منطلقات التفكير السياسي في مستقبل المغرب
أولا: تقديم
التفكير السياسي في مستقبل المغرب عملية ذهنية لإنتاج الفكر السياسي من حيث هو تصورات ودلالات سياسية لمعالجة المرحلة ضمن إنجاز جميع مراحل البناء والتغيير بالانتباه إلى مداها المستقبلي الذي ينبغي أن يكون في جميع الأحوال والصور مستقبل الحرية والكرامة والوحدة والقوة والاستقلال.
ومن ثمة فإن المعيار في تقييم وتقويم عمليات التفكير السياسي في مغرب اليوم لا ينطلق من الحجم والكم الذي تفرزه تلك العمليات بقدر ما ينبغي الانتباه إلى مستوى كفاءتها في تقويض كل أشكال الاستبداد والفساد ومستوى قوة اختراق البنية الراكدة على قيم مناقضة لقيم الحرية والكرامة واستكمال الاستقلال وصناعة واقع القوة والوحدة للشعب المغربي.
إن العمل السياسي الناجح ثمرة تفكير سياسي صائب ينتج فكرا سياسيا قادرا على تأطير ورعاية كل مراحل البناء والتغيير، ولذلك فالمطلوب تدقيق منطلقات عملية التفكير الجامعة هاته بمعيار النظر المستقبلي والاستراتيجي الواعي بتلك المراحل والعالم بها وبتفاصيلها حتى يقطع من امتداد كل العناصر السلبية المعنوية والبشرية والمادية مستقبليا.
إنها قضية الحرية الحقيقية أو الضياع الشامل بين مثالب قبضة تاريخية قاتلة: استبداد سياسي وركود مجتمعي وهيمنة استعمارية وتبعية عمياء.
ثانيا: منطلقات التفكير السياسي في مستقبل المغرب
أ- منطلقات مرجعية:
يراد بمغرب اليوم، بعد الحسم في تثبيت واقع الاحتكار والتحكم الكاملين في السلطة والدولة وملئهما بحقائق نظام سياسي قائم على منطق الاستبداد المطلق، أن يدخل في متاهات التشرذم المرجعي المفضي حتما إلى تفتت مجتمعي لا ينتج إلا واقع التقاتل المقيت والتباغض الرهيب والفتن المظلمات، وذلك من خلال حرص البعض على الاشتغال الكبير المستند على دعم معنوي ومادي ناتج عن واقع الهيمنة الدولية العولمية على محاور تضرب في الصميم الوحدة المرجعية للشعب المغربي عبر تحويل بعض المطالب الثقافية إلى حركة تصورية لها أصلها المجتمعي بما ينشئ انقساما عموديا خطيرا في البناء المجتمعي والسياسي للشعب المغربي (المسألة الأمازيغية مثلا...).
وإذا كان هذا أمرا واضحا ومخططا له من طرف دهاقنة المشروع التشرذمي، فإن المستقبل السياسي المنظور في المغرب إذا لم ينتبه إلى مدى خطورة مثل هذه المشاريع سيكون مهددا بواقع من الضعف القاتل والمشل لكل معاني الحياة الجماعية.
وإذا أضيف هذا إلى واقع المغرب الجيوسياسي فلاشك أنه سيكون فريسة مباشرة للأطماع الصهيونية الصليبية الاستعمارية التوسعية كما هو الشأن طيلة تاريخه.
وعليه، فإن التفكير السياسي في مستقبل المغرب ينبغي أن يستند على وعي مرجعي جامع يدقق كليا في العلاقة مع الإسلام من حيث هو مرجعية كلية اختارها الشعب المغربي طوعا لا كرها في إطار عملية تحول تاريخي قدم جميع البراهين العملية على اختياره الحر، أهمها: أنه لما اكتشف قيم الإسلام حملها طوعا لا كرها إلى جنوب فرنسا وأدغال إفريقيا وجاهد من أجلها دون إكراه.
إن الشعب المغربي صنع تاريخا هائلا على قاعدة هذا الاختيار المرجعي المسند بحقائق التاريخ الذي يراد لها التحريف اليوم. ومن ثمة فلا يجوز في إطار عملية غامضة أن يتم السكوت والتنازل عن حجم هذا الاختيار وقيمة ذلك التحول التاريخي ونسيان حجم التضحيات بالتطوع لا بالإكراه في لحظة ضعف وهيمنة استبداد مقيت لقرون من الزمن، كما لا يمكن التفريط في وحدة شعب وترابه باعتبار واقع توازني سياسي ومجتمعي يحكمه منطق مخزن مهيمن هيمنة مطلقة على قواعد الاستبداد والاحتكار المطلقين. ولذلك فالمنطلق المرجعي الأم في عملية التفكير السياسي في مستقبل المغرب ينبني على:1. حقيقة اختيار الشعب المغربي الطوعي للإسلام وأن تاريخ المغرب الحديث بني على هذا الاختيار الطوعي.إنها حقيقة قائمة عبر قرون من الزمن ويشهد عليها الواقع، أما أن تستغل نتائج هيمنة الاستبداد لقرون في تحالف، عند لحظة ضعف، مع هيمنة غربية، للطعن فيها على أساس كبير من الغموض فذلك تزوير فضيع للتاريخ وحقائقه، وهو ما يتعارض جوهريا مع مطالب وحقائق مصير شعب بكامله.
ولذلك ينبغي أن يخرج دعاة التأصيل المجتمعي لدعوات مرجعية غير مرجعية الإسلام من البناء على معطيات غامضة ومشكوك فيها علميا وسياقيا إلى مستوى من الوضوح في مخاطبة الواقع المغربي تاريخيا وواقعيا ومستقبليا بالكشف عن طبيعة المرجعية الجامعة دون مزايدات سياسوية لن تصب إلا في مصلحة المتربصين بالوطن وخيراته.
إن التحدي الكبير في هذا المستوى من التدافع الفكري والسياسي والمجتمعي هو أن يبنى على وضوح وجرأة علميتين مع تجنيب الشعب المغربي كل أشكال التمزق والتشرذم والتقاتل.
وعليه، فإن البناء على معطيات لم تتحول بعد إلى أصل مجتمعي وحقائق واقعية مغالطة في حق شعب صنع تاريخا عظيما، على الرغم من قهر الاستبداد وتسلطه، يعتبر تزويرا لإرادته لا تقل مقتا وخطورة عن التزوير الذي مارسه في حق تلك الإرادة الاستبداد قديما وحديثا.2. إن الاشتغال ضمن المرجعية الإسلامية الجامعة لا يعني تضييع الحقوق ولا ينفي التعدد الإيجابي لكنه لا يسمح بالتعدد السلبي.من سلبيات الاشتغال الغامض على معطيات تاريخية غير موضوعية ولا علمية بأهداف سياسوية تمزيقية أن يكرس في الواقع العام تعدد سلبي، لأن ذلك الاشتغال مبني على مقاصد انشطارية عمودية وأفقية للمجتمع المغربي، وهو ما يقصي تلقائيا التعدد الإيجابي الذي يعبر عن التفاعل الصحيح داخل حركة المجتمع المغربي المنجمعة من خلال الحسم الواضح في إحاطة المرجعية الإسلامية بكل تفاصيل الحياة السياسية والمجتمعية والاجتماعية.
ولذلك، فمن المغالطات التهويل من المعطى القبلي واستغلال هذا التهويل الإعلامي والكلامي للضغط على الواقع قصد تحقيق مكاسب ليس لها أي عمق تاريخي ومستقبلي بقدر ما هي وقائع مكرسة للضعف على جميع المستويات وفي جميع المجالات.
إن وضوح الموقف من المرجعية الإسلامية بما هي اختيار حر للشعب المغربي يشكل مدخلا مهما لبناء واقع تدافعي سياسي ومجتمعي يؤهل لمرحلة مهمة في عملية التفكير السياسي في المستقبل المغربي بما يؤسس لواقع سياسي قوي وحر ومستقل يتمتع فيه الجميع بحقوقه المناسبة ويقوم قبلا بواجباته تجاه وطنه وشركائه فيه من حيث المرجعية والمصير الجامعين فتكون الحياة مع الاختلافات الفرعية عنصر تفعيل وتجديد وحيوية وجدوى للواقع السياسي والمجتمعي والاقتصادي والاجتماعي بما يخدم المستقبل الجامع.
ب- منطلقات سياسية:
إن التفكير السياسي في مستقبل المغرب وإن بني على وضوح من حيث الحسم في المرجعية الجامعة، وفي حالة المغرب هي المرجعية الإسلامية، لن تكون له أية فعالية، سواء من جهة اختراق البنية السياسية الواقعية الراكدة والجامدة على قيم متخلفة، أو من جهة استشراف مستقبل الحرية الفاعلة بتقويض، إلا إذا توفر على كفاءة سياسية قادرة على إبعاد كل عناصر إفساد العملية السياسية في المغرب وبناء واقع العناصر الإيجابية العلمية والبشرية والمؤسساتية كل معاني الاستبداد وهدمها، لذلك ينبغي أن تبنى عملية التفكير السياسي في مستقبل المغرب على:1. تجاوز قبضة المخزن والتحرر الكامل من هيمنة القواعد النظامية (نسبة إلى النظام السياسي).إن هذا التجاوز ليس توهما، بقدر ما هو اعتبار للمعطى الواقعي المتجلي في التجاوز الحاصل واقعيا لكل الأنظمة الاستبدادية بحيث لم يعد لها أي امتداد في المستقبل. فهي اليوم تغالب الموت في لحظة ضعف القوى السياسية الحقيقية وعدم قدرتها على إنجاز مهام التغيير.
ولذلك، فاعتبار في المستقبل ما لم يعد جزء منه مغالطة منهجية وعلمية مؤثرة بشكل جوهري على مضمون عملية التفكير السياسي في مستقبل المغرب حيث عدم الانتباه إلى حقيقة التجاوز العملي لقبضة الاستبداد وآثاره على مضمون العملية السياسية في المستقبل يشكل عائقا حقيقيا أمام إنجاز فكر سياسي حر وبان ومؤهل للتصدي لقضايا العصر وإشكالات التاريخ لأنه سيكون عامل حاسم في استمرار العجز والضعف والشلل.
فقد يبدو للبعض أن هذا التجاوز وإن كان ضروريا فهو من المستحيلات لكون النظام السياسي صار منذ زمان القوة الكبرى في المغرب بسبب احتكار السلطة والمال والاقتصاد وعناصر القوة في المنافسة الاقتصادية والتجارية والمالية للجميع في نفس الوقت الذي يحتكر السلطة ويوظفها لصالحه.
إن هذا التقدير ناتج عن عاملين مهمين:
الأول: عدم امتلاك القدرة العلمية والتصورية على تفكيك بنية النظام السياسي في المغرب تفكيكا يسمح بالكشف الجوهري عن مدى هشاشتها وعدم امتلاكها مقومات الامتداد المستقبلي، إذ تثبت التجارب التاريخية أنه مهما كانت قوة النظام السياسي المستبد فإنها لا تصمد على الإطلاق أمام نهضة الأمة الواعية نحو تحقيق واقع الحرية الكاملة.
ومن ثمة فإن الرهان العملي أساسا على كيفية عرض قضية الشعب المغربي عليه وعلى العالم لتصبح بالنسبة إليه مسألة حياة أو موت وفق حركة وعي كبير مؤطر لجميع مراحل التغيير والتعبئة والبناء.
الثاني: عدم انخراط القوى الحية لحد الآن في عملية كبرى نهضوية تغييرية واعية بكليات حركة الشعب المغربي في التاريخ ماضيا وحاضرا ومستقبلا، إذ حجب كثير من الناس انتكاسات الواقع تحت قبضة الاستبداد عن كل قيم وعظمة الشعب المغربي وقدرته على إنجاز المهمات التاريخية. 2. اكتشاف المدخل الفكري والسياسي المجتمعي التعاقدي لصناعة القوة الناهضة لأجل إنجاز مهام المرحلة ومطالب المستقبل.إن التفكير في المستقبل السياسي للمغرب ينبغي أن ينطلق من ضرورة إنجاز القوة المجتمعية المتعاقدة على وضوح ضمن نهضة الشعب الواعية، وذلك لسد الفراغ الحاصل بين يدي الاحتكار المطلق من جهة الاستبداد.
ومن معاني هذا أن ينطلق التفكير السياسي في مستقبل المغرب من اعتبار تجاوز البنية الحزبية القائمة اليوم واقعيا وقانونيا بما يفتح الأفق أمام بناء قوة مجتمعية اقتراحية.
وهذا التجاوز للبنية الحزبية القائمة اليوم، وكذلك تجاوز ما يصاحبها من مؤسسات مجتمعية ذيلية وضعيفة، لا يعني الإقصاء بقدر ما يعني صناعة واقع الضغط المجتمعي والفكري والسياسي الذي يدفع في اتجاه تحويلها إلى مؤسسات فاعلة تقصي من داخلها بشكل تلقائي العناصر الفاسدة والمفسدة والمتحالفة مصلحيا بشكل اضطراري أو استراتيجي مع الاستبداد ومكرسة للتبعية، ومن ثمة يحصل تحولها إلى مؤسسات فاعلة ومتصالحة مع الشعب وقاطعة مع كل أشكال الاستبداد والتزوير وإقصاء الأمة من المشاركة في صناعة مصيرها على قواعد من الحرية.
إن التفكير السياسي في مستقبل المغرب حين يبنى على القطع مع الاستبداد وأنظمته السياسية وأساليبه الاحتكارية والعمل على بناء المؤسسة المجتمعية على قواعد مشروع تحرري ينجز من خلال عمل تعاقدي مجسد في ميثاق جامع تحتضنه الأمة بما يرجع لها الاعتبار والمكانة الطبيعية في رعاية حركة مؤسساتها نحو مستقبل الحرية والقوة والاستقلال يشكل مدخلا هاما في بناء مستقبل سياسي يقوم فيه المغاربة بمهامهم التاريخية، أما ضياع وقت وتاريخ المغاربة في متاهات فكرية قزمية لا تصمد أمام تمادي قوة الاستبداد على المكر والمخاتلة والتسويف إنما هي نوع جريمة في حق هذا الشعب لاشك أن التاريخ سيجلها وسيحاكم أصحابها.
إن الحرية تاج على رأس الأمة وإن لم تنهض للدفاع عنها وحمايتها والحفاظ عليها سيسرقها سراق التاريخ ومزورو الحضارات ونهابو الخيرات.
وعليه، فلا مستقبل للمغاربة حرا وكريما إلا من حيث الاشتغال على قواعد مرجعية الإسلام الجامعة الضامنة لكل القيم النبيلة والحقوق المصونة والقطع مع الاستبداد وتجاوز أنظمته ومؤسساته تصوريا وعمليا. وتلك مهمة تاريخية. فأين رجالها وناسها ومؤسساتها، والله وحده المستعان وعليه التكلان؟
بقلم الكاتب و الباحث مبارك الموساوي