في هذه الحلاقات ننشر بحول الله تعالى كتاب
"في فقه الدعوة إلى الله جل جلاله"
 الحلقة 3

وقبل الحديث عن منهاج اقتحام العقبة إلى الله تعالى نعرج على المعاني القرآنية النبوية المبرزة لما جعل الله تعالى الإنسان عليه من إكرام ونعم سبحانه وتعالى، وذلك لنفقه أن الدعوة إلى الله جل جلاله دائرة على أمر عظيم موضوعه هذا الإنسان صنع الله لتدله على الله، وكفى بها مهنة، وكفى بها مسؤولية.

1-التكريم والتسخير

كرم الله تعالى الإنسان وفضله على كثير من خلقه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )[الإسراء: الآية 70] . هذا التكريم الإلهي الذي بدأ بالاحتفال به عند خلقه أول مرة حيث أمر الله تعالى الملائكة بالسجود إليه فسجدوا وأبى إبليس وصار عدوا لهذا المخلوق المكرم من جناب الله تعالى، وأخبر سبحانه أن هذا المخلوق وضع فيه سبحانه من أسراره وكوامن علمه وعلمه الأسماء كلها وعرض ذلك على الملائكة:(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[البقرة: الآية 31-32].

يبرز معنى هذا التكريم في خضم الاختبار الدنيوي، حيث يغالب الإنسان غرائز الشر فيه وفي الواقع ليغلب الصفات الخلقية العظيمة الكامنة فيه فيتطهر ويتزكى فيباهي به الله الملائكة المعصومين المقربين الذين يفعلون ما يؤمرون (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[البقرة: الآية:30].

التكريم الإلهي ومعرفة الله تعالى بهذا المخلوق- الذي إذا أطاعه وتقرب إليه بما افترضه عليه وتطوع محبة فيه سبحانه تنعم عليه بلذة النظر إلى وجهه الكريم في الدنيا بعين القلب وفي الآخرة بعين الرأس- يجعل أهل الدعوة إلى الله جل جلاله على قدر كبير من المسؤولية حتى لا يحصل إخلال بتكريم مخلوق لله يريده أن يكون عبدا له وحده سبحانه. وبهذا كان تسخير الكون له موضع ابتلاء واختبار، وموضع توفير الشروط المطلوبة لتحقيق واقع العبودية له سبحانه.

وهذا التسخير الكوني يجعل من أمر الدعوة إلى الله لا يقتصر على المعنى الفردي، بل يضاعف من المسؤولية عليها حيث يجعلها أمام أمر عظيم؛ وهو الجواب عن سؤال: كيف يتم استثمار هذا العالم العجيب العظيم ليحصل التسخير وتعمر الدنيا أخوة إنسانية مساعدة على أن يعبر الإنسان الدنيا فائزا إلى الآخرة؟ أي إن الدعوة دوما أمام البحث عن نظام جماعي كوني إنساني جامع يسعى لتحقيق معنى التسخير الذي يسهم في أقتحام العقبة إلى الله دون السقوط في فخ إبليس الذي أقسم ليغوين الناس أجمعين إلا عباد الله المخلصين. ولهذا كان نظام الخلافة الإسلامية ضروريا، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد: الآية 25]. وقال سبحانه: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ ص الآية 26].

كرم الله تعالى الإنسان وسخر له الكون وأمر بأن يحكم فيه بالعدل والقسط وحرم في الظلم والفساد، كل ذلك ليحقق له ظروف العبور والعبودية والاستفامة.

2-النبوة والرسالة

بعث الله تعالى الأنبياء والرسل برسالة الإسلام الخالدة، ليدل الناس فرادا وأمما على الطريقة السليمة للحفاظ على التكريم الإلهي والتسخير الرباني.

وهو ما يفرض على أهل الدعوة إلى الله جل جلاله الحفاظ على صفاء ووضوح هذه الرسالة، أي لابد من الوراثة الكاملة لحقيقة هذه الرسالة بالاتباع الكامل لخاتم الأنبياء والرسل عليهم السلام. فهو تجديد وتجدد. ومن مكرمات الاتباع أن يعرف الإنسان كيف يستثمر الكون المسخر عبر الوحي.

وما ينبني على هذا أن يتحقق الدعاة علما وعملا من حقيقة النبوة وحقيقة الرسالة. هل السنة أخبار وكفى؟ وما علاقة السنة بشخصه صلى الله عليه وسلم؟ أرسالة الإسلام حدودا يقدف بها على رقاب الناس سيوفا تقطع الرؤس والأيدي؟ أما ماذا؟ أالرسالة فكرة هنا وهناك؟ أم ما هذا الفكر وتنزيل تلك الحدود والأحكام إلا بناء من بعد بناء الروح وصناعة الجسد؟

أي نظام يقترح الدعاة تكريما وتسخيرا للإنسانية على العالمين صناعة لواقع الاستقامة المطلوب توفيرا لشروط العبودية لله تعالى بقيام ركائز العدل والإحسان التي أقامها صلى الله عليه وسلم وعلمها الصحابة الكرام وجاهدوا وصبورا وصابروا لأجلها وضاعت من بعدهم لما ضيع الناس علمها الجامع وفقهها الراشد؟ (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)[مريم: الآية 59].

إن حقيقة النبوة هي مصدر معرفة معنى التسخير ومعنى الخلافة فيه. ولا مستقبل للدعوة ما لم تستطع أن تتحقق فيها معاني النبوة المنجمعة في القرآن الكريم التي تدلها على حقيقة الرسالة في الوجود، ومن مقتضياتها أن تكون عاملة في صف المستضعفين الجامعة لأمر الإنسانية على السعي الحثيث للخير العميم.

مبارك الموساوي