سلسلة فقه الجماعة في مشروع العدل
والإحسان _الحلقة 1_
أعرض بإذن الله تعالى هذا
الموضوع للنقاش والمدارسة وتطوير الفهم عبر حلقات لارتباطه بمستقبل أمة رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل وبمصير الفرد عند الله تعالى وبمصير بناء القوة
المجتمعية المؤهلة لإنجاز التغيير الجذري. والله وحده المستعان
1.لماذا فقه الجماعة الآن.
لاشك أن مشروع العدل والإحسان
كما عرضه الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين سيحتل مساحات متقدمة مرحلة مرحلة؛ سواء
في واقع الناس أو في مجالات الاهتمامات البحثية والفكرية والعلومية الأكاديمية، بل
مما لاشك فيه أن الحركة الإسلامية ستقف بكل إمعان وتدبر لهذا المشروع بعد كل هزات
ومراجعات مساراتها بعد ما سمي بالربيع العربي.
نعم إن حصار النظام السياسي في المغرب
للرجل ومشروعه وما أنجزه من واقع حركي من خلال بناء تنظيم جماعة العدل والإحسان منع
من التواصل والتفاعل وصناعة الجو الهادئ للبناء والعرض والنقاش والنقد، وهو ما مكن
لمستوى كبير من الغموض والإشاعة وسوء الفهم لاحتلال كثير من مجالات التخاطب مع هذا
المشروع الكبير. لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإنه يلاحظ مستوى زحف هذا المشروع في
احتلال المواقع وبناء أساساته على أرض الواقع.
ومن المعلوم أن أهم المخاطر
المهددة لهذا المشروع ليس ما يحاك له من خارج حركته، حيث يتوفر على كل المقومات
الذاتية لاستيعاب كل مستجد مهما كان عنفه، بل إذا ما أصبح من خلال حركته الواقعية
رقما من أرقام الفسيفساء السياسية والمجتمعية في المغرب، مهما كان العدد البشري
الذي يتوفر عليه، ساعتها يمكن القول إن هذا المشروع لم يعد مشروع العدل والإحسان،
إذ المشروع كما هو قوة كلية اقتراحية فهو قوة كلية اقتحامية من خلال مقتضى قوله
تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". ولاشك أن الخطاب الرسمي لقيادة
جماعة العدل والإحسان الدعوية يكشف عن مدى التماسك والعلم بالمشروع وبمقتضيات
تنزيله وبمداه.
من هنا نجد أنفسنا دائما مضطرين
للحديث عن أصول هذا المشروع، خاصة اليوم لما يروج في الإعلام ومنتديات الفكر
والتواصل الاجتماعي الافتراضي، ولذلك اقتضى الأمر إعادة الحديث عن معنى الجماعة
وفقهها وعلاقة الجماعة بالصحبة كما تفضل الرجل صاحب المشروع بعرضها من خلال تفاصيل
دقيقة، وعلاقة ذلك ببناء المجتمع والأمة وخدمة الإنسانية؛ أي بعملية التغيير
الجذري ومداه في المكان والزمان والمستقبل.
فحركة مشروع العدل والإحسان في
الواقع الخاص والعام ليست حركة أفكار في هذا المجال أو ذاك، أوفي هذا الزمان أو
ذاك، أو في هذا المكان أو ذاك، بقدر ماهي حركة قلوب بنت عقولا وأجسادا ومؤسسات متجهة
على خط الدعوة نحو غاية جامعة هي تحقيق العبودية لله تعالى بالإتباع الكامل لسيد
الأولين والآخرين. ومن ثمة فهي تجليات يومية تغطي كل مجالات الحياة الفردية
والجماعية بحسب مقتضيات كل مرحلة من مراحل الزحف والإعداد تربويا وتنظيميا
وسياسيا...
إننا حين ندرك معنى الجماعة
وحقيقة موقعها ووظيفتها في مشروع العدل والإحسان نستطيع أن ندرك مكمن قوة زحف هذا المشروع ومضمونه وكيفيات
بناء استراتيجياته، بل أكثر من ذلك نستطيع أن ندرك كيف تبنى المواقف الخاصة في إطار مصلحة الجماعة بما هي أمانة في
أعناق كل مجاهد في سبيل الله لا مصلحة له أمام مصلحة الجماعة. ومن هنا فإننا أمام
فقه جديد في ترتيب المصالح والمفاسد والترجيح بين المصالح والمصالح والمفاسد
والمفاسد والمصالح والمفاسد.
ولذلك سنقف، إن شاء الله تعالى،
على أدق القضايا التي عالجها الأستاذ المرشد في الموضوع، ليس من باب الترف الفكري
واهتمامات البحث الأكاديمي المجرد، ولا من باب الجدل المقيت، ولكن من باب الأمانة
والأمانة عهد، والعهد مسئول.
أمانة لا ينبغي ولايجوز ولا يحق
لأحد أن يعبث بها، بوعي أو بغير وعي منه، أيا كان ومهما كان وفي إي مكان كان.
إننا بكل يقين أمام ولادة جديدة
للأمة، وأمام صناعة وكتابة لتاريخها من جديد، ومن ثمة فليس أمامنا من وقت نضيعه
مشتغلين على سفاسف الأمور، أو منفعلين سلبا مع أحداث جزئية تطرأ هنا أو هناك، وهو
ما ينبني عليه أن الهروب من ساحة المدافعة، أو الاشتغال على أي مستوى وبأي مستوى من
الغموض، تضييع لهذه الأمانة العظمى، أمانة بناء جماعة المسلمين التي على عاتقها
وبجهادها تحيى الأمة وتبعث من جديد وتكرم الإنسانية من خلال تكريم كل المستضعفين.
2.معنى الجماعة في مشروع العدل
والإحسان: المعية والمحبة والرحمة.
يتخذ الأستاذ المرشد شعارا
لتحديد معنى الجماعة الآية الكريمة 29 من سورة الفتح: "قال الله تعالى: (محمد
رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم). نقف مع كلمة
"معه"، فبهذه المعية والصحبة كانوا رجالا. ونقف عند التراحم بينهم،
فبتلك المحبة الرحيمة كانوا جماعة".
تكون الجماعة بالمحبة الرحيمة، وهي ولاية خاصة بين المجاهدين تورث ولاية
عامة بين كل مكونات المجتمع، وهي ليت عاطفة عمياء أومجنحة، وليست نوع غرام، وليست
تبادل مصالح دنيا من خلال علاقات وجدانية عاطفية اجتماعية صرفة، لذلك ميز الرجل
بين بعض المفاهيم في الباب حتى تستقيم هذه العلاقة على المنهاج النبوي وتبنى على
قواعد علمه: "حب الله ورسوله ليس عاطفة -وهذه كلمة محدثة تترجم لغة بشرية-
حب الله ورسوله حركة قلبية كأخواتها من معاني القلب والغيب: الرحمة والسكينة
والإيمان والإحسان وما إليها. أما الغرام، الذي يعبر عنه بكلمة الحب وهي شريفة
أنزلها الاستعمال الدارج عن مكانتها، فهو حركة نفسية. وتشترك الانفعالات البشرية
في التسمية، فيكون للمومن والجاهلي فرح وغضب، حب وبغض، وسائر ما تعتلج به الأنفس.
لكن المومن وحده المختص بحاسة القلب يفرح بالله، ويغضب لله، ويحب في الله، ويبغض
فيه. ..... وإنَّ معين هذه الحياة حب الله ورسوله. فمتى غابت هذه الشُّعبة العظمى
من شعب الإيمان من حياة المسلمين هوَوْا في دَرَكات العَمَاية".
إن الحب في الله والبغض في الله حركة قلبية خاصة بالمؤمن،
فهي لحمة الجماعة وعمقها ولواؤها التي تعم الأمة عبر منشور الرحمة المحمدية
الشاملة.
لذلك وفي نفس الفقرة أعلاه من كتاب "القرآن والنبوة،
ص:57" يحصل الربط المباشر بين طبيعة الحياة المجتمعية وحياة قلوب
أعضاء المجتمع: "اختلطت في مجتمعاتنا دوافع النفس البشرية المشتركة مع
الدوافع الجاهلية الهِيَاجِيَّةِ المُعْدية، فضمُرَت، ثم ذبُلَت، ثم ماتت رقائق
القلب من تواد، وتراحم، وتساكن. فإذا مجتمعنا تركيب تُقَعْقِعُ فيه المصالح،
والعلاقات النفعية الجافة، والكراهية، والتحاسد، والتباغض، والعنف وهو الجاهلية.ما
ذاك إلا لتعطيل، بل تعطل، الحياة القلبية"، وهو الأمر الذي جعل الأستاذ
المرشد يجعل أم الخصال خصلة "الصحبة والجماعة" فقال: "لا غرو إن جعلنا الصحبة والجماعة أولى الخصال، فقد أتبع الله عز وجل في
الآية بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بذكر المعية له، فهي أولى صفات المؤمنين، في
ذلك الزمان وفي هذا وفي سائر الأزمنة، والرحمة بينهم مرآة لتلك المعية، ومن كان
مع رسول الله فهو مع الله، ومن بايع رسول
الله فقد بايع الله، ومن أحب رسول الله فقد أحب الله.
كان رسول الله صلى الله عليم وسلم يقول كلما ارتحل في سفره: "اللهم
أنت الخليفة في الأهل والصاحب في السفر"، رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما،
فلقوة تعلقه صلى الله عليه وسلم بربه عز وجل سرت من قلبه الطاهر مادة الإيمان إلى
من صحبه، ثم امتدت الصحبة وراثة فكانت رحمة بين الصحابة والتابعين ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين، تسري من قلب لقلب، ومن جيل لجيل، بالصحبة والمحبة والتلمذة.
(المنهاج النبوي: 125).