في تفكيك الاستبداد


في تفكيك الاستبداد

من البنية إلى السيرورة


1.شرط التفكيك.

لابد من الإلحاح على أن من شروط بناء سلوك المعارضة الحقيقية لأنظمة الاستبداد بكل أنواعها وصورها شرط امتلاك الكفاءة العلمية لأجل تفكيك بنية الاستبداد الداخلية في كل أبعادها، ذلك أن هذه الكفاءة تنتج كفاءة عملية في إنجاز البدائل الحقيقية.

لكن، وبعد هزات الربيع العربي..، وحيث حرصت بعض الأنظمة الاستبدادية الوراثية على طول الخريطة العربية على القيام بعمليات التفاف هائلة على مطالب الحرية موضوع هذا الربيع، أصبح من اللازم الجمع بين تفكيك واقع البنية الاستبدادية وبين سيرورة الاستبداد من حيث هو صيرورة متكاملة أدوات الاشتغال اليومي والاستراتيجي، ذلك أن لهذا الجمع فوائد جمة خادمة لمطلب الحرية.

2.تفكيك بنية الاستبداد وسيروته.

سيرورة الاستبداد هي تفاعله اليومي الممتد في التاريخ مع معطيات الواقع في الزمان والمكان يجعل له أفقا استراتيجيا بعيدا يتمثل في ضمان الاستمرارية في الحكم المطلق، وبنيته هي العلاقة بين كل مكوناته وأجزائه المعنوية والبشرية والمادية؛ بحيث تجعل منه جسما متكامل الأطراف المتكاملة الأدوار، له روح خاصة به؛ ذلك أن إغفال حركة أي مكون وموقعه في بنية الاستبداد وحركته يجعل عملية تفكيكه قاصرة وعاجزة عن كشف كنهه وطريقة اشتغاله، ومن ثمة لا توفر إمكانية عدم السقوط في شباكه، لأنها لا توفر البدائل الحقيقية لإعادة تركيب النظام السياسي المناسب لمطلب الحرية، وهو ما يؤدي حتما إلى دعوى الحفاظ على نفس النظام، وفي أحسن الأحوال إعادة تركيبه مع البحث عن تموقعات جديدة لنفس مكوناته الأساسية ضمن نفس البنية .

هنا يطرح سؤال البحث عن النظرة وموقعها اللذين يمكنان من تحقيق الإحاطة الشاملة والدقيقة بكل مكون من مكونات الاستبداد المتعددة وبحركتها ضمن سيرورة هذا الاستبداد في الزمان والمكان؛ ولذلك هناك فرق بين من ينظر إلى الاستبداد من تحت قبضته المطلقة، أي بالتسليم بالاشتغال السياسي والمجتمعي من خلال قواعد اللعبة النظامية السائدة، وبين من يتحرك في الواقع المشترك من خارج قواعد اللعبة القائمة عبر التأسيس السياسي والمجتمعي للتحرك وفق قواعد الحرية بتحررها من هيمنة اللعبة السائدة.

لذلك، فالاشتغال من تحت قبضة القواعد النظامية السائدة لا يورث إلا عقلية إصلاحية ونفسية إصلاحية وإرادة إصلاحية جزئية لا تتجاوز منطق المحافظة على أصول الواقع السياسي كما هي وإن اقتضى الحال إصلاح عطبها فليكن ذلك. وهو ما يورث واقعا صراعيا وهميا بين مكونات وأطراف اللعبة السياسية الرسمية حتى يوهم العموم بأننا أمام عملية سياسية جدية، وهو خلاف الحقيقة.

أما الاشتغال بحرية من خارج قواعد اللعبة السياسية الرسمية القائمة، وإن كانت معه معانات ومضايقات شديدة ومؤلمة حسا ومعنى قد تظهر كأنها عزلة سياسية ومجتمعية في لحظة ما، فيحقق امتلاك عقلية وإرادة التغيير الجذري مع الوعي الدقيق متى تكون أية عملية كلية أو جزئية ذات صبغة إصلاحية خادمة بالكل لعملية التغيير الجذري. وهنا تكمن ضرورة تحمل مسؤولية الحفاظ على موقع وبوصلة التغيير الجذري بما هو المدخل للحرية الحقيقية للمجتمع والإنسان.

وما ينتجه الاشتغال من خلال قبضة القواعد النظامية السائدة عدم الوعي بأهمية سيورة الاستبداد في تكريس قواعده وتدمير القوة المجتمعية، لأن هذا الموقع في الاشتغال لا يسمح البتة بالإحاطة ببنية الاستبداد كما هي وكما تتحرك في الواقع حقيقة وتفصيلا، في حين يورث الاشتغال من خارج قواعد اللعبة امتلاك الصورة الحقيقية لهذه البنية ولسيورتها في الواقع العام على مستوى عال من الدقة والتفصيل، وهو ما يوفر معطيات هامة عند التفكير في بناء الموقع والموقف السياسيين.

لذلك في الغالب ما يصاب المفكر السياسي غير المتحرر وغير المتخلص بشكل نهائي من قبضة قواعد اللعبة السياسية السائدة، وهو حال جل مفكرينا، بالانحباس على مستوى أنظمة التفكير فيصبح عاجزا عن إنتاج فكر سياسي يمكن من فتح مستقبل وآفاق الحرية الحقيقية علميا وعمليا للجميع.

3.ما بين الكل والجزء في تفكيك بنية الاستبداد.

هناك معضلة كبيرة هيمنت على التفكير السياسي عند مفكرينا لم تسمح لهم بالخروج من واقع الانحباس مهما كانت غزارة المنتوج الفكري لديهم، وهي نتيجة طبيعية لعدم التحرر الكامل من قبضة قواعد اللعبة السائدة عند التفكير أو العمل.

إنها معضلة مزاولة عملية نقد جزئيات بنية الاستبداد وحركته في الواقع العام بحيث يتم بناء الموقف الفكري السياسي الحركي من خلال ما توفره الإحاطة بالجزئية الاستبدادية من معلومة ومعرفة؛ مما يجعل العقل المفكر متحركا ضمن متاهة ما توفره الجزئيات من تفاصيل دون الوصول إلى ماهية كلية الاستبداد، وهي نتيجة طبيعية لعدم قدرة التفكير من خلال قبضة القواعد السائدة على الانتباه إلى أهمية الوعي بخطورة سيرورة الاستبداد في الواقع العام والخاص.

أما الاشتغال من خارج قواعد اللعبة السائدة لأجل تفكيك بنية الاستبداد فإنه يوفر القدرة على الإحاطة بكلية الاستبداد كما هي طبيعتها، ومن ثمة المرور إلى نقد جزئياته لا على أساس أن الجزئيات هي من كون الكل؛ بل على أساس أن الكل الاستبدادي هو ما أنتج جزئياته التفصيلية المتعددة، وهو ما يفضي إلى التحكم فيها حيث تم الدخول من خلال نقد وتفكيك الكلية وإلحاق جزئياتها بها بكل سهولة ومرونة ووعي، وهكذا تتقدم حركة القوة المجتمعية للتغيير على وضوح تام ووعي كامل بخلاف حركة الإصلاح الجزئي فإنها تعيش دوما الإرباك الشديد ولا تفلح أبدا في مسعاها لأن تحرك الاستبداد من خلال كلياته ليبني جزئياته يجعل من حركة الإصلاح جزئية ملحقة بكليته فتصبح من ماهيته، وهو واقع الإصلاح في المغرب الحديث.

لذلك نكرر دوما أنه لا يمكن مواجهة كليات الاستبداد التي تبني جزئياته وفق سيرورة دقيقة إلا من خلال تحريك كامل لكيات الحرية التي تبني جزئايتها على أرض الواقع لبنة لبنة مع الوعي الدقيق بحجم الثمن وبطبيعة التدافع ومستقبله بين كليات الاستبداد بكل صوره وأصنافه وبين كليات الحرية.

وهكذا فإن تشكيل المعارضة من خارج قواعد اللعبة لتشتغل من خلال كلياتها فتبني جزئياتها لا يشبه البتة نمط تشكل وبناء المعارضة من داخل قواعد اللعبة النظامية. ويتجلى هذا الفرق الجوهري، مثلا، في مسألة تأسيس حزب سياسي ليمثل المعارضة من خارج قواعد اللعبة أو ليمثلها من داخلها.

كما يتجلى في الفرق بين طلب توفير هامش الحرية لاستيعاب قوى التغيير الجذري، وبين زحف قوى التغيير لبناء فضاء الحرية عبر حركة تقويض جزئيات الاستبداد التي تم العلم بها من خلال التدافع مع كلياته حتى نهايتها وزوالها.

ولاشك أن هذه الفروق وأخواتها تدلل على أن نظام التفكير السياسي يجب أن يشتغل من خلال الكل لا من خلال الجزء للحفاظ على استراتيجة التفكير ووضوحه بحيث تجعل كل جزئية في مكانها المناسب ووقتها المناسب، كما يحصل العلم بكليات الاستبداد وهدمها من خلال تفكيك جزئياتها الميدانية ومن ثمة شل سيرورة الاستبداد.

وبهذا نحصل مايلي:

-بناء الاستراتيجة السياسية من خلال العلم بكليات الحرية الحقيقية.

-تقويض كليات الاستبداد من خلال بناء جزئيات الحرية ميدانيا بتفكيك جزئيات الاستبداد المحددة من خلال كلياته حيث الاستبداد كلية تبني جزئياتها.

فليست جزئيات الاستبداد هي التي بنته، وإنما حين يصبح واقعا في النفس والفكر والحركة تكون التغذية الراجعة فيحصل وهم أن الجزئيات هي التي تبني الكليات، ولذلك تبنى استراتجيات فكرية وسياسية وحركية على هذه القاعدة الخاطئة فلا تنتج مسارا ناجحا، بل قد تجعل حركة كليات الاستبداد هذه الاستراتيجيات جزءا منها.

-لا تتحقق الحرية من خلال الاشتغال من داخل حركة قواعد وجزئيات الاستبداد، بل من خلال حركة كليات الحرية التي تبني جزئياتها من خلال تدافع واضح مع كليات وجزئيات الاستبداد، وهو ما يتطلب أنظمة تفكير سياسي جديدة تنتج فكرا وفقها سياسيين جديدين لا يقفان عند سقف مرحلة المعارضة؛ بل يتجاوزا ذلك بشكل مطلق إلى ما بعد بناء واقع الحرية الحقيقية وإنتاج حركة المجتمع والدولة والإنسان، وهو ما يعني أن هذا النمط من التفكير لا يستحضر الاستبداد وقواعده إلا من حيث هو معطى موضوعي يجب تجاوزه والقطع معه جملة وتفصيلا لا من حيث هو جزء في التفكير، وهذا فرق بين أنظمة التفكير الإصلاحية والثورية وبين أنظمة التفكير التغييرية.
-إن التفكير من خلال كليات الحرية يؤسس لبناء قوة مجتمعية تغييرية كلية، أما التفكير من خلال الجزئيات فينتج حركة مبعثرة عبارة عن فسيفساء مجتمعية قد يتوهم البعض أنها قوة مجتمعية وما هي إلا صورة من صور التدمير المجتمعي الذي يصنعه الاستبداد التقليدي أو الناعم في المجتمعات.