في فقه الجماعة في مشروع العدل والإحسان _الحلقة 2_
3- مطلب وصال الصحبة والجماعة وأهمية النواظم الثلاث.
إذا كانت حياة القلوب هي ما ينقل حياة المجتمع من صراع
وعنف إلى محبة ورحمة وتعاطف وتواد وبذل وعطاء، وإذا كانت وراثة الصحبة امتدادا على
مر الأجيال هي عين الرحمة التي تملأ كيان المجتمع فتحول وجهته إلى أفق الجهاد
والحياة السعيدة الكريمة، هنا تكون القضية الكبرى في عملية التجديد الشامل دائرة ومتوقفة
على تحقيق أمرين:
الأول: وجود الصحبة الكاملة، وهي قائمة على مر الأجيال
لاشك.
والثاني: تحقيق الوصال بين الصحبة والجماعة بما يضمن
امتداد تلك الحياة في المستقبل زمانا ومكانا، علما أنه لا جماعة من دون صحبة،
لأن الجماعة مكون ثان يلتف ابتداء حول رجل
أهله الله تعالى للتجديد بناء على حديث بعثة المجدد، ذلك أن مصدر لحمة الجماعة،
بما هي محبة ورحمة وقوة، هي الصحبة، ومن ثمة إذا اختلت علاقة الجماعة بالصحبة تصبح
الجماعة تكتلا بشريا قد يكون مقتنعا ببعض الأفكار الإسلامية في التربية والحركة
والسياسة وهكذا، وفرق كبير بين معنى الجماعة الأول وبين تكتل بشري مهما كانت
مرجعيته إسلامية، ومهما كان عدده.
كما أن الجماعة من دون صحبة تجعل منها إما واقعا تنظيميا
ساكنا ما هو إلا حركة أفكار أو متساكنا ومتصالحا مع واقع يجب تغييره، أو عنفا
مطلقا على واقع مرفوض، وبهذا تصبح حركة الجماعة رقما من الأرقام أو رفضا عابرا ماهو
إلا ردة فعل. وكذلك صحبة من دون جماعة لا تعدو حركة فرد أو سكون دروشة وحركة
إشراقات وعلاقة محكومة بعلاقة المريد بشيخه.
ولذلك لا ننسى أن المحبة وحدها غير كافية وإن كانت هي
الأساس. هنا يتدخل الجانب التنظيمي التدبيري الجهادي، لأنه لا جهاد إلا بجماعة
منظمة، فينتبه الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين إلى أهمية التكامل بين ثلاث نواظم
تجعل من التنظيم، الذي يجب أن يعكس قيم الجماعة في مرحلته الحركية، قوة حركية
بانية؛ يقول: " المحبة في الله في نظرنا لحم الجسد ودمه. وهو بها وحدها جسم رخو
لا يقوم لجهاد. والهيكل العظمي هو التناصح والتشاور لما فيهما من صلابة في الحق
تشبه صلابة العظم في الجسم. والتناصح والتشاور بلا محبة تغطي العيب، وتتجاوز عن
الهفوة، فقعقعة آراء، وأنانيات، وتأجيج خلاف (المنهاج النبوي: 71). هنا يكون أصل
الشورى قاعدة الجهاد والبناء وحماية عظمى لحركة الجماعة من التقوقع وتعميق الخلاف؛
يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين:"الحضارة الأخوية ومجتمع الرحمة
المنشودان عمادها على صعيد القلب حب الله ورسوله والمؤمنين، وعمادهما على صعيد
الفكر والفهم والرأي والسياسة الشورى.
كان أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليف
جماعة المؤمنين من المهاجرين والأنصار أن آخى بينهم. عقد الأخوة الثنائية عقد خاص
لصحبة خاصة داخل العقد الأخوي العام. ويمن الله تعالى على نبيه فيقول له: (هو الذي
أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم. لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين
قلوبهم ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم). (سورة الأنفال، الآيتان: 62-63) لكن
هذه الألفة القلبية، وهذه المحبة الأخوية، عنصر واحد من عناصر الجمع الثلاث. وما
حققه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام من جلائل الأعمال الجهادية ما كان
ليتم لو بقي الأمر عند الألفة والمحبة، بل كان المربي المعصوم صلى الله عليه وسلم
معا الصاحب المحبوب والقائد المطاع، وكان بين المحبة والطاعة مجال فسيح للتفاهم
الفكري وتبادل الرأي والتشاور. (المنهاج النبوي: 83)
وما ينبغي التركيز عليه هنا أن الشورى، وهي أصل إنجاز وظيفتي
العدل والإحسان، ليست لعبة انتخابات تقرب القريب والشبيه في الرأي وتبعد المخالف
وتقصي المعارض وتهمشه، بل هي عملية قائمة على المحبة وموصلة لخيار الطاعة الجهادية
بما هي أهم أداة في اكتشاف عوامل القوة وتنوع الاجتهاد وبناء وحدة القوة وقوة
الوحدة، حيث بغير الشورى تتفعل آلية الانتخاب السلبي المشار إليه، وهو أهم أداة
استراتيجية في إفراغ التنظيم من عناصر التفاعل والتنوع والتكامل نتيجتها الحتمية
الانشقاق العمودي بعد الترهل الأفقي، حيث يصبح التنظيم لايعكس قيم الجماعة النبوية
وتصير مؤسساته نمطية تتآكل مع مرور الزمن.
إن اجتماع النواظم الثلاث: المحبة، النصيحة والشورى،
الطاعة، يعطي فعالية قصوى في الإبداع والتحرك المتوازن. ولكن هذه الفعالية تحصل
حينما يتم إحكام الأصل الأصيل هو: الصحبة والجماعة.
ومن هنا تطرح قضية شائكة في بناء جماعة المسلمين، هي
العلاقة بين شطري هذه الخصلة: الصحبة والجماعة، سواء من جهة البناء ابتداء، أو من
جهة وجود المصحوب من جهة ووجود جماعة أو جماعات منظمة من جهة ثانية. وهو ما
سنعالجه إن شاء الله في الحلقة القادمة.