولا خطى سلوكا على خطواته.

 الجماعة كما كانت الصحبة هي المفتاح للدخول على بابها والعلم بها معنى ومبنى، فهذه الجماعة هي المفتاح العظيم عند استكمال شروط التربية للدخول على باب الصحبة والولوج إلى قلبها وكنزها الذي لا نهاية لعلومه ومعارفه وانواره.

وساعتها يتبين السالك على خطى المنهاج أنه لا نهاية للصحبة ولا نهاية لعلومها وما تورثه  للمستغرق فيها من انوار وأسرار المعرفة والعلم بالله تعالى؛ فلا تجده إلا متفرغا للعمران، قلبه وعقله هناك في مجالسة دائمة للصحابة مع رسول الله عليه صلاة الله وسلام الله تلمذة، واتباعا إذ تصبح جوارحه كلها فانية في خدمة المستضعفين على الأرض.

علم الجهاد وفقهه لا يلوذ به من لم تخرجه السابقة الإلهية عبر تجربته الشخصية موفقا بآداب المعاملة القلبية مع الله تعالى ومع المؤمنين، كل المؤمنين، والناس أجمعين تتويجا لرحلته الصادقة مع الجماعة تربية وتنظيما وزحفا.

هنا يكون السالك قد تأهل للدخول على قلب الصحبة وكنزها فيحتوش كرما من الله تعالى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من علم المنهاج النبوي؛ أي من كمال التطابق في اتباع سنة سيد الوجود الرحمة المهداة  والنعمة المزجاة عليه افضل الصلاة وازكى السلام و التحيات.

الجماعة حبل الله  الممدود من السماء إلى الأرض ليتشبت به المؤمنون والمسلمون والناس اجمعون ليحتموا من شراك إبليس وجبروت النفس وقبضة الطبع والهوى وطغيان الناس على الناس.

 كيف لا وقد فتلت هذا الحبل الصحبة وعمرته الصحبة وترعاه الصحبة الي يوم الدين حيث لا تحجبها برازخ الموت.

وانه لا جماعة من دون شورى ولا شورى من دون محبة خاصة وعامة وإلا كان الأمر زاوية وحياة من الدروشة والتبرك اوتنظيما من العادات أو تنظيما سياسيا وكفى.

الشورى حياة لا حدود لها لما تتخرج حركة الفرد والجماعة عبر رحلة الخصال العشر وشعب الإيمان للقيام للعمران العظيم.

واغلب الحركات الإسلامية ما تجاوزت مرحلة التأسيس و بعض امتدادها في الزمن لما لم تفلح في الانتقال الحكيم والكامل من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الشورى والرجولة، وهي مرحلة الأقران الذين من دون النواظم الثلاث لا تستقيم حركتهم الجماعية فيؤثر ذلك في امتداد الصحبة ومواقع رجالها الأحياء، وهو ما يكون مصدر إرباك وارتباك قد لا يدركه الكثير.

، الصحبة اصل حام للشورى لا نتيجة انتخابية ، لأن الصحبة هي اصل الجماعة الساري في كل تفاصيلها وحياتها،  ومصادرها واوعيتها قلوب لا يرتبط وجودهم وحركتهم بالمراتب الهيكلية بل بحياة المحبة والشورى الناظمة لحركة الخصال العشر في الواقع اليومي، إذ بالمحبة تمتد الصحبة.

الجماعة مفتاح الدخول على كنز الصحبة لتحويله إلى نظام عام في حياة الأمة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والمال  ونظام العلاقات الدولية.

فمن يحرص على صحبة دون وصال الجماعة لا ببني عمرانا، ومن بحرص على الهياكل والأنظمة دون وصال الصحبة وامتدادها إنما هو منشط مجتمعي لا اقل ولا أكثر مهما كانت ارادته في التغيير والإصلاح.
فمفتاح الجماعة أعظم مفتاح سلمه الامام عبد السلام ياسين للأجيال وهي أعظم أمانة في اعناق آل العدل والإحسان..

اللهم لا تحرمنا من فقه الجماعة والعلم بها معنى ومبنى يا ولي المتقين وحبيب المحسنين لا تجعل في قلوبنا إلا للذين آمنوا  اجعلنا رحمة لأنفسنا للعالمين.  آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه.

مبارك الموساوي

شرط الوعي التاريخي في البناء المستقبلي

شرط الوعي التاريخي في البناء المستقبلي
أو شرط الوعي التاريخي في بناء قواعد الحرية

.1.
من لا يملك الوعي التاريخي الضروري لا يمكنه بناء المستقبل على وضوح كاف، بل لن يستطيع اختراق الواقع المعيش فضلا عن فتح آفاقه المستقبلية.
مبارك الموساوي

وإذا كان الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، استطاع أن يؤسس لمفهوم مركزي في الباب بالنسبة لتاريخ المسلمين، هو مفهوم "الانكسار التاريخي" باعتباره أداة كلية لقراءة الماضي قراءة صحيحة والتمكن من نقده نقدا جذريا حتى تتمكن حركة الأمة من فتح آفاق تحررها المستقبلي والقيام بمهمتها التاريخية، فإن المطلوب ليس الوقوف عند هذا المستوى، بل ينبغي تتبع خطوات إعمال المفهوم عند الرجل في مستويين تفصيليين؛ الأول في نقد بنية الاستبداد القائم على درجة هائلة من التفصيل وتجليات ذلك في بناء الموقف السياسي ومراحل تفعيله قطريا ارتباطا بوعي تاريخي يعني الدائرة القطرية التي تتحرك فيها هذه البنية، والثاني في بناء خطوات الدورة التاريخية الجديدة؛ دورة الحرية الشاملة، ويتجلى ذلك في تفاصيل إعادة بناء أداة تنفيذ المشروع التحرري، مشروع العدل والإحسان، وهي الجماعة الجامعة وأدوات اشتغالها الميداني.

إن تكريس أي اختلال في إعادة بناء هذا التاريخ لن يكون إلا لحظة ضعف أمام كلية الاستبداد المتحركة دوما عبر منظومة متكاملة من أداوتها الفرعية المشتغلة على الاحتواء الدائم والضعف المستمر لقوى المجتمع العاملة على التحرر، وبلغة أكثر دقة إنه إعادة إنتاج تجليات الانكسار التاريخي مجددا في مستوى تفصلي دقيق يحتاج درجة حادة من الوعي الحامي من السقوط في فخ دينامية البنية الاستبدادية القادرة على التجدد المستمر نظرا لاستنادها على عمق تاريخي حتى وإن أفقدها الشرعية الوجودية لكونه مزور حقيقة، لكنه يملك القدرة على صناعة الوهم واستطاعة تسويقه على صورة مؤثرة في الوعي والفكر والنفس، ومن ثمة في البناء المجتمعي.

لذلك، فإن احتكار التاريخ والإعلام وسلطة القرار ومواقعه ومواقع صناعة وسائل التأثير فيه القانونية والتنظيمية يشكل أهم مواقع التدافع بين حركية بنية الاستبداد وحركية بنية الحرية.

وتجد هذه الأخيرة درجة كبيرة من العنت لأنها في نفس الوقت تشتغل على محوريين متوازيين؛ محور بنائها الجذري الجديد، ومحور مقاومتها لحركة البنية الاستبدادية المهيمنة على كل تفاصيل الحياة الناسجة لعلاقات أخطبوطية داخليا وخارجيا.

.2.
ما يهم هنا ليس البحث في العوائق الخارجية، إذ قُتلت بحثا ولم تعد تفاصيلها خافية على أحد في الغالب، لكن يجب أن ينكب البحث حول أساسات الدورة التاريخية الجديدة؛ دورة بنية التحرر والحرية في إطار تفعيل تفاصيل مشروع العدل والإحسان.

فليس بالضرورة من يملك أسلوبا سرديا يصير مؤرخا، ولا ناقدا تاريخيا، كما أن السياسي المحترف للسياسة، حتى وإن كان متحركا في سياق مشروع كبير، لن يكون محايدا في قراءة التاريخ الذي شارك فيه، لكن يجب، من باب المسؤولية الفكرية والأخلاقية والتاريخية، أن يقدم الحدث التاريخي بكل موضوعية حتى وإن لم يكن هو الذي شارك فيه أو صنعه وكان مختلفا مع صناعه، لأن الإصرار على احتكار التاريخ واحتكار الإعلام الذي يعرض الحدث التاريخي واحتكار المواقع التي تحدد فلسفة العرض وخلفية التفسير لا يصبح هذا هو التاريخ الجماعي، نسبة إلى مفهوم الجماعة، لأنه يحد مباشرة من المساهمة في بناء التاريخ الجماعي، أي تاريخ الأمة حيث يختصره في تاريخ الفئة أو الطائفة أو المذهب أو فهم معين لحركة الإسلام العامة، ذلك أن عظمة التاريخ الإسلامي تكمن في صناعه الأخفياء، ومنهم الكثير من البسطاء، إذ لا يمكن بناء تاريخ جديد دون إنصاف الجميع من خلال صناعة التاريخ الجماعي وعرضه عرضا إحسانيا.


وهنا تكمن الخطورة، لأن الاحتكار تأسيس لحتمية الانشطار، لذلك تقتضي المسؤولية التاريخية والأخلاقية الصمود الواضح أمام هذا الاختيار وتصحيحه بما يساهم في الحفاظ على البناء الجماعي، لأن قدر التفتيت التي تعيشه الأمة لن يواجه إلا بقدر الجمع لا بتكريس واقع التفتت والتمزق مهما كانت النية صادقة.

.3.
تقتضي عملية بناء الدورة التاريخية الجديدة، دورة الحرية، شرطا عده الإمام المجدد في كتاب "الإسلام غدا" شرطا في العضوية في الجماعة بمعناها النبوي، وهو شرط امتلاك "العقل الناقد"، ذلك أن البناء العمراني لن يكون بغير هذا العقل.

وهنا يقتضي المقام تركيز الحديث عن هذا العقل الضروري في عملية البناء التاريخية فضلا عن السياسية.


فالعقل الناقد متأسس على قيم نبوية عظيمة من حيث هو ترجمان عن القلب العامر بقيم المحبة والرفق والحلم والتواضع والخدمة والإرادة الحرة وجميع العزة، لأنه القلب الخاضع لجلال المولى، لذلك فلن يكون إلا حكيما في تفكيره منظما لحركة قاصدة في الواقع الخاص والعام.

فإذا كان العقل هو مناط التكليف بالأحكام العملية بالنسبة لعموم المسلمين، فإن القلب هو مناط التكليف بتكاليف الجهاد، فيكون العقل الصادر عنه المترجم للمعاني المستقر فيه هو مناط الاجتهاد بالنسبة للمؤمنين المجاهدين، لذلك فالتفكير الصادر عنه يكون حكيما منظما لكل عمليات العمران بناء وتنزيلا، وواعيا بكل مراحل البناء ومضامينها ومطالبها.

ولذلك فالعقل الناقد مخالف تماما للعقل التبريري، ولا يقبله أبدا، لأن هذا الأخير عبر صيرورة التبرير ومنطقها لا ينتج إلا التزوير، وهي قاعدة مقررة عند الإمام رحمه الله، مفادها أن هيمنة المنطق التبريري لا ينتج إلا التزوير.
ويتجلى ذلك في قضية التاريخ تأريخا وتفسيرا.


وبما أنه عقل نقدي واجتهادي فلا يقبل إلا أن يكون مبدعا، لذلك لا تنفصل حركته عن الحالة القلبية المتجلية في حسن الظن بالغير، ومنهم المؤمنون المجاهدون، لكن مع امتلاك حاسة اليقظة المستمرة المحافظة على وعيه الحاد في كل اللحظات حتى لا تسقط الحركة التي يرعاها ويرعى تأريخها وتاريخها في فخاخ خصومها.

فالعقل الناقد الصادر عن القلب الخاضع لجلال المولى الكريم، والعامل على صناعة تاريخ الأمة، يتصف بثلاث صفات عظيمة: فهو عقل جماعي لأنه لا يشتغل إلا في إطار معنى الجماعة القرآني النبوي، وعقل شوري لأنه لن يكون جماعيا إلا إذا كان شوريا، وهذا من أعظم مصادر قوته وعظمته، حيث لا يشتغل دون قيمة الشورى فيتجلى ذلك في آداب جمة معنوية وعملية سامية، وعقل إحساني بنظر الجمع بين مصير صاحبه عند الله تعالى ومصير أمته في التاريخ، فيختم كل حركاته التي لا تنقطع وكل دعائه الملحاح الذي لا ينقطع بالدعاء القرآني: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"، كما فسره الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، إذ حسنة الدنيا التمكين في الأرض وحسنة الآخرة الفوز بالنعيم والنظر إلى وجه الله تعالى الكريم.

مبارك الموساوي

نظرية البيان المرصوص في مشروع العدل والإحسان



نظرية البنيان المرصوص في حركة مشروع العدل والإحسان
-1- 


1.تمهيد في مستند نظرية البنيان المرصوص

تشكل نظرية البنيان المرصوص أداة علمية وعملية في نفس الآن لرعاية عمليات البناء الجهادي العمراني اقتحاما للعقبة، كما هي أداة كلية لتفسيره واستشراف مراحله ووسائله الهيكلية التنظيمية من خلال العلم الكامل بماهية المشروع وبمراحله البنائية والعمرانية.

لذلك توفر هذه النظرية كفاءة فكرية اجتهادية في تصور المهام البنائية ورسم وسائلها التنفيذية وتجاوز كل العوائق النظرية والعملية بما يضمن الفعالية في إنجاز أهداف المشروع وتحقيق مقاصده، لأن المستند العلمي لهذه النظرية يكمن في قواعد علم المنهاج النبوي الراجعة كلها إلى أصل "الصحبة والجماعة"، وتعتبر قاعدتها الذهبية أم قواعد علم المنهاج النبوي، وهي "أن في فهم ووعي وسلوك المؤمن لا ينفك ولا ينفصل مصيره الفردي عند الله تعالى عن مصير أمته التاريخي"، وهو ما يعني أن المستند العلمي غائي، أي متكئ على "علم الغاية".

كما تستند هذه النظرية على ما يتفرع عن هذه القاعدة الأم من قواعد؛ كقاعدة "لا جهاد إلا مع جماعة منظمة"، أي في تنظيم ينبغي أن يعكس مبناه معنى الجماعة المعنوي الجامع لمعاني الولاية الخاصة بين المؤمنين الفائضة على كل المسلمين والناس أجمعين من خلال معاني الولاية العامة بين المسلمين الظاهرة رحمة على العالمين والعاملة قصدا على تقويض كل معاني الاستكبار والاستضعاف في العلاقات بين الشعوب وبين الدول، كما تدلل هذه القاعدة على أن الجهاد العمراني يشترط تنظيم الجهود والحركة، وهو مقتضى نظرية البنيان المرصوص، لذلك نجد أن مفاهيم "القومة" و"الفتوة" و"الجندية" حاسمة في بناء السياق العملي لنظرية البنيان المرصوص وتحديد ذلك المقتضى، لأن هذه المفاهيم وأخواتها مرتبطة في معناها العملي بذمة الفرد المؤمن الصاعد إلى ذروة العقبة التي جعلت الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله يعطي معنى تجديديا للدعاء القرآني "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"، وذلك ضمن فقرة "أحب الأعمال إلى الله" التي جعل فيها رأس هذه الأعمال الخصال العشر بنظامها وتراتبها كما عرضه في كتاب "المنهاج النبوي" وكتاب "الإحسان" بجزئيه، قال رحمه الله: "في قوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين) وهم الذين إذا حكموا حكموا بالعدل، وحكموا باجتهاد، وحكموا بصواب، وحكموا حكما يكفل لهم ولعامة الناس وخاصتهم، لدنياهم وآخرتهم حسنة الدنيا وهي الاستخلاف والتمكين، وحسنة الآخرة وهي سكنى دار النعيم والنظر إلى وجه الله الكريم" الإحسان، ج2، ص: 108.

 فنلاحظ أن هذا الاجتهاد مكرس لذلك الجمع الاندماجي بين المصيرين الفردي والجماعي الذي لاشك ينعكس على تفاصيل البنيان المرصوص معنى ومبنى.

2.مراحل حركة نظرية البنيان المرصوص

تتحرك نظرية البنيان المرصوص عبر مرحلتين كبيرتين؛ مرحلة الإعداد الكبير، ومرحلة العمران الكبير، وبينهما مرحلة انتقالية لابد أن تملك هذه النظرية الكفاءة في استيعابها تصوريا وعلاجها عمليا.

دون أن نغفل أن نظرية البنيان المرصوص إنما هي فرع من فروع النظرية السياسية الكبرى، "نظرية الدعوة والدولة"، وتضاف إلى نظرية الميثاق وأخواتها لرسم الصورة الكاملة المتكاملة لحركة مشروع العدل والإحسان المؤطر عمليا بواسطة كلية "النظرية السياسية الكبرى" العاكسة والمجسدة جملة وتفصيلا لكلية "التربية" المجيبة عن سؤال كلية "الدعوة إلى الله تعالى" كما جددها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عبر تجديده لعلم المنهاج النبوي، والملخصة تلخيصا مركزا جامعا في شعبة "الدعوة إلى الله" السابعة السبعين في الخصلة العاشرة، خصلة الجهاد في كتاب "المنهاج النبوي؛ تربية وتنظيما وزحفا"، كما لها تلخيصا يحوي مضمونها العلمي ويعرض منهاجها العملي في فقرة "أحب الأعمال إلى الله" المشار إليها أعلاه، وهي أول فقرة في خصلة "العمل" الفصل الثامن من كتاب الإحسان.، قال رحمه الله: "ففي قراءتنا الإحسانية هذه لشعب الإيمان نجد أن أخص الأعمال وأكثرَها بُطونا في قلب العاملين، وهي أعمال القلب في حب الله ورسوله والتحاب في الله، تسيرُ خطا واحدا في طريق محابّ الله، في طريق الأعمال الأحب إليه سبحانه، في طريق الإحسان بكل معاني الإحسان، إلى أن تنتهي إلى أكثر الأعمال ظهورا، وأوسعها شمولا، وأبلغها أثرا في حياة الأمة، ألا وهي أعمال الجهاد وأعمال إقامة العدل، وهو الأمر الإلهي المكرَّرُ في القرآن، المقرَّرُ بمداد الكرامة وإمداد الولاية في قوله تعالى: ﴿إن الله يحب المقسطين﴾.
في مرحلة الإعداد الكبير تهيمن التربية على التنظيم حتى تكون النتيجة دعوية بالمعنى المنهاجي، وهي إشاعة معاني الرحمة والحكمة والقوة لا العنف، ويكون الهدف المباشر فيها بناء الجماعة، إذ باستمرارية هيمنة التربية على التنظيم يُحافظ على أساس البناء وجوهره ألا وهو محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين والخلق أجمعين حيث يكون المعيار الحب في الله والبغض في الله وحده معيار العلاقة ومنظار التواصل.

أما في مرحلة العمران الكبير فتهيمن الدعوة على الدولة وفق تفصيل هو من مهام النظرية السياسية الكبرى التي توفر الكفاءة لتمريض المراحل الانتقالية حتى تقويض الاستبداد وبناء نظام الحكم بالقسط، وهنا تتدخل "نظرية الميثاق" المستحضرة علميا وعمليا في المرحلة الأولى والممتدة كذلك في كل تفاصيل بناء المرحلة الثانية إذ هي الراعي الأول لعمليات تمريض المراحل الانتقالية.