لأجل تجاوز المنهجية الأصولية التقليدية
قصد تجديدها (1)
الفهرس
1- تنبيه
2- السياق التاريخي لبناء المنهجية الأصولية التقليدية
1- تنبيه
في البداية ينبغي التنبيه إلى مقدمة هامة لتفويت الفرصة على أي تشنج قد يثيره العنوان أعلاه، إذ يصعب الحديث عن تجاوز منهجية ضاربة زمنا طويلا في البناء الفكري والنفسي الإسلامي وتتمتع بالهيمنة المطلقة على نظام التفكير وطريقة تعامله مع القضايا كلية كانت أم جزئية، بل صارت عند البعض من شبه المقدسات التي يعني المساس بها خروجا عن الصراط المستقيم كما يتصوره هذا البعض.
ولاشك أن خطورة الأمر تكمن في كون هذه المنهجية أصبحت الوسيط الأساس في مخاطبة الوحي واستكناه كنوزه من العلم وأحكامه مما يزيد البحث تعقيدا.
ولذلك فالتجاوز هنا لا يعني القطيعة التامة والتقليل من قيمة وقدر هذه المنهجية العظيمة والفذة، التي تدلل على عبقرية العقل المسلم وصرامته، بل هو محاولة للخروج من قبضة تاريخية منهجية ممتدة في الزمن والنفس لإعادة توظيفها في سياق فكري وحركي متجدد يفتح أفق التغيير والبناء الكليين لترجع أمة رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلى موقع الريادة وخدمة الإنسانية على الطريقة النبوية. ومن الواضح أن إعادة بناء هذا السياق والبحث عن نتائجه البنائية الواقعية على أرض الواقع سيحدث تغييرات جوهرية على هذه المنهجية بحيث يجعلها أداة بناء قوية ضمن حركة الأمة المتجددة، إذ سيرد الاعتبار ويفتح الباب لقضايا أخرجها السياق التاريخي الذي عاشته الأمة من دائرة التأثير في بناء العلوم وقضاياها ومنهجياتها، ومن ثمة في نتائجها العلمية والعملية، ذلك أنه لن يحدث أي تغيير مهم على أرض الواقع في كل المستويات والمجالات ما لم يتم تجديد المنهجية القابضة على نظام التفكير والموجهة لطريقة التعامل مع الوحي والقضايا الواقعية، لأن الواقع المعيش والمستقبل المنظور وحجم مطالبه يحتمان بناء منهاج متكامل للتخاطب مع الوحي، قرآنا وسنة، وإعادة عرضه عرضا شاملا يجدد ويوجه المنهجية الأصولية التقليدية.
وقبل أن نبحث بشيء من التركيز في بعض قضايا تجديد هذه المنهجية نعرض للسياق التاريخي التي نمت واشتغلت ضمنه.
حينما يسجن المرء نظام تفكيره في نطاق منهجية صيغت لضروراتها في سياق تاريخي معين إنما يكون على صورة من يفكر من خلال عصر مضى بمعطياته وحيثياته وتفاصيله وقضاياه ومسائله لعصر آخر يختلف عنه تماما من حيث ما يحدث فيه وما يعترض حركة الإسلام في الواقع الخاص والعام. لذلك يلزم البحث العلمي أن ينتبه إلى الأحداث التاريخية الكبرى التي لها التأثير المباشر في العلوم وقضاياها ومواقعها في بناء الفكر وصناعة التفكير وإخراج النتائج العلمية وتكريس وقائع اجتماعية وسياسية ومجتمعية تفرض نفسها وتحتل مكانة القداسة في عرف الناس وهي غير ذلك.
إن فتح أفق التغيير الجذري يتأسس في درجة ثانية، بعد درجة تجديد الإيمان، على عملية فكرية هائلة تحدث تحولا كليا في نظام التفكير الإسلامي، خاصة لدى العلماء والمفكرين والفقهاء والمثقفين والمتصدين لقضايا الشأن العام، وتعيد ترتيب الأصول ومعناها، ومن ثمة تجدد المنهجية الأصولية بما يجعلها مؤهلة للتصدي لقضايا العصر ومستقبل الإنسانية لتنتج فقها جامعا لتجاوز البعثرة العلومية والفسيفسائية الجغرافية والسياسية والإرادية.
إننا هنا أمام عناصر انتفاضة فكرية كبرى تعيد تنظيم العلاقة مع الوحي وتصححها بما يجسد عمليا بناء الفرد[1] وبناء الجماعة[2] وبناء الأمة وخدمة الإنسانية[3].
ولاشك أن من الأهداف المباشرة لهذه الانتفاضة إزاحة ثقل تاريخي علومي حاجب عن عملية تفكير جامعة تنظر من خلال كليات الوحي التي تشكل معمل صياغتها وصناعتها، أي عملية التفكير، وتتفاعل على أرض الواقع عبر حركة هذه الكليات لا من خلال تفاعل ذهني يومي مع جزئيات مبعثرة هنا أو هناك.
ولينفتح هذا النظر، لابد من الوعي بالترابط الحاصل بين التحولات التاريخية الكبرى وبين مناهج التفكير والفكر، بحيث تتأثر هذه الأخيرة بشكل كبير بنتائج هذه التحولات العلمية والعملية، وهو ما يفرض الكفاءة العلمية الكاملة لتفسيرها، أي التحولات التاريخية، واستيعابها حتى لا تصبح مصدر بناء نظام التفكير ومناهجه حيث يصير ساعتها الإنسان منفعلا معها عوض أن يكون فاعلا. ومن المعلوم أن التخاطب مع الواقع من خلال كليات الوحي يختلف تماما عن التفاعل معه من خلال تفكير جزئي خاصة إذا كان مبعثرة كما شأن العلوم والواقع الإسلاميين اليوم.
وإذا سلمنا بهذه القاعدة فلنقارن بين اشتغال الصحابة وهم من موقع الحكم يتخاطبون مع مستجدات الوقت وطوارئها من خلال كليات الوحي وبين علمائنا بعد ذهاب الخلافة وتحولها إلى ملك عاض أو عضوض بنص الحديث النبوي الشريف، إذ في الصورة الأولى الدعوة مجتمعة مع الدولة من خلال الوعي الصحابي بموقع كل واحدة من هذه المؤسسات في حركة المجتمع الإسلامي، وفي الصورة الثانية حصل العكس بحيث تغيرت المواقع واختلفت الأدوار بهيمنة منطق الدولة الفردانية على الدعوة وتهميشها التي تحولت مع مرور الزمن إلى عمل الأفراد، فهُمش العلماء بما هم رجال الدعوة، مما أدى إلى إقصاء المجتمع كليا لتبقى إرادة الحاكم هي الكل في الكل مع بعض الاستثناءات.
وبعد حوالي قرنين من هذا الانحراف في بناء الأمة السياسي والمجتمعي سينتبه الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى، إلى الخلل الذي حصل على مستوى التعامل الاستنباطي مع الوحي فألف رسالته الأصولية الشهيرة لعيد بناء نظام التفكير عند التخاطب مع الوحي لأجل استكناه
وانتبه أهل الحديث، رحمهم الله تعالى، إلى ضرورة تحقيق انتساب السنة إلى صاحبها سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فجرحوا وعدلوا وأسسوا قواعد ذهبية لعلم انفردت به أمة الإسلام علم "الجرح والتعديل".
وانتبه أرباب القلوب إلى سر البعثة النبوية التي بدأت تضيع بين موجات الاهتزاز النفسي والفكري والعقدي والاجتماعي؛ إنها حقيقة الدعوة إلى الله تعالى والإقبال عليه، فأسسوا علم "المعاملة القلبية مع الله تعالى".
وصار في كل اتجاه ومسلك خريج هذا الطريق أو ذاك يكافح وينافح عن الإسلام ويقدمه من موقعه للناس ويواجه به طوارئ الزمان.
لقد كانت محاولات الجمع ناذرة بين هذه المسالك، ليس من حيث الإلمام والإحاطة فجل علمائنا موسوعات كبرى وعظيمة في كل العلوم، لكن من حيث اكتشاف الحبل الناظم والروح الجامعة. وفي هذا المقام يبرز أنموذج العالم الرباني عبد القادر الجيلاني خلال القرن السادس الهجري، ولكنها محاولة لم تكتمل إذ كان هم الرجل ابتداء أن يبرز أصل الطريق إلى الله تعالى ومصدر العلم؛ إنها قضية تحقيق "الصحبة" لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (ولنا إن شاء الله تعالى عودة لهذا الموضوع الخطير ولعلاقته بعلم أصول الفقه ومنهجيته التقليدية).
فلن يحصل الجمع المطلوب إلا من خلال نموذجين لا ثالث لهما:
الأول: من نظَر من موقع الحكم من حيث هو أداة كلية ضرورية قائمة: نموذج الصاحبة مع الخلاقة الراشدة.
الثاني: من نَظَّر من موقع ضرورة الحكم لحركة الإسلام لتحصل الاستقامة اللازمة والحكمة البالغة لحركة الأمة، وتوفر على خطة متكاملة لإنجاز مهمة إقامة الحكم.
إن المنهجية الأصولية لما لم تصغ من خلال أحد هذين الموقعين تحولت إلى أداة جزئية.
وإن "علم الجرح والتعديل" لما لم يصغ من خلال أحد هذين الموقعين تحول إلى أداة تكفير وتخريج من الملة والعقيدة.
وإن علم "المعاملة القلبية" مع الله تعالى لما لم يصغ من خلال أحد هذين الموقعين صار انزواء وربما شطحات و"مهدويات".
وخلاصة الأمر في هذا، أن الأمة في حاجة إلى أن تبحث عن معنى الحكمة النبوية لتخرجها من المعنى الفردي إلى المعنى الجماعي، لأن الحكمة بالمعنى النبوي لما تغادر قوقعة الفرد وتنتقل إلى قلب الجماعة تصبح هي عين السياسة التي تعب الكثير في البحث عنها في مواضيع "السياسة الشرعية".
من هنا فالأمة في حاجة إلى الفقه الجامع، ولاشك أن المنهجية الأصولية التقليدية لن تنتج ولا تنتج إلا جزء يسيرا منه ما لم تخرج من قوقعة البحث عن الحكم الجزئي لتعانق حركة البحث عن إنتاج كليات علمية لتواجه كليات عملية وتعالجها على الطريقة النبوية الكاملة. فنفهم من كل هذا أن المنهجية الأصولية التقليدية لما لم تصغ من أحد الموقعين المذكورين تميزت بميزتي: التجريد والتجزيء مع مرور الزمن، وهما ميزتان منسجمتان مع السياق التاريخي الذي احتضنها، دون أن ننكر أن في لحظات دقيقة من تاريخ الأمة أطل رجال على كليات الشريعة من بوابة البحث المقاصدي كما الشأن مع العز ابن عبد السلام والجويني والغزالي وابن تيمية وابن القيم والشاطبي، وغيرهم، رحم الله الجميع، لكن فقدان أحد الموقعين المذكورين جعل تلك الإطلالة صيحة لعلها تكون رصيدا معنويا وعلميا يساعد على فتح أفق التجديد الكبير والشامل المطلوب اليوم.
بقلم الكاتب و الباحث مبارك الموساوي
ملحوظة: تفاصيل الهوامش في نهاية أخر جزئ من المقال إن شاء الله
ملحوظة: تفاصيل الهوامش في نهاية أخر جزئ من المقال إن شاء الله