الطريق الأخير:
عمق التاريخ ومرارة النفق
ربما صار السؤال عن الانتماء التاريخي عند الإنسان العربي اليوم مصدر قلق شديد وحيرة بالغة في زمن الإخفاقات المتكررة، والانتكاسات المتتالية، والهزائم المتنوعة الساحقة التي تعبر حقيقة عن زمن الاستعمار الشامل المرتكز على القوة العسكرية، مصدر استعمار القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وعلى الهيمنة الثقافية والتربوية والإعلامية والاقتصادية والفكرية والعلمية؛ هيمنة الأنموذج الغربي سواء في صورته الجزئية من جهة أوربا، أو في صورته الجزئية من جهة أمريكا، أو حتى من جهة أنموذج عرف إخفاقا في "شرق أوربا" ويعرف اضطرابا شديدا يمهد، لاشك، لإخفاق كلي لكنه بطيء في "شرق الغرب": الصين. وهذا كله يكون الصورة الكلية لغرب يريد تأبيد الهيمنة وتريد أمريكا أن تكون زعيمته مهما كلفها الثمن الذي تخولها المرحلة التاريخية التي يعيشها العالم أن يكون من جيوب الضحايا ومن خيرات أراضيهم وأبنائهم. إنه زمن هيمنة نوع تواصلي يستند على سرعة انتقال المعلومة مع صعوبة معرفة مصدرها لدى الضعفاء الذين لا يملكون إلا تكرارها مع محاولات يائسة، غالبا، لتحليلها في الوقت الذي يزحف صانعها، أي المعلومة، ميدانيا وعلى الأرض. زمن فقد فيه العرب كل مقومات القوة، حتى التاريخ تم التشويش عليه إلى حد أن الإنسان العربي صار يشكك في ماضيه ومن تم يعيش ظلامية المستقبل من خلال قتامة الواقع.
كان الاستعمار المباشر صفعة قوية لهؤلاء العرب، وكانت نكبة فلسطين ثمرة عدم إدراك حقيقة الصفعة وجوهرها، وكانت إخفاقات الأنظمة "العربية" برهانا على أن الدرس لم يستوعب، وكان انعزال أو إقصاء النخبة العالمة والمثقفة والحرص على تدجينها وتهميشها وعدم تمكينها من وسائل الفعل الواقعي خسارة عظمى ماكان لها أن تتحقق لو لم تختر أكثرية هذه النخبة أن تصنع التواصل "الشعبي" و"الجماهيري" على قاعدة مرجعية إما غربية قحة مهما كان لونها الفكري والسياسي، أو مختلطة مضطربة تعاني من غموض كثيف مما لم يوفر انبعاثا حقيقيا ونهوضا كليا لشعوب أنهكها الفقر والأمية والظلم السياسي والاجتماعي. وهو ما تجسد اليوم في غياب قيادة حقيقية ملتصقة بالجماهير خارجة من صلبها لا تعيش إلا لها ولو أدى ذلك إلى استشهادها حيث الشهادة حياة لأنها موت من أجل قضية نبيلة سامية ترتبط بالجماهير وجودا وتستمد جوهر وجودها من قضية الرسالة التي كانت الأمة لأجلها، هي رسالة تحرير الإنسانية من كل أنواع وصور العبودية لغير رب العباد سبحانه.
إنها مفارقة كبرى بين الواجب والواقع.
واليوم وقد دخل الاستعمار ديارنا وخرب بيوتنا ومزق جسمنا واستولى على خيراتنا وشككنا في حقيقة وجودنا إن لم يطمسها نهائيا في وعي الكثير منا، لماذا نحن على هذه البقعة الأرضية الممتدة عبر أدق مساحة جغرافية تاريخيا وعالميا، والمنبسطة على خيرات متنوعة، والعامرة ببحار زاخرة؟
إنه سؤال العمق التاريخي الجغرافي من حيث أبعاد الماضي وحقائق الواقع ومطالب المستقبل وحكمة الوجود الجماعي وجوهره..
يومنا: حكام فرضتهم أوضاع تاريخية معينة وامتلكوا من الوسائل المعنوية والمادية ما مكنهم من أن يصيروا حكاما مؤبدين يورثون الشعوب لمن شاءوا من أقاربهم أو حتى يبيعوها للغير مقابل الحماية والحفاظ على كراسي الحكم الذهبية الغالية الشاهدة على مفارقة مجتمعية تصور أبشع أزمنة الفقر المكشوف بجوار غنى فاحش لا يتردد في استعمال أية وسيلة تعبر عن بشاعته وجرأته في البطش بالفقراء والتمثيل بهم والمتاجرة في همومهم.
يومنا: نخبة معزولة عاجزة عن صناعة قوة مجتمعية متحركة على قاعدة عمق استراتيجي جامع مبني على جوهر القضية الكلية: رسالة التحرير.
يومنا: مجتمعات ممزقة إلى فسيفساء لا يقوى على بلورة قوة بديلة عن العجز الذي يشل حركتها.
يومنا: اقتصاد مشلول تابع وخاضع لاقتصاديات مهيمنة في زمن "العلومة" غول الغرب الذي يأكل الاقتصاديات الضعيفة والكيانات الهشة وكل من ليست له قضية يحيى بها ولها، لأن من ليست له قضية ماهو إلا سوقا بشريا لسلع أصحاب القضايا مهما كانت القضايا؛ نبيلة أو شريرة.
يومنا: حيرة شديدة واضطراب واضح في تحديد مرجيعتنا الكلية التي تشكل أرض النهوض ومنطلقات إعادة البناء المجتمعي والسياسي والإنساني.
فهذه حقيقة النفق، وذلك عمق التاريخ، فما السبيل إلى الخروج؟
ضياء المستقبل
يصر شارون المتلذذ بسفك دماء شعب فلسطين ورموزه وقياداته على ادعائه القاضي بأن المسلمين في اللحظة المعيشة حتى ولو ضربت الكعبة فلن يفعلوا شيئا. ويبني على هذا أن هذه هي الفرصة لتصعيد الهجوم الشامل لتحقيق أكبر قدر من الأهداف المعلنة وغير المعلنة مستدلا بجريمته في حق الشهيد أحمد ياسين: ماذا فعل المسلمون بعد أن باشر هو بنفسه قتل الشهيد، إذ بقتل هذا المقعد المسن تثبت "إسرائيل" بأنها لا تستهدف فينا القوة، فهي أعلم منا بأننا لانملك أية قوة مادية اليوم، وإنما تستهدف القضية التي مقرها قلوب وعقول الرجال من أمثال الشهيد ولو كان مقعدا مشلولا؟
وماذا فعل المسلمون وأبناء الشعب الفلسطيني يقتلون منذ أكثر من نصف قرن؟ "إسرائيل" تتقوى وتزحف والعرب والمسلمون من نكبة إلى نكبة ومن كبوة إلى كبوة (رحم الله رجال فلسطين والعراق الذين يؤكدون أن هناك أملا وسط الأمة، أمل المقاومة والانتصار والعزة)؟
ماذا فعل العرب والمسلمون وبغداد رمز النخوة العربية استبيحت عن آخرها وتجول فيها وتصول قوات أمريكا وحلفائها وتنهب خيرات بلاد الرافدين وتدمر مدينة السلام كما تسميها كتب التاريخ، وجنودها يفعلون في العراقيات ومعتقلي المقاومة ما يندى له الجبين وتتفتت لأجله الأكباد& ضعف وهوان ومذلة & واأسفاه ما العمل!؟
لقد أصبح من الواضح أن أمريكا أدركت تماما أننا في حالة العجز التام على الرغم من الخطب الرنانة والاجتماعات الفاخرة واستعراضات آلات عسكرية متآكلة مزينة بصباغة أمريكية أو غير أمريكية، لايهم. آلات كانت لها القدرة على قهر الشعوب لا مواجهة العدو المتربص الهاجم. وبإدراكها هذا أسرعت في تنفيذ مقتضيات مشروعها المعروفة بعض أفكاره فقط تجاه المنطقة.
ومن المعلوم أن جوهر مشروع أمريكا في المنطقة المتعدد الأبعاد المرتكز على النزعة الصليبية ينبني على إخضاع المنطقة جملة. ومن تم فبعد احتلال العراق، بأي شكل من أشكال الاحتلال، تبين أن قيادة بوش متوجهة إلى تخريب دول الخليج، خاصة السعودية في المرحلة الأولى من خلال صناعة جو من الفتنة العارمة ذات البعد الأمني بداية يضرب جوهر الاقتصاد السعودي ليتم تحويل ذلك إلى بعد طائفي وحرب أهلية يشمل سوريا ولبنان وباقي دول الخليج الصغيرة ثم إضعاف إيران ومن تم إخضاعها لتبقى الصين الشعبية هدفا استراتيجا حيث جواهر الاختلاف بينها وبين أمريكا غير ملحة مرحليا، بل قد تؤدي إعادة بناء المنطقة إلى توحد الأهداف والمصالح بين الصين وأمريكا الشيء الذي أخفق فيه العرب إلى الآن، أي أن يجعلوا من مصالحهم ومصالح الصين ومحيطها مصالح مرتبطة مصيريا. وقد ظهر بعد سقوط بغداد أن مواقف الصين تململت إلى حد يؤشر على هذا خاصة إذا علمنا أن استراتيجية أمريكا تجاه الصين ترتكز، من بين ماترتكز عليه، أن تجد المرجعية الثقافية الأمريكية طريقها وسط المجتمع الصيني وطبقته المفكرة والسياسية.
هكذا تقدير أمريكا وحليفتها "إسرائيل" في المنطقة. وبين يدي هذا لابد من الإشارة إلى الحقيقة التالية: إن العالم اليوم صارت تسيره قوى الاستخبارات (الاستخبارات الغربية وخاصة الأمريكية والصهيونية التي كانت موجودة على رأس استخبارات عربية وغير عربية منذ بداياتها، بل هي المشرفة على تكوينها وبناء أجهزتها) بحيث منذ أن كانت لها الريادة في استنباط المعلومات وتوجيه القرارات كانت هي الأنظمة، أي قوى الاستخبارات الغربية، التي تعرف استقرارا في تطورها واستمرارا في بنائها بعيدا عن الهذر السياسي والصخب الإعلامي. إن هذا الاستقرار وهذا الاستمرار هو ماجعلها اليوم مصدر القرارات الكبرى والمصيرية لأنها مصدر المعلومة المضبوطة إلى حدما، ومن ثم مصدر القرار الصائب، وهو ما يخولها اكتشاف الإمكانيات السريعة للتدخل في شؤون الدول الضعيفة والتابعة. ولاتدجننا هنا مسرحية الاستخبارات الأمريكية في قضية أسلحة الدمار الشامل العراقي، فما الأمر إلا تمويها، لأن الاستخبارات تعلم أن هناك رأيا عاما يحتاج إلى ترويض ودغدغة العواطف وتهيئ النفوس لقبول تصورات محددة بهدوء ودون ردود أفعال مؤثرة إستراتيجيا. فلايمكن أن يقبل عاقل أن قرار غزو العراق كان بناء على معلومات استخباراتية مشكوك فيها، مما يعني أن هدف الغزو والاحتلال لاعلاقة له، في حقيقة الأمر، بمسألة أسلحة الدمار الشامل أو محاربة "الإرهاب". فقد عرف المراقبون أن الدور بعد أفغانستان على العراق، وأن الهدف المباشر الآن هو جبهة سوريا إيران من خلال فوضى في منطقة الخليج لا تكلف أمريكا إلا تجنيد انتحاريين وإرغامهم على الانفجار في أي وقت مناسب في أي مكان محدد.
بهذا تجعل أمريكا أبناء العرب والمسلمين في كل مكان يذهبون إلى أبعد مستوى من الكراهية لها ولمن يحالفها، مما يترتب عليه ردود أفعال فردية أو جماعية قد تكون عنيفة جدا لكنها لا تؤثر استراتيجيا نظرا للضعف المتحدث عنه سلفا والذي تعلمه أمريكا وحلفاؤها أكثر منا نحن الضعفاء.
في مثل هذه اللحظات لايكون للعنف دور مهم في تصحيح المعادلة. بل إذا كان الأمر لا يتعلق فقط بأرض يدافع عنها بل يتعلق برسالة الإسلام إلى العالم، خاصة حينما تربط قضية الأرض بقضية الرسالة ويصير الأمر واحدا ويصبح المعتبر فيه هو مدى تأثير موقف الدفاع عن الأرض في موقع الرسالة ضمن الواقع الحضاري الإنساني حالا ومستقبلا، فإنه مبدئيا لا وجود للعنف مطلقا، مع ضرورة التمييز بين ممارسة العنف وحقيقة المقاومة والدفاع عن النفس كما هو الشأن في المناطق المحتلة مباشرة كفلسطين والعراق وغيرهما.
إن الالتجاء إلى العنف الفردي أو الجماعي هو ما ينتظره الخصم اليوم لتجعل منه وسائله الإعلامية قضية عالمية تستحق المحاربة بكل وسيلة. كما أن لحظة الضعف لا تستدعي الانصهار الكلي في منظومة الغازي لا جزئيا ولا كليا مهما كانت المبررات. ومن ثم فإن المسؤولية تصبح بالغة الخطورة لضرورة تحديد الموقف والموقع في اللحظة المعيشة من خلال تحديد التصور الكلي الممتد في المستقبل فاعلا بنائيا بما لا يؤثر سلبا على جوهر الوجود الوظيفي لأمة ممزقة يجب أن تجعل من أولوياتها إعادة بناء وتجديد عناصر القوة المعنوية والبشرية والمادية الذاتية حيث هي المنطلق القاعدي لدفع الخصم والعدو وتحصين الجسم والقدرة على حمل الرسالة.
العرب والمسلمون اليوم في وضع حرج جدا ودقيق إلى حد صعوبة تحديد الوسائل الناجعة للتصدي له. بل عند الكثير صار الحل هو الاندماج الكلي في المنظومة الدولية السائدة وكفى، ذلك أن التجربة السياسية في البلاد العربية والإسلامية بعد فترة الاستعمار لم تسمح نهائيا بتوفير شروط صناعة القوة المناسبة لاحتلال المواقع المفيدة ضمن السير الإنساني فضلا عن تحديد الموقع الوظيفي المطالب به وجوديا. ولذلك، فمن المداخل الأساسية لبناء الطريق السيار إلى الانعتاق والحرية وحمل الرسالة هو نقد هذه التجربة نقدا جذريا وإعادة بناء نمط سياسي منسجم مع جوهر وجود الأمة، لأن العمل السياسي الناجح هو الذي تشكل الأمة قاعدته الحقيقية والجوهرية بشريا كما تشكل قضيتها الوجودية ماهيته، وإلا فلن يحصل إلا إعادة إنتاج الواقع بصورة أقبح من السابقات نظرا للضعف الكلي المعيش.
ونعتمد مفهوم السياسية هنا بمعناه العام من حيث الاختيارات الكبرى في تدبير الشأن العام في بعده المحلي والدولي على قاعدة العدل والحرية.
ومن خلال هذا المعنى يمكن القول: إن عالمنا العربي والإسلامي لم يعرف قط أي معنى إيجابيا لتدبير الشأن العام، فالفضائح والجرائم المرتكبة في حق الشعوب وممتلكاتها التي كتب لها الذيوع، ولاشك أن أبشع منها لم ينشر بعد، تدل على أن القاعدة العامة لتدبير العلاقات تأخذ معنى الدسيسة لا السياسة، لأن منطق المكر والخديعة هو أهم ميزة تتميز بها العلاقات التدافعية بين مكونات المجتمعات العربية والإسلامية عامة، مما جعل الأمة تؤدي ثمنا باهضا، سواء من جهة أبنائها أو من جهة خيراتها، وهو ما جعلها لقمة سائغة بين يدي أعدائها.
وضمن منطق الدسيسة والخديعة جربت اختيارات عديدة في محاولة للنهوض، وهو الشيء الذي لم يتحقق بعد، مما يستدعي ضرورة واستعجالا، بحكم الواقع المعيش وأهداف الخصم تجاه الأمة ونظرا لطبيعتها الوظيفية، تحديد اختيار يؤسس لمعنى إيجابي في تدبير الشأن العام ويقطع مع كل معاني الدسيسة والخديعة والمكر بين أبناء الأمة الواحدة.
إن التجربة السياسية، في بلاد العرب والمسلمين على العموم، في تدبير كل القطاعات، لم تنتج إلا فشلا ذريعا وإخفاقا ضاع معه الإنسان والأرض والقضية.
ويمكن رصد أهم مواصفات هذا الاختيار على الشكل التالي:
1- أن تكون له القدرة المعنوية والمادية على جمع شمل الأمة في صورة حد أدنى يسمح بمواجهة التحديات وتأسيس قاعدة الانطلاق الوظيفي في حمل رسالة التحرير في مقابل بشاعة ما أنتجته هيمنة حضارة مفصولة عن العمق الإنساني إذ تجلى ذلك في بشاعة ما ترتكبه في حق الإنسانية من جرائم وما يعيشه الإنسان الغربي من حيرة وتشرد معنوي عاطفي اجتماعي لم تستطع القوة الاقتصادية والعسكرية أن تجد له مدخلا للعلاج.
ومن تبعات هذه الصفة أن تمتلك الأمة عناصر التواصل والتعارف بين مكوناتها بحيث يتم اعتماد وسائل سياسية ومجتمعية توفر شرط التمايز لتعرف الأمة من من الذين ينتسبون إليها أنهم من صلبها من الذين ينتسبون إليها زورا وما هم إلا وكلاء الاستعمار القديم والجديد.
ومن تبعاتها كذلك، بل من أسسها، أن يجلس رواد الدعوة الإسلامية إلى مراجعة حقيقية للكشف عن جواهر الحاجة الدعوية السياسية الحركية انطلاقا من تجربة أكثر من قرن من العمل الحركي. وقد أثبتت التجربة أن أصل الأعمال ليس هو التدريب النضالي والحركي، وليس هو التدريب على حمل السلاح، بل إن أصل الأصول هو التربية الإيمانية الإحسانية التي مع تحققها تكون التدريبات الأخرى مكملة وفي مكانها وزمانها المناسبين. إن التجربة النبوية في بناء الفرد والجماعة والأمة لم تحظ بكثير من البحث العلمي المقرون بالعمل الميداني التفصيلي. ولهذا فإن رجال العلم والفكر والسياسية من رواد الحركة الإسلامية ينبغي أن لا ينفصلوا يوما عن الواقع الحركي التفصيلي التنظيمي الهيكلي التدريبي تجنبا للانزلاقات والانحرافات وربحا للوقت والجهد بتوجيه الطاقات بناء على تربية وعلم واسعين يفتحان الأفاق العريضة، وعلى معرفة دقيقة بالميدان تمكن من وضع الوسيلة المناسبة في مكانها المناسب تحقيقا للهدف المحدد خدمة للغاية المنشودة الرائدة. وهذا هو جوهر الصفة التالية وهي:
2- أن يوفر، أي الاختيار، العناصر المعرفية والعلمية القادرة على نقد التجربة السابقة نقدا كليا وشاملا يبنى عليه ترسيخ قواعد اختيار الحرية والاستقلال والقوة.
ومن تبعات هذه الصفة أن تملك النخبة التي قادت التجربة السابقة سعة الصدر بروح رياضية، كما يقال، لاستيعاب النقد وتحمل المسؤولية، لأنه لحد الآن لاتريد هذه النخبة أن تتحمل المسؤولية في مرحلة كانت لها الريادة فيها بشكل مباشر أو غير مباشر؛ إما من جهة المسؤولية السياسية والإدارية أو من جهة ترويج المفاهيم المؤطرة للفعل السياسي والمجتمعي ساعتها. وهذا يفرض على أبناء التجربة الجديدة أن يكونوا في مستوى عرض البديل في كل أبعاده التربوية والعلمية والحركية والميدانية وغيرها.
3- أن تحدد بدقة المجالات التي تتميز بها الحضارة المهيمنة بحيث يحصل التفريق بين ما هو من صلبها فيتوجب إعداد القوة اللازمة بمعناها الشامل لدفعه، إذ في جوهره متعارض مع حقيقة وجود أمتنا، وبين ماهو من المشتركات بين بني البشر يحصل تبادله وانتقاله، شاء من شاء وأبى من أبى، بواسطة ما نسميه بالحوار الحضاري، إذ يحصل بالتلقائية والاستمرارية في الواقع البشري بما هو حكمة إنسانية لابد وأن يستفيد منها كل الناس مادامت صالحة لزمانهم ومكانهم.
وقيمة هذا التمييز ودقته ينبني عليها معرفة أسلوب النقد وطريقة العرض. نقد التجربة الغربية تجاه الواقع الإنساني، وعرض مراد التجربة الإسلامية وفق نموذج واقعي ناجح على كل المستويات.
لكن هذه المواصفات لابد لها من مرتكزات أساسية تمكن من صناعة النموذج الواقعي الساهر على تحقيق مقتضيات الاختيار على أرض الواقع.
ويمكن تحديد أهم تلك المرتكزات فيما يلي:
1- مرتكز الوضوح من حيث الفهم وتحديد الأهداف والمقاصد بوضوح الغاية الاستخلافية الرسالية للأمة المبنية على وضوح الغاية الفردية المتمثلة في حقيقة العبودية لله وحده لاشريك له سبحانه. وينبني على هذا الوضوح وضوح في الوسائل المعتمدة ضمن حد أدنى يوفر صور الاتفاق التي تبعد التمزق والتشتت الذي يمحق القوة ويورث الضعف لأن التشتت لا يعني التنوع والاختلاف الخادم له حيث هذا الأخير، أي التنوع، عنصر قوة لا عنصر ضعف.
إن الغموض الذي هيمن على اختيارات النخب المسؤولة اليوم كان من العوامل الأساسية التي أدت إلى ارتباك شديد في أداء الأمة وفي تحديد أهدافها ومطالبها.
2- إن من المرتكزات الأساسية لهذا الاختيار بين يدي واقع الضعف المهيمن وغطرسة الخصم والعدو مرتكز رجوع النخبة المثقفة والعالمة والمفكرة إلى القيام بدورها في قيادة الأمة انطلاقا من حاجياتها ومطالبها وخدمة لها خدمة كلية. وهو ما يعني ضرورة البحث عن عناصر الاتفاق بين مكوناتها الفاضلة مع ضرورة إبعاد العناصر الفاسدة والمفسدة التي خربت العباد والبلاد وجعلتها لقمة سائغة، بل هدية للمتربصين بها دوما.
ومما ينبني على هذا المرتكز أن تكتشف هذه النخبة ضمن حركة الأمة الوجودية الوسائل السياسية والتنظيمية والقانونية والمجتمعية المرجعية التي تنظم الاختلاف وتحدد المسؤوليات وتضمن الوجود الواعي والمسؤول للأمة في اتجاه بناء نظام الحكم القادر على ضمان الحرية والقوة والاستقلال، وهو ما يوفر شرط القيام بالدور الوظفي الوجودي. ومعنى هذا أن يكون لهذه النخبة التي يجب أن تقوم بالدور القيادي والريادي هدف مباشر هو تحرير الحكم من طغمة متسلطة بحكم التاريخ والواقع على رقاب الأمة لايهمها إلا البقاء ولو كلفها ذلك ماكلفها، مع حرصها، أي النخبة، الشديد أن لا يكون ذلك أبدا بأي أسلوب يرتكز على العنف والغموض والالتواء والدسيسة.
إن الحكم وسيلة من ملك الأمة ولا يحكمها إلا من ارتضته بطرق الرضا المشروعة والمعقولة.
ولاتكون هذه الحركة المباشرة للزحف الرفيق والرحيم والمتئد قيمة عملية إلا إذا كانت تستند على مشروع علمي رصين ومتكامل يتولد عليه مشروع مجتمعي شامل.
3- مرتكز التوازي والموازنة المستمرة بين خط إعادة بناء الذات، وهو المرتكز الثاني، وبين خط تأسيس علاقات دولية ناجعة وناجحة تصنع الموقع المناسب، عبر مراحل، ضمن المنتظم الدولي بما يوفر الامتداد الإيجابي ضمن المجتمعات الغربية ومع فعالياتها الإنسانية الرافضة للظلم العالمي والداعية إلى قيم إنسانية نبيلة دون التفريط في مبدأ الوضوح الذي يدل على حقيقة أهداف الأمة ونوعية مطالبها وطبيعة مرجعيتها.
إن رصيد الأمة في تنظيم العلاقات الدولية اليوم ضعيف إلى حد الانعدام. وهذه نتيجة طبيعية لواقع الضعف والانفصال الحاصل بين النخبة والأمة، لكن ذلك يستدرك بسرعة لابأس بها في حالة تحقيق هذا المرتكز الثالث إذ يوفر كل العناصر لصناعة واقع توازن القوة العالمي.
إنه ليس من العبث والسدى أن يكون العرب والمسلمون على هذه الرقعة الجغرافية المتنازع عليها دوما. فلله في خلقه شؤون، والفائز من فهم عن الله وعمل لله.
(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق).
صدق الله العظيم.
-ثانيا: من السياسة إلى الكياسة.
في الحلقة السابقة من هذا المقال تمت الإشارة إلى المواصفات والمرتكزات الأساسية التي تحدد معالم الاختيار الذي يمكن الادعاء بأنه الوحيد الكفيل ببناء طريق الانعتاق والنهوض بين يدي هذا الواقع المرير المخزي لكنه المؤشر على أن بعد الضعف قوة.
وكان العنوان الفرعي لتلك الحلقة هو: من الدسيسة إلى السياسة، وعنوان هذه الحلقة: من السياسة إلى الكياسة.
فالعنوان الكبير هو: الطريق الأخير، إشارة إلى أنه لم يبق إلا خيار وحيد بعد أن سرنا بوعي أو بغير وعي عبر طرق شتى فما وجدنا المخرج وما كان هنالك الملاذ. ماذا بعد الهجران والوحشة والفرقة؟
إذا أضيف العنوانان الفرعيان إلى بعضهما (من الدسيسة إلى السياسة + من السياسة إلى الكياسة = من الدسيسة إلى الكياسة) صار العنوان الفرعي الجامع هو: من الدسيسة إلى الكياسة. وكأن هذا يوحي بالمراحل الأساسية لحركة الاختيار في كليته بشرط الانعكاس. بمعنى أن المطلوب من الناحية العملية والأصلية هو البدء بتوفر عنصر الكياسة، الذي نشير بعد إلى دلالته، للقطع مع مرحلة الدسيسة من خلال سيادة واقع السياسة بمعناها الشرعي المبني على قوائم الشورى والعدل والإحسان، وقد يكون لهذا الواقع مدخلا جامعا ذا معاني متعددة قانونية ومجتمعية وغيرها بحيث يضبط مرحلة القطيعة والعبور؛ القطيعة مع واقع الدسيسة، والعبور من ضفة الاستغراب إلى ضفة جوهر وجود الأمة التاريخي والمصيري حتى لايحصل العمل على أرضها لصالح أعدائها كما هو الواقع. وساعتها ستكون السياسة قائمة على أرض أصلية صلبة قاعدتها السياسية هي الجماعة وروحها هي الرسالة: رسالة التحرير، ومحضنها هو الأمة القوية الحرة المستقلة.
بين يدي مفهوم الكياسة نقرر الحقيقة التالية بناء على السؤال المعروض في الحلقة السابقة: "لماذا نحن العرب والمسلمون موجودون على هذه البقعة الأرضية الممتدة عبر أدق مساحة جغرافية تاريخيا وعالميا، والمنبسطة على خيرات متنوعة، والعامرة ببحار زاخرة؟"
هذه الحقيقة هي أن وجودنا العالمي مرتبط بهذه الرسالة التي هيأ الله سبحانه وتعالى جزيرة العرب والعرب واللسان العربي لاستقبالها فبعث منهم خاتم الأنبياء والرسل صاحب الرسالة إلى الثقلين.
لنفرض جدلا أنه لارسالة للعرب اليوم، فماذا سيقدمون للإنسانية، وهل في غياب تلك الرسالة كان يمكن أن يكون لهم كيان ويحولوا مسار التاريخ البشري؟ بل الله تعالى يفعل مايشاء ويحكم مايريد.
فرض الاستعمار وتبعاته ولوازمه التفريط في الرسالة بعد أن تم التفريط في الذات المتكاملة فمرضت المرض الذي حذر منه الرسول الرحيم بأمته الحريص عليها البكاء شفقة عليها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مرض الغثائية وتداعي الأمم عليها، وهو مرض لايمكن أن يكون مع وجود القوة المترتبة على قوة الجسم المجموع الموحد، إذ كان، أي المرض، نتيجة طبيعية للتفريط في الجماعة وضياع معانيها الحقيقية النبوية.
ومتى كانت هناك جماعة بلا جامع وهو مصدر التربية الجامعة الجماعية. الجامعة لأشتات الفهوم والإرادات والهموم، والجماعية بما ينبني عليها من قوة عضوية كلما اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى بسبب الارتباط العضوي لا بسبب الشعور العاطفي الساذج البسيط العابر.
مصدر التربية الجامعة الجماعية هو عين الرسالة. كان هو الرسول المعلم الكريم على الله تعالى زمن النبوة، وكان الصحابة من بعده العالمون بمراده ومقاصده؛ وهي مقاصد الدين والشريعة وكلياتهما، ثم من بعدهم من وفقه الله فكان من الوارثين للحقيقة المحمدية. لكن لعوامل كثيرة غلبت الوراثة الجزئية لا الكلية، فكان التطابق من حيث الواقع؛ غلبة الوراثة الجزئية وغلبة التجزؤ في الفهم والإرادة والأرض.
ومتى كان هذا الواقع مصدر قوة جامعة ومحررة؟
مر حوالي أكثر من قرن على تجربة الحركة الإسلامية من أجل التجديد. كان زمنا عامرا بالتجارب والاجتهادات من أجل أن ترجع الأمة لتعيش قضيتها كما كانت في أصلها على صفائها ووضوحها، كما كان عامرا بالمعاناة. بل عاشت الحركة الإسلامية من جهة حكام ما بعد الاستعمار المباشر معاناة ليست إلا جرائم سيجلها التاريخ كما سجل سوابقها ويسجل لواحقها بعد فشل هؤلاء الحكام الذريع في النهوض الذي وفر فرصا ثمينة وجديدة لينقض الخصم الخارجي ويبطش بطشا شبيها من حيث بشاعته وصوره بما فعله كثير من الحكام في حق الدعاة إلى القسط من أبناء الأمة.
فشل الحكام والنخب المتحالفة معهم في النهوض، بل ورثوا الانتكاسات تلو الانتكاسات. كما فشل من الرافضين للظلم والحيف أولئك الذي انطلقوا من أرض الغربة فكرا وممارسة في ذلك أيضا، وإن كانوا جغرافيا على أرض أمتهم. وفي المقابل ظهر أن الحركة الإسلامية، على الرغم من المعاناة، تزحف وتحتل المواقع ضمن حركة المجتمعات العربية والإسلامية، بل في الغرب نفسه، لكن لحد الآن، وبالنظر إلى واقعها التفصيلي، لازالت تعاني من التمزق والتشتت، وهو واقع لا يسمح ألبتة بتجاوز الواقع العام المعيش.
فهل هناك من يسأل عن السبب الجوهري في ذلك؟
لو كان الأمر صراعا بين حركات سياسية ومجتمعية مختلفة المشارب والتوجهات لكان هذا مبررا ضافيا وشافيا لقبول الواقع الذي عليه الحركة الإسلامية اليوم، ولكان القبول بأية قوة توحد ولو كانت مستبدة متسلطة عنفا أمرا مبررا، لكن الأمر أعظم من ذلك وأخطر: إنه دعوة الناس إلى الله تعالى وتحقيق رجوع الأمة الكامل للأصل، ألا وهو أصل العبودية لله تعالى، وأن الإنسان عبد لله مخلوق لذلك، وأن الدنيا فانية والميعاد حق.
هذا مصدر شفقة ورحمة فلا يمكن بحال أن يكون مصدر دروشة أو عنف، ففي الحالتين انحراف عن الجادة، إذ لايمكن أن يجتمع في قلب واحد عنف ورحمة أو دروشة وشفقة على العالمين، لأن الرحمة تتعارض والعنف، ولأن الشفقة والرحمة المحمدية كانت للعالمين: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فكان من ضمنها السعي والكد جهادا ودفعا لكل عوامل الظلم الأصغر والأكبر. فلينظر جهاده صلى الله عليه وسلم في كليته وحقيقته، إذ كانت القوة في السمت التي مصدرها ماعمر القلب الرحيم الشفيق الخاضع لجلال المولى العظيم، فحصل بذلك الأثر البليغ في الواقع الذي غير مجرى التاريخ البشري.
إن الحركة الإسلامية اليوم بين يدي سؤال كبير يمكن صياغته على الشكل التالي: هل قوة الرمح (ترميزا للقوة المادية في المدافعة) تنبني على قوة التأثير الإيماني الحق الذي مقره القلب أم العكس هو الصحيح؟
قال الله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). كان الرمي فعلا بشريا، لكن رده الله تعالى إليه.
لماذا؟
لأن القضية التي من أجلها كان الرمي هي لله تعالى من حيث حقيقتها وطبيعتها، وهي أن يعبد سبحانه وحده لما في ذلك من مصالح لاتعد ولا تحصى للإنسانية في إطار الاختبار والابتلاء الذي شاء سبحانه أن يكون هو موضوع عملية العبور من الدنيا إلى الأخرى. أي لما في ذلك من تيسير ليقتحم الإنسان عقبة الدنيا فيفوز ولا يسقط في الافتتان فيضل ويشقى هنا وهناك. كما نسب الله تعلى الرمي المسدد إليه رغم أن الرامي بشرا، لأن هذا الأخير صارت صفته اللازمة والكلية هي تلك القضية، فهو عبد لله جعل كليته هي هذه القضية مع الصفاء الكامل والوضوح الشافي. فنت ذاته فيها فصارت وصفه الذي يتميز به، بل صارت حقيقة وجوده. ومع هذا فقد أعد الرمح ورفعه وسدد: أعد القوة اللازمة والممكنة.
إن الواقع المعيش الذي أفسد على المسلمين حياتهم يجر إلى غير هذا، إذ يظهر أن الملح فيه هو البحث عن القوة المادية كأولوية الأولويات، أو القوة الفكرية للتمكن من فهم ما جرى ويجري. لكن الحقيقة أن البحث الحثيث من أجل امتلاك كل وسائل القوة المادية والفكرية لايمكن أن يكون مفيدا ولو شيئا يسيرا ما لم ينبني على تحقيق القوة المؤثرة حقيقة في الواقع، ألا وهي هيمنة الحقيقة الإيمانية الإحسانية الكاملة على تفاصيل الأمور ومجرايات تنفيذ مقتضيات العمل، وهي القوة الوحيدة الكفيلة بجمع الشتات لتأتي معها وفي سياقها القوة المادية والفكرية فاعلا إيجابيا لاسلبيا كما فعل الحكام بقواتهم المخذولة في جميع معاركهم التحررية الوهمية، وكما يفعل مفكروا العرب اليوم بمفاهيمهم المستوردة كما استورد الحكام السلاح وبطشوا به، (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم). (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).
لكن ينبغي أن لا يفهم هنا أن القوة الإيمانية وسيلة خادمة للقوة المادية. فليس المقصود ذلك. كما أنه من حيث الواقع لايحصل الفلاح والنجاح، لأن في هذه الحالة (تسخير القوة الإيمانية لخدمة القوة المادية) يكون الأمر معكوسا. وهناك قاعدة مقررة في الفقه الإسلامي: المعاملة بنقيض القصد: ومعناه هنا أن من يمكر بالقوة الإيمانية ليوظفها في خدمة أهدافه المادية لن ينال إلا عكس ما قصد إليه، وهو ما نعيشه وسنعيشه مع حكام ونخب الدسيسة، لأن قضية الإيمان هي أمر إلهي والله تعالى خير الماكرين، (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم). بل المقصود تحقيق الوضوح الكافي والفهم السليم والعلم الصحيح والتمكن الكلي لحقيقة الإيمان والإحسان في القلوب والواقع ليحصل التمكن المادي خادما فاعلا إذ يكون الأمر كله لله تعالى فيكون الرمي سديدا لأنه على بصيرة (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين). وهنا ينبغي الرجوع إلى السرد القرآني لقصة سيدنا يوسف عليه السلام. فلم يحصل له التمكين ولم يخضع له الخصوم إلا حين أصبح معلوما عند القاصي والداني، عند الخصم والعدو والصديق: (إنا نراك من المحسنين).
فما السبيل إلى هذا كله، وهو المدخل الحقيقي الذي يؤسس للمداخيل السياسية والقانونية والمجتمعية والفكرية والاقتصادية وغيرها؟
ينبغي هنا أن نضع بكل وضوح تجربة "الإخوان المسلمون" بالنظر إلى مرحلتين في ما مر من تاريخها: مرحلة حسن البنا رضي الله تعالى عنه، ثم المرحلة الثانية بعد وفاته رحمه الله. وسنقتصر هنا على ما يرتبط بموضوعنا هذا.
فالمعروف أن شخص حسن البناء رحمه الله كان محوريا في بناء جماعة الإخوان المسلمين التي تعد أكبر الحركات الإسلامية وجودا وأثرا خلال القرن العشرين الميلادي. وقد حققت هذه الجماعة نجاحات باهرة منذ بداياتها على الرغم مما عانته سواء زمن الاستعمار أو زمن عبد الناصر وبعده، ومن المعروف كذلك أن شخص البنا كان يتميز بقوة التأثير التربوي الإيماني الإحساني، وهو ما يعبر عنه البعض بقوة التأثير الروحي، وإن لم تصحبه قوة فكرية تفصيلية، لكن معالم سير الجماعة وأسس عملها تميزت بالوضوح والحكمة البالغة فيما كتبه رحمه الله أو صرح به في مناسبات عدة سواء بين يدي أعضاء الجماعة أو غيرهم. لقد كان عمل الجماعة بناء على ضوابط عملها وأصوله يرتكز على الحقيقة الإيمانية الإحسانية الكامنة في كيان الرجل رحمه الله، وهو ما أعطى قوة ميدانية للجماعة المباركة من خلال سريان معاني "المأثورات"، سواء في ميدان القتال في حرب 1948م، أو في ميدان المدافعة بمصر.
أما بعد حسن البنا فقد لوحظ أن الجماعة اتجهت كثيرا إلى جوانب أخرى هي من حاجات الدعوة ولا شك، لكن قد غلبت هذه الجوانب على الجانب الذي رعاه الشهيد رضي الله تعالى عنه.
ولئن كان هذا أمرا طبيعيا نظرا لتطور الجماعة وتوسع مجالات وجودها عالميا، فإن الملاحظة المركزية على سير الجماعة هو تراجع روح التجديد على المستوى التربوي من حيث رعاية روح المأثورات كما كان الأمر عهد البنا رحمه الله. ففي الوقت الذي توسعت الاهتمامات الحركية والتنظيمية لم يظهر أن الجماعة ركزت على ضرورة رعاية أصل قوتها وإشعاعها. فهي تعيش في هذا الجانب على بقايا الأثر المؤسس لها إذ كان من المفروض أن يكون هناك توازن كبير بين تطور السير وتعقد المطالب والطوارئ وبين ذلك الأصل الكلي. وهذه هي الثغرة الكلية في سير جماعة "الإخوان المسلمون" اليوم. ومع هذا فهي من الجماعات الأم التي شاء المولى عز وجل أن تكون مصدر تجديد في واقع المسلمين اليوم ومدرسة تخريج الرجال. والحمد لله رب العالمين.
أما النموذج الثاني الذي ينبغي أن يخضع للدراسة والبحث الدقيق في الباب فهي تجربة جماعة العدل والإحسان في المغرب. فبالإضافة إلى الوقائع العملية التي أنجزتها الجماعة في الواقع السياسي والمجتمعي في المغرب في زمن قياسي بالمقارنة مع جل الحركات السياسية والمجتمعية رغم أنها تعرف حصارا منذ وجودها، يمكن الرجوع إلى ما قاله وما كتبه الأستاذ عبد السلام ياسين، خاصة كتاب "العدل" وكتاب "الإحسان" بالإضافة إلى كتاب "المنهاج النبوي" وكتاب "تنوير المؤمنات". كما أن تجربتها في فلسفة التنظيم انسجاما مع حقيقتها الوجودية يعد تجربة متميزة من حيث المضمون والشكل. وهذه دعوة إلى ضرورة أن تجلس القيادات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي إلى دراسة هذه التجربة من جميع جوانبها الكلية والتصورية مع لحظ الجوانب العملية الميدانية لما تحمله من جدة في العمل الدعوي السياسي والمجتمعي. بل قد تكون الدعوة صادقة إلى أن الرجوع إلى هذا الرجل في استنباط كنوز علمه الواسع ودرايته العميقة بالواقع ومطالبه فرصة عظيمة للاستفادة كما استفاد هو من جل التجارب الإنسانية السابقة.
ليست هذه عواطف وتحيز أعمى، كما ليست هذه الدعوة بديلا عن الرجوع إلى أصل الأصول المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين، لكن، وأمام ادعاء الكل أن البديل عن الواقع المعيش هو الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فنحن في حاجة ملحة إلى من يقول من خلال اجتهاد علمي وعملي جوابا على سؤال: كيف الرجوع ولماذا هذا الرجوع؟ فالتقريرات والمناقشات العلمية التي تزخر بها تجربة هذا الرجل في ميدان الدعوة والتربية عميقة حيث تشكل اجتهادا فريدا في إعادة قراءة السيرة النبوية بكل تجرد مع استلهام الحقيقة القرآنية والنبوية مع فقه دقيق للواقع.
وفي انتظار أن تتاح الفرصة للوقوف على هذه التجربة بتفصيل كافي يمكن الإشارة إلى أهم مرتكزاتها:
المرتكز الأول: هو التجديد. والتجديد هنا ليس بمعناه السائد الذي تغلب عليه الجزئية، وليس معناه التبديل والتغيير، بل تجديد كلي وشامل يزيل الحجب عن صفاء الأصل ووضوحه، وهو ينبني على:
1-تجديد الإيمان الذي مقره القلب.
2-تجديد الدين الذي جاء جبريل عليه السلام وجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حضور صحابته وعلمه لهم: إسلام ثم إيمان ثم إحسان.
وهو التجديد الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث: إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.
3-وضوح أفق الريادة وهو أفق الخلافة الثانية التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ملك عاض ثم جبري.
وهذا المشروع التجديدي يتنافى ويتعارض جوهريا مع كل أشكال العنف والتجزؤ والغموض والخوف.
المرتكز الثاني: إعادة بناء جماعة المسلمين، لأنه أصل ضاع مبكرا، وهو مطلب شرطي اليوم في عملية تجديد السير الفردي والجماعي. كما أنه وسيلة هامة في لم الشمل وتوحيد الجهود. وهناك فرق كبير بين السعي لبناء تنظيم ذي صبغة إسلامية وبين إعادة بناء جماعة المسلمين. وعدم التفريق بين الأمرين من الناحية التصورية والعلمية والعملية هو ما ترتب عليه كثير من الغموض والارتباك واللبس في عمل كثير من العاملين في حقل الدعوة والعمل الإسلامي.
المرتكز الثالث: ريادة الغاية الإحسانية: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ومن مقتضيات ذلك أن تكون القيادة لأهل الإحسان الذين هم أهل البصيرة كما كان زمن النبوة والخلافة الأولى. ودون ذلك فقه ومقاصد، وعلم ووسائل. (واتقوا الله ويعلمكم الله). (ومن يتق الله يجعل له مخرجا).
عود على بدء..
ربما تهيمن على شباب المسلمين اليوم حيرة وهم ينظرون إلى ما يعيشه المسلمون من معاناة وما هو مسلط عليهم من عذابات وابتلاءات على يد غيرهم، وما يعرفونه من تشتت وضعف مخزي، وهزالة في اجتماعات الحكام ومهازل صراخهم وعويلهم وانفضاح أمرهم وانكشاف عمالتهم وولايتهم المطلقة لمن يعرض عنهم متى شاء ويرضى عليهم متى شاء. حتى أنه ملك الجرأة أن يملي عليهم الإصلاحات الضرورية جهارا بعد أن كان يمليها سرا وتلميحا.
ما العمل وما السبيل؟
كل متأمل في كتاب الله تعالى ومتمعن في السنة المطهرة وقارئ لكتاب العالم من خلال آيات القرآن الكريم لايحصل له إلا الاطمئنان، لكنه ممزوج بالأسى والألم القلبي والحسرة على أمة هي خير الأمم لما أوصلته إليها دسيسة حكام ليسوا منها تسلطوا على رقابها زمنا طويلا حتى سلموها لقمة سائغة لمن تربص بها منذ أن كانت أمة رسالة.
رغم الأسى والألم فهناك الاطمئنان:
1-لأن هذا الدين تكفل الله بحفظ أصوله وفروعه.
2-لأن هذه الأمة مرحومة بالنص القطعي. ومن رحمته تعالى بها أنه تكفل سبحانه ببعث من يجدد لها دينها، وذلك فضل الله يؤتيه من ويشاء. وما على المرء إلا أن يسأل فضل الله وأن يكون من جند الله.
3-لأن قضيتنا عظيمة، وكل قضية عظيمة يكون مخاض انباعتها وظهورها عسيرا بحجم عظمتها، و أي شيء أعظم من قضية الإيمان والدعوة إليه. لكن هذا العسر هو علامة على اليسر. كيف لا وقد قال الله تعالى: (إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا). فقال العارفون: ما غلب عسر يسريين.
4-لأن هذا الذي نعيشه كله علامة على أن هذه الأمة علمت أن خلاصها في دينها ورجوعها إليه.
5-لأن التاريخ علمنا أن شراسة الغافل في البطش دلالة على قرب نهايته الحتمية.
6-لأن التجربة علمتنا أن الأشياء تعرف بضدها. بهرتنا حضارة الغرب زمنا طويلا حتى سرقت منا أبناءنا. وها قد انكشف عوارها، كانت مجرد سراب خادع فكشفت عن ساقيها: عنف على الإنسانية وصد عن الله. فلعل ذوي العقول الراجحة من المغربين يرجعون كما رجع الكثير منهم، ولعل ذوي العقول الراجحة في الغرب ينبهون إلى حقيقة المقابل الذي هو الإسلام.
7-لأن هذه الدنيا فانية ولا تساوي عند الله جناح بعوضة، وما هي إلا معبر إلى الآخرة، دار البقاء والخلود مما يدفعنا إلى التشمير والاستعداد لإصلاح نفوسنا واكتمال توبتنا لعرض الإسلام عرضا سليما وقويا لعل الله أن يهدي بنا من أضلته هيمنة حضارة مقطوعة عن الله جاهلة بحقيقة الإنسان وبحقيقة وجوده.
(إن الدين عند الله الإسلام).
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
(ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه)
(هذا ببلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب)
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله لاإله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)
والحمد لله رب العالمين
مراكش في: 10/05/2004
بقلم الكاتب و الباحث مبارك الموساوي