التفكير المنهاجي أو الحكمة في زمن الفتنة(3)
الفهرس
تذكير
1. تفكير غائي
2. تفكير بنائي
3. تفكير جامع
4. تفكير مبدع
5. تفكير ناقد
تذكير
بعد بيان أن قاعدة التفكير المنهاجي هي التفكر القلبي، وبعد بيان أن أصله الكلي هو الوحي ولاشيء غير الوحي، وبعد بيان معنى أنه حكيم حيث يجمع بما يحقق الموافقة بين المقاصد الثلاثة: قصد الله تعالى من كونه، وقصده سبحانه من شرعه، وقصد المكلف حين تحصل له الاستقامة، فتصبح بذلك حركة الفكر على توازن كبير ولها تجليات عظمى على أرض الواقع، كما أنه حكيم لأنه يكشف مدى الخطورة التي تهدد الإنسان فردا وجماعة حين يصر، بوعي أو بغير وعي، على تبني القصود الفاسدة مما يدلل على مدى الوعي الإيجابي بالسنن الكونية والبشرية وإحقاق قواعد كبرى في نظام العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان وبينه وبين الكون ومكوناته الطبيعية، بعد كل هذا نقترب أكثر من الجانب العملي فنشير من خلال معنى الحكمة العام المقرر إلى أهم خصائص التفكير المنهاجي التي لها معنى مباشرا في عملية الإنجاز الواقعي.
فالتفكير المنهاجي يأخذ هذه الصفة لأنه:
1. تفكير غائي
نعم، ستأتي فقرة خاصة بالحديث عن غاية التفكير المنهاجي، لكن هنا نريد أن نكشف عن مصدر غائيته ومعناها، إذ هذا ما يعطيه عمقا كبيرا، بل هو مصدر شحنته العلمية والمعرفية والاقتراحية والحركية والإنجازية الإجرائية.
فمن المقرر الذي يغفله كثير من الناس أنه لا عبث في كون الله تعالى. قال الله جل في علاه: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ ، وقال سبحانه: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ . وقال سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ وقال جل وعلا: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ .
فباعتبار أنه لا عبث في خلق الله تعالى، وأن الإنسان لم يخلق سدى، وتقرير أن الرجوع إلى الله تعالى حقيقة مطلقة مع بيان أن ما بين السماوات والأرض ما كان عبثا، تنطلق عملية التفكير المنهاجي بمعيار غائي، وعدم فهم هذه الغائية لدى كثير من الناس ولدى كثير من العاملين في حقل الدعوة والحركة الإسلامية جعلهم لا يميزون بينها وبين "الطوباوية" والمطلق كما وردت دلالتهما في المدرسة الغربية.
فغائية التفكير المنهاجي تعطي قوة عظيمة لعملية التفكير حيث تخترق كل الحجب لتقف بالإنسان وحركته، في كل أبعادها وتفاصيلها الدقيقة، على موقف عظيم مقتضاه أن الوجود الإنساني مهما كان شأنه فهو منخرط ضمن عملية غائية لها معنى كبير دائر على معاني العبودية لله تعالى والرجوع إليه طوعا أو كرها حيث الإنسان عبد لله في جميع الأحوال وراجع إليه طوعا أو كرها، وبذلك تحصل ربانية التفكير المنهاجي وأصالته لأنها تجعل أفق حركة الإنسان بكل مستوياتها صادرا ابتداء عن كونه موضوع عملية التفكير ومحورها وانتهاء بالجواب عن الغاية من هذه الحركة برمتها وعن معنى وجوده.
فبهذا المعنى الغائي الذي يعمر عملية التفكير المنهاجي تُقيَّم وتُقوم كل حركات الفكر وما تنجزه على أرض الواقع؛ ولذلك كانت الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها أخذ بها بمعيار إيمانه لا بأي معيار آخر، بحيث تندرج هذه الحكمة، بناء على المعيار الغائي، في صيرورة إنجاز واقع العبودية لله تعالى وعملية الرجوع إليه سبحانه الحاصلة في جميع الأحوال.
وهو ما يعني أن الحركة الإسلامية ليست معملا لإنتاج المفاهيم الفارغة واكتشاف أدوات عمل عاجزة عن استيعاب الحقائق الجوهرية للإنسان ومعنى وجوده وتفاصيل حركته الكونية من الدنيا إلى الآخرة، كما هو الشأن في باقي المدارس الفكرية والحركية، بقدر ما يكون هذا المعيار الغائي لديها هو ما يقدر مدى الحاجة إلى أي مفهوم أو دلالة أو وسيلة، وإبداع كل ذلك وصياغته ليصبح معنى عمليا واقعيا خادما لغاية العبودية ومنسجم مع حقيقة الرجوع القائمة.
فإذا نظرنا إلى السيرة النبوية المطهرة العطرة في تفاصيلها سنكتشف أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان مقتصدا في كل شيء، إذ لا يصدر منه وعنه، صلوات الله عليه وسلامه، إلا ما يكون خادما لهذه الغاية، ومنه تعلم الصحابة الكرام ذلك ومنه أخذه كبار الأمة من الأولياء والأتقياء، وعليه ينبغي أن تَسير وتُسير الحياة العامة للأمة.
ولذلك كان المؤمن وأمة المسلمين أمة مقتصدة وقاصدة، إذ لكل حركاتها وسكناتها غاية واحدة جامعة ولما فرطت في معنى القصد الغائي والحركة القاصدة ذات الغاية الناظمة للفهم والفكر والعمل شُلت حركتها التاريخية وضاعت وظيفتها الإنسانية.
ومن هذا المنطلق لن تكون الحركة الإسلامية المعاصرة حركة مغيرة وبانية، أي حركة جوهرية تاريخية غائية، إلا إذا توفرت على هذا الوعي الغائي الذي يجمع شملها ويوجه حركتها ويجعلها حركة في صلب التاريخ الإنساني لتحدث تحولا جوهريا في مسار الإنسانية، لأن جوهر الوعي الغائي هو الوعي الأسمى الدائر جملة على معاني التوحيد والعبودية والاستخلاف الذي تجمعه كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين تعمر حقائقها القلب.
إن غائية التفكير المنهاجي عنصر قوة ناظم ومنظم لكل تفاصيل الحركة العملية، وقبل ذلك لكل تفاصيل القومة العلمية التي هي إمام القومة العملية للأمة ورجالها الصادقين.
2. تفكير بنائي
ولذلك لايكون التفكير المنهاجي إلا تفكيرا بنائيا بحيث لن تصدر عنه أية عملية خارج منطق البناء وصيرورته وسيرورته. فهو نظام قائم على وظيفة البناء العلمي والعملي، إذ لا ينجز حركات في الفراغ والخيال المجاني، لكنه منفتح بوعي تجديدي اجتهادي مستمر ودائم على المطلوب عمليا، لأن منجزاته العلمية والعملية لبنة فوق لبنة ومرحلة بعد مرحلة حيث تبني الآخرة المعاد على عمل الدنيا، والوعي بمعنى الآخرة يرجع على الدنيا فينظمها وينتظمها وفق وعي غائي متكامل ومتراص.
فإخباره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه اللبنة التي تخص صرح النبوة، يعني أنه كمالها وجمالها صلوات الله عليه وسلامه وجوهرها. واللبنة هنا دلالة على البناء الرباني الذي يشكل صلب الوجود البشري والكوني.
وهو ما نستشفه، كذلك، من السرد القرآني لقصص الأنبياء، إذ لا يقدم القرآن الكريم إلا ما وراءه فائدة علمية عملية في الآن نفسه. ومن هذا المنطلق يتعارض التفكير المنهاجي مع واقع الترف الفكري والحركي المذموم في القرآن الكريم المرتبط بفئة منحرفة عاملة على الصد عن الله تعالى والإفساد والفساد في الكون. ومن هنا كان الترف من أخطر مظاهر انحراف الحركة الإسلامية سواء من حيث أشخاصها أو فعالياتها الفكرية والثقافية والحركية السياسية والمجتمعية.
وهو ما نستشفه، كذلك، من السرد القرآني لقصص الأنبياء، إذ لا يقدم القرآن الكريم إلا ما وراءه فائدة علمية عملية في الآن نفسه. ومن هذا المنطلق يتعارض التفكير المنهاجي مع واقع الترف الفكري والحركي المذموم في القرآن الكريم المرتبط بفئة منحرفة عاملة على الصد عن الله تعالى والإفساد والفساد في الكون. ومن هنا كان الترف من أخطر مظاهر انحراف الحركة الإسلامية سواء من حيث أشخاصها أو فعالياتها الفكرية والثقافية والحركية السياسية والمجتمعية.
ولذلك كان من خصائص التفكير المنهاجي، بما هو بنائي، أنه لا يحتوي على أية مساحة فارغة ولا يصنع فكرا فارغا، وليست فيه أية هوة بين العلم والعمل، وفي نفس الوقت العلم إمام العمل، والسر في ذلك أنه مبني على قاعدة التفكر القلبي الدائم الذي يفضي إلى النتائج العملية مباشرة من خلال استقرار معنى الوحي وحقائقه في القلب. فهو نور عام مشع على الخارج عبر مشكاة جسم متحرك إيجابيا لما صارت مضغته صالحة حيث احتوشها الوحي واحتوشته.
3. تفكير جامع
ولذلك لايكون التفكير المنهاجي إلا جامعا منجمعا لا مجال فيه لأي نوع من البعثرة والغموض والالتباس والقصور.
فهو جامع لكل الشمل إذ يكون منفتحا على كل فعاليات الأمة وطاقاتها ويوظفها بحكم قصديته في المكان المناسب وفق حركة دائبة بانية، ومنجمع لأنه لايترك أي مجال للترهل والعجز والكسل والخبية والغفلة والشح والنفاق، ولايسمح بالاختراق الأصولي مفاهيميا ودلاليا وحركيا، ويتوفر على القدرة الكبيرة على الاستيعاب والتفهم، وهذا من مصادر قوته ووضوحه من حيث الاقتراح ومن حيث البناء والنظام، ولذلك من لم يدخل من الباب السالم لامتلاك التفكير والفكر المنهاجيين إما أن يكون عاجزا عن العمل المتكامل ومتشنجا عند مواجهة الصعاب والمنعرجات الخطيرة في السير الفردي والجماعي، أو يضطر إلى الهروب، بوعي أو بغير وعي، ليوظف مفاهيم ودلالات مرجعية خارج نظامه ومنظومته كما هو الحال عند النخبة المغربة وكثير من العاملين في حقل الدعوة والحركة الإسلامية.
ولنتذكر هنا قولة ربعي بن عامر رضي الله عنه في الباب على بساط رستم: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الإسلام.
وسعة الإسلام في رحمته وعدله؛ فجمعت هذه القولة بوضوح تام بين الموقف السياسي الحركي والنظام المجتمعي، وجمعت في وعي دقيق وشامل وجامع بين المصير الأخروي للفرد والمصير التاريخي للأمة والإنسانية وبينت الأصل في كل ذلك والغاية منه، وهو مايكشف عن نمط تفكير بنائي واع بمهمته ووظيفته في أدق تفاصيلها وأهم مراحلها وحقيقة ثمنها.
فكانت بساطة عمل وعمق التجربة قوة ضاربة أمام ترف حضارة بكاملها عجزت تماما عن دحض عمل رجل بسيط المظهر لكنه قوي الموقف وواضح الرسالة وعالم تمام العلم بالمطلوب منه ومن أمته. وهناك فرق بين خيار البساطة في المظهر والعمق في الموقف والقوة في تنفيذه وبين لبس المرقع في الفكر والمظهر والترهل في الممارسة.
4. تفكير مبدع
إن التفكير الذي يتقعد على معاني الوحي العظيمة ومنفتح على أفق غائي وظيفي رسالي كبير بوضوح وصدق جليلين لايمكن إلا أن يكون مبدعا في اكتشاف الوسائل، ذلك أن إعماره بالرفق والرحمة واللين والقوة والشجاعة والبذل والعطاء وفر له الكفاءة الهائلة على الإبداع، ومن ثمة لما لا تتوفر الحركة الإسلامية على هذه الخصائص منجمعة ومجتمعة تقع في شَركين منفردين أو مجتمعين:
الأول: أن الإبداع عندها يصير ابتداعا وبدعة فتدخل عملية التفكير في نفق القزمية والسطحية وسجن الفقه المنحبس، وتنتج فكرا ضيقا ومتشنجا وتجزيئيا ما هو إلا ردة فعل عند الجواب عن قضايا الواقع والمستقبل ورجع صدى ماض تليد صنعه رجاله العظام.
الثاني: ترك الحبل على الغارب فتضيع الحدود والقيم الإسلامية العظيمة فيترهل الفكر والحركة ويتنحى عمليا إلى الهامش بعد حماسة التأسيس ومراهقة الأداء وهو ما عانت منه وتعاني كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة.
وفي كلتا الحالتين انحراف ذات اليمين أو ذات الشمال، وهو أخطر مظاهر انحراف الحركة عن جادة صوابها.
إن التفكير المنهاجي تفكير مبدع على أحسن صور الإبداع المتزن والمتوازن لتحصيله الوضوح التام من حيث أصوله ومنطلقاته وغاية حركته وأهداف ومقاصد إنجازاته والوسائل الكلية في ذلك. ومن ثمة، فمهما كانت العقبات والصعاب لا تعوزه الحلول الناجعة وإبداع وسائل إنجازها بمنطق بنائي اقتحامي لا انهزامي تراجعي. وهي الروح التي نلمسها من خلال عمليات الصحابة الكرام عند التصدي لقضايا الحياة سواء الفردية أو المتعلقة بالشأن العام.
5. تفكير ناقد
من شروط العضوية في جماعة المؤمنين امتلاك العقل الناقد، أو التفكير الناقد، لكن ينبغي فهم معنى النقد هنا إذ يتجاوز المعنى المستورد وكذلك السائد في خطاب اليوم الإعلامي والسياسي الذي يعني احتراف احتلال مواقع تتبع الزلات والهفوات حيث هذا الاحتراف يصيرها هي الكل والأصل في الفكر والممارسة كما يصير عملية النقد نفسها عقبة كأداء ومعقدة لأنها تجمع في هذه الحالة بين الحركي والفكري والنفسي والشخصي بصورة مركبة ومربكة، ولكن الفكر الناقد عملية دقيقة تمكن من سبر أغوار جواهر الفعل والممارسة معنوية كانت أو مادية، وتقيمها وتقومها بناء على مضمونها الأصلي الذي هو المعيار مع توظيف كل ملكات الحكمة اللازمة.
فكما أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة في أدبيات أهل الله تعالى، فكذلك النقد القزمي الذي يضيع وقت صاحبه في تتبع الزلات يصيره كبيرة في حق حركة الأمة التي تريد الكشف عن معاقل قوتها ومصادر عزتها من خلال إعمال قوة العقل الراجعة إلى قوة البصيرة والعزم والإرادة الحرة.
فالتفكير الناقد صناعة للفكر النقدي الذي يعني الوعي الكامل بمواطن القوة وتوظيفها ومواطن الخلل وتفاديها بوعي استراتيجي مما يمكن من إدراك قيمة الخطأ.
إن الوعي بحقيقة الخطأ وقيمته ضمن صيرورة الوعي بقيمة مشروع الأمة الحقيقي عنصر قوة، وهو القيمة النقدية التي تنبني على عمليتين:
الأولى: الكفاءة في التحليل الناجع للواقع واكتشاف مصادر قوته وعناصر ضعفه ومواضعها وكشف كل ذلك.
الثانية: الكفاءة في إعادة التركيب الناجع بوعي غائي بنائي جامع ومبدع وفق خركة مشروع الأمة الأصلي والمتكامل.
وهكذا تكون عملية النقد وظيفة كبرى وعظيمة ضمن كفاءة العمل وجدواه والانخراط فيه جملة وتفصيلا. لأن في حياة الجهاد لا يكون النقد إلا من مواقع الجهاد والعمل بروح جماعية متفانية لامكان فيها للاعتبارات الشخصانية أيا كانت قيمتها على قاعدة الميزان العمري الخالد: الغناء في الإسلام، والحظ من الله، والبلاء في خدمة دين الله وخلق الله، ومن مقتضيات هذا التمكن من صفة التواضع الدائم. ومَن مِن على أريكة راحة الجسد والنفس يتلكم وينتقد إنما يغرد خارج السرب بوعي أو بغير وعي، لأن حلاوة الكلمة وطلاوتها تكون ذات مغزى ومعنى مباشرا على العمل حين تصدر من موقع المعاناة الحقيقية من مواطن الرباط والصبر والمصابرة والجهاد. وهو مجرب ولا يحتاج إلى برهان، لذلك لما كان كثير من العلماء يخاطبون واقع ألأمة وشبابها من أريكة الترف والبذخ والقرب من السلطان والسكوت غير الحيكم عن مدى الظلم الذي آذى الأمة كان كلامهم صيخات فراغات. فمن مواقع الجهاد ومواطن الرباط يخاطب ويصنع التفيكر والفكر المنهاجيين.
قال الله تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.﴾
بقلم الكاتب و الباحث مبارك الموساوي