في هذه الحلقات ننشر بحول الله تعالى كتاب
"في فقه الدعوة إلى الله جل جلاله"
الحلقة 1
مقدمةبين يدي الحركة الإسلامية الصاعدة اليوم كتب الكثيرون ويكتبون عن الدعوة ومجالاتها ومقاصدها ووسائلها. وبين يدي إقبال الناس على الإسلام ينتظرون ما سيقدمه الدعاة أجوبة عن سؤالات الإنسانية المعذبة بفعل "حضارة" مقطوعة عن الله، محاربة للدين لجهلها المركب؛ جهل بالإنسان عنف عليه، وجهل بالله إعراض عنه سبحانه.
كيف يتقدم الدعاة إلى الإسلام والدعاة إلى الله إنقاذا لعيال الله؛ خلق الله، كل الخلق، مما يعانون منه اليوم؛ عنف شامل، وكراهية مطبقة، وصراع مقيت حتى بين الإخوة، وكل ذلك بما كسبت أيدي الناس لعلهم يرجعون؟
فمن يدلهم على الرجوع؟ وإلى أين الرجوع؟، وكيف الرجوع؟ وما مطالبه ووسائله ؟ هذه الأسئلة المؤرقة وما يتفرع عنها ما يجيب عنه إلا فقه الدعوة إلى الله جلا جلاله.
فما هو هذا الفقه؟ وما مصادره الجامعة؟ وما موضوعاته الكبرى؟ وماقواعده الكلية؟
إن الالتباس في مفهوم الدعوة؛ كأن يعطى المعنى الوعظي والخطابي وكفى، أو يعطى معنى الدعوة إلى الفكرة الإسلامية في هذا المجال أو ذاك مثلا، أو أن يطعى معنى الدعوة إلى شرائع الإسلام والحدود الشرعية فقط، وغير ذلك من المعاني، لاشك أنه يؤدي إلى اختلالات في الفهم والسلوك سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي.
ولذلك فإن معنى الدعوة إلى الله جل جلاله معنى شاملا. إنه باختصار: الاتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بناء الفرد والجماعة والأمة وخدمة الإنسانية بقيام نظام عالمي يضمن كرامة الإنسان ويسعى لتنظيم حياة البشر على قواعد العدل الشامل.
ومساهمة في أن يستقيم نظام التفكير والعمل وصناعة فقه دعوي ستسعى هذه الورقيات بتركيز شديد أن تسبح لربها من خلال الخوض في هذا الموضوع الخطير في حياة الناس فرادا وجماعات وأمما.
وقبل الغوص في محاور الموضوع، ومن باب الموضوعية العلمية، لابد من الإشارة إلى أن هذا الكتيب لايتجاهل التجربة الشيعية التي توجت بقيام الإمام الخميني، رحمه الله، بقومته الإسلامية التي أبهرت العالم، ولاشك أنها خدمت الإسلام، لكنها تجربة لها خصوصياتها، ولها ما لها وعليها ما عليها.
ولئن كانت كثير من قضاياها مدرجة ضمنا في هذه الصفحات، فإن دافع إرادة عدم تشويش بعض القضايا الخلافية على استراتيجية الكتاب ومنهجيته المعتمدة تم تعميم الخطاب في قضايا جامعة في محاولة مقصودة للتخلص من قبضة أخطر شرخ صدم الأمة : سنة شيعة، ولذلك فالتجربة الشيعية عبر تاريخها تحتاج إلى دراسة مستقلة من خلال إعمال القواعد المعتمدة في هذا الكتيب، إذ تكمن استراتيجيته في إحداث التغيير المطلوب للوقوف بين يدي التجربة النبوية والراشدة تعلما وتلمذة، وهو ما يعني أن غناء التجربة الشيعية يخول الاستفادة منها، وهي مرحلة هامة اليوم من مراحل بناء المستقبل الإسلامي بعد قومة الخميني، رحمه الله، لكنها ليست الأصل رغم قوتها في زمان الذل والعجز العربيين والإسلاميين المعيشين، كما أن تاريخ أهل" السنة والجماعة" ليس هو الأصل، وإن كان من الناحية العلمية يوفر إمكانية كبيرة للتخلص من قبضة التاريخ للانفتاح كليا على المرحلة النبوية الجامعة التي على ضوئها تقرأ كل التجارب والأوضاع القائمة بعدها إذا توفرت الكفاءة العلمية والإرادية والعملية لتجاوز تلك القبضة وحصول ذلك الوقوف الكامل واليقظ بين يدي السنة النبوية في كليتها وشمولها بماهي قرآن يمشي بين الناس.
الفصل الأول
معنى فقه الدعوة
إلى الله جل جلاله
أولا: معنى فقه الدعوة إلى الله جل جلاله
الفقه في اللغة يدور على معنى العلم والفهم والإدراك والمعرفة. والفقه هنا يجمع بين أمرين:
الأول: العلم بماهية الدعوة إلى الله تعالى، وبموضوعها، وبطرق كسب ذلك العلم.
والثاني: العلم بقواعد وأحكام تنزيل ذلك على واقع الناس في كل تفاصيله وحاجاته.
فنحن هنا، إذن، في حاجة إلى أمرين عظيمين: العلم بحقيقة الدعوة، والعلم بطريقة تنزيل تلك الحقيقة لتصبح واقعا معيشا ومهيمنا على الحياة ومنظما لها وصانعا لمضامينها.
فالعبارة مركبة من شطرين؛ الشطر الأول: فقه الدعوة، والشطر الثاني: إلى الله جل جلاله.
وهذا التقسيم مفيد لأنه محدد لماهية الدعوة إلى الله جل جلاله، ومبرز لنوع الفقه المطلوب تحصيله، لأنها دعوة ليست كباقي الدعوات، لأنها إلى الله جل وعلا.
فالدعوة هنا تعني الدلالة على الله، لكن هل يدل على الأمر من لا يعرفه ولايعلم به.
إن فقه الدلالة على الله يبدأ أولا وآخرا من حصول العلم بالله تعالى والمعرفة به سبحانه.
ولنا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم العبرة والأسوة الحسنة لمن أراد الآخرة وذكر الله كثيرا؛ كيف هيأه الله تعالى لتلقي القرآن الكريم؛ القول الثقيل.(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً )[المزمل آية:5].
ياسابحين في الفكر الإسلامي وعوالم الكون والنفس ما الدعوة إلى الله جل جلاله هذر وكلام وفكر وصفحات من مداد إلا إذا نفخ في ذلك كله من روح المعرفة والعلم به تعالى جد ربنا.
ذاك التهيئ الإلهي لنبيه إنما لنتعلم أن الدعوة إليه سبحانه استعداد وإعداد قلبي لتلقي معاني الوحي والغيب التي شاء الله تعالى أن يكون القلب وحده مجالها وموطنها لتتسرب إلى باقي الجوارح فتجعلها على الاستقامة المطلوبة للقيام بالواجب المطلوب في واقع الناس، وإلا فما يعرف حقيقة سيد المتقين وإمام المرسلين إلا هو سبحانه، وقد يطلع أحبته على قدر محبتهم له صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم على ما يشاء من قدره صلوات الله عليه وسلامه.
وفي القرآن الكريم عبرة؛ فبعد أن سرد الله تعالى على نبينا الكريم؛ سيد العارفين بالله وإمام الدالين عليه سبحانه قصة سيدنا يوسف عليه السلام: قال له يا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف آية: 108). وفي آية أخرى: يا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: الآية 107]). وفي أخرى: يا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً).[الأحزاب: 45-46].
هذا السراج المنير هو مصدر النور الدال على الله، هو القرآن الذي كان يمشي بين الناس، هو الرحمة للعالمين، هو الشاهد القائم بالقسط الذي أقام كلي الدين على أرض الواقع بمقتضى أمر ربه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [النحل الآية: 90] .
فقد قال العلماء الأفذاذ: إن جميع المصالح التي جاء بها الدين مجتمعة في (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، وإن جميع المفاسد التي نهى عنها الدين مجتمعة في (الفحشاء والمنكر والبغي) لذلك لما أمر بالعدل والإحسان نهى عن ضدهما. وكل ذلك وعظ منه سبحانه لعلنا نتذكر.
جنى كثير من العاملين في حقل الدعوة لما ظنوا ظنا فظيعا أن الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الفكر الإسلامي في هذا المجال أوذاك. وجنى آخرون جناية لا تقل عن سابقتها لما ظنوا أن الدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى أحكام الشريعة وحدودها وكفى. فهم فظيع وما ترتب عليه في الواقع العملي أفظع؛ إذ في جميع هذه الصور إنما الدعوة إلى فهم معين لا إلى الله رب العالمين الواحد الأحد الفرد الصمد ذي الجلال والإكرام.
هاتان الجنايتان أربكتا الواقع الإسلامي أيما إرباك؛ فاضطربت الحركة الإسلامية لما عبأت الشباب والرجال والنساء على قاعدة الفكرة الإسلامية في السياسية أو الاقتصاد أو الثقافة أو الحراب. أو على قاعدة فهم معين للعقيدة الإسلامية أو على قاعدة ربط الناس بالحدود لا برب الحدود، وهذا ليس هو حقيقة الدعوة إلى الله جل جلاله. إذ ما مقتضيات الفكر الإسلامي في هذا المجال أو ذاك –الذي ينبغي أن يكون على مستوى كبير من حيث قدرته على تقديم أجوبة عن سؤالات مستقبل الإنسانية وعلى مستوى كبير من حيث قدرته على فهم وقراءة تاريخها- إلا فرع من فروع المعرفة بالله تعالى والعلم به سبحانه والدلالة عليه إذا صدر عن تلك المعرفة وذاك العلم به سبحانه.