الرحيل
من زمن الثورة إلى زمن الأمة

1-تنبيه
بداية ينبغي التنبيه إلى أن هذا المقال لن يخوض في تفاصيل الانتفاضة المصرية اليوم، لأن مجرد قيامها وتصاعد خط زحفها الميداني بقوة وحزم وإصرار ويقين حتى إسقاط النظام وتعميم الفرحة والأمل والعزة كاف ليجعلها من أمهات الانتفاضات التاريخية الكبرى لما تنجز واقع القيادة المناسبة. ولذلك  فالمطلوب في هذه اللحظة الحرص على الإجابة عن سؤال الأساس الكبير لهذه النهضة الشاملة وعن أفقها العريض الذي يفضي النظر من خلاله إلى الكشف عن الضرورة القصوى لدعمها حتى تحقيق جميع أهدافها والتقاط دروسها الكلية والجزئية، لأن الثورات الكبرى ذات القيمة التاريخية لا تحدث في فراغ ولا من فراغ، وليست في غير سياق عام يحتضنها.
وهنا نستعمل مفهوم الثورة تجاوزا لأن المناسبة لا تستسيغه إلا هو، علما بأن ما حدث في تونس ومصر مؤشر كاف على أننا حتما أمام تجاوز حقيقي لمعناه الكلاسيكي لمعانقة دلالة جديدة وجذرية تكشف عن زمن الأمة بما هي القوة العامرة بقيم كبرى وعظيمة ومنجزة لحركة تاريخية مؤثرة في مسار الأحداث ومضامينها.
2-الهوة السحيقة والمفارقة المروعة ومعضلة قيادة التغيير
وقبل البحث في عوامل وسياق هذه الانتفاضة الكبرى، التي بدأت من تونس وتمر اليوم عبر مصر، لابد من التذكير بالهوة السحيقة الحاصلة اليوم بين الحكام وبين الشعوب، وبين النخبة وبين الشعوب كذلك، لأن هذه الهوة أتاحت الفرصة لظهور قوة الشباب وفتوته وأهمية الانتباه إلى وظيفته وموقعه في عملية التغيير الجذري.
نعم، يحتل مفهوم الثورة مكانة هامة في قاموس الغاضبين عن فداحة الظلم الذي شل حركة الأمة وبدر قدراتها المادية والبشرية والمعنوية، وجعلها لقمة سائغة للاستكبار حتى ظن الكثير أنها انتهت ولم يبق لها سوى خيار الاستسلام الكبير، وفي المقابل لم تنس هذه الأمة قسوة الثورات التي عرفها التاريخ العربي الحديث والمعاصر، حيث فرضت استبداد الشخص الواحد والحزب الوحيد والعائلة الوحيدة، وكرست احتكار الثروة والسلطة من طرف فئة معينة، وممارسة التخريب بشتى أشكاله وألوانه، مما جعل الكثيرين يحلمون بيوم الديمقراطية ونعيمها وما تتيحه من فرص الحرية وتداول السلطة وسيادة القانون كما أتاحت ذلك للغرب في الغرب، وهو ما أدى بالكثير إلى الدخول في دهاليز المشاركة الانتخابية تحت ظل أنظمة استبدادية انتظارا لفتاتها الديمقراطي. ومتى كانت الديمقراطية بنت الاستبداد؟
فما بين حلم الثورة ومطلب الديمقراطية تاهت النخبة المفكرة، في الغالب، والممارسة  لفن السياسة بمعناه التقليدي عقودا من الزمن للخروج من استبداد مقيت وزعيم قتال؛ فجرب البعض الانقلابات العسكرية وجرب البعض هيجان الغاضبين في لحظة ما وجرب البعض الآخر ثقوب الديمقراطية الممنوحة هنا أو هناك وجرعاتها إلى أن طلت ثورة الاتصالات والمعلوميات على أنظمة سياسية استبدادية متكلسة وشديدة القمع وشاملة القبضة ومنغلقة الأفق، كما طلت على نخب جامدة، على العموم، على قوالب تفكير وأفكار ومواقع هشة ومتخلفة، فكانت سرعة تدفق المعلومة والمعرفة أكبر بكثير من حركة أنظمة فاسدة ومستبدة ومن أثر أفكار بطيئة الحركة وخائفة من التغيير الجذري وإن دعت إليه في لحظات ما.
هنا حصلت الهوة السحيقة والمفارقة المروعة:
-تدفق هائل للمعلومة والمعرفة وبطء كبير في حركة الاستبداد في التكيف مع هذا المعطى الجديد، لأنه لا يمكن أن يكون إلا على هذه الحال.
-بناء حركة وعي قاعدي أفقي لدى عموم شباب الأمة بسرعة فاقت كثيرا كثيرا حركة النخبة المفكرة والتنظيمات السياسية والاجتماعية التقليدية التي هيمنت على حركة الوعي وصناعته عقودا من الزمن، بل قرونا حتى صار منها من يقول: إن حكما فاسدا مستبدا أخف ضررين أمام الخوف "المتوهم" من فتنة عارمة وفوضى شاملة.
إن النخبة حينما تكون تحت قبضة أنظمة استبدادية وتصبح عاجزة عن استيعاب التحولات التاريخية الجوهرية والعميقة، التي تعرفها حركة الأمة عموما، ينسد الأفق أمامها وتصبح متجاوزة عمليا حيث تفقد القدرة على القيادة في اللحظة التاريخية المناسبة، إذ هناك فرق واضح بين الوعي بطبيعة التحولات التي تعرفها حركة الأمة وبين القدرة على استيعابها بما يوفر الكفاءة والكفاية في قيادتها وتوجيهها، لأنه عند حصول لحظة الوعي الشامل لدى الشعوب لايمكن إيقاف ولا تحوير حركتها، وهي لحظة الحسم مع أشكال الظلم المهيمنة ساعتها على هذه الشعوب.
ولذلك كان دوما لابد من وجود القيادة التي تتوفر على وعي شامل ودقيق ينتج عمقا استراتيجيا ومصيريا متوافقا مع حقيقة مطالب هذه الشعوب التي صاغتها ابتداء هذه القيادة ونظمتها وحركت الوعي اتجاهها بكل ثقة ويقين وأمانة وصدق وإخلاص وبذل وعطاء، فتكون هذه القيادة على الموقف المناسب في الموقع المناسب في اللحظة المناسبة، وهو ما لم يحدث للأسف مع انتفاضة تونس ومصر.
إن عدم توفر هذه القيادة ابتداء ووسطا وآخرا وفي كل لحظة نفس على هذا الوعي يجعل حركة الشعوب معرضة لمخاطر العنف والتخريب وسرقة ثوراتها وثمار انتفاضاتها الشاملة.
فما حدث في تونس وفي مصر هو أن الشعوب بقاعدتها الشبابية قامت بالواجب عليها لما توفرت لها لحظة الوعي الذاتي بالذات، لكن قبضة الاستبداد ودرجة انتشار عناصره المعنوية والمادية والبشرية تحالف مع تخلف كبير في كفاءة النخبة القيادية من حيث نضج أفكارها الفكرية والسياسية ومواقفها العملية من وحدة الكلمة والرؤيا فأثر كثيرا على أن تجني هذه الشعوب في الوقت المناسب وبالشكل المناسب ثمار نهضتها العظيمة والتاريخية. كما أن غياب هذا الوعي واحتلال المواقع المناسبة لإنجاح الانتفاضة يقوي من عناصر مقاومتها ويعقد حركتها أكثر، وهو ما تعيشه بحدة انتفاضة تونس ومصر اليوم، لأنها لم تفقد زخمها وفعاليتها لكنها تعاني من اضطراب في القيادة التي تخوض معركة الذهاب الكامل نحو أفق هذه الانتفاضة لتحقيق كل أهدافها ومقاصدها خاصة أن خبرة الاستبداد والفساد متحالفة مع مكر العدو الخارجي وقدراته، وهو ما جعل شباب الثورة في مصر لما نحي مبارك على السلطة أمام معضلة القيادة فشرع في بنائها في ظروف صعبة للغاية تحتم الخوف من سرقت الانتفاضة وتحجيمها إلى أبعد الحدود.
إن الشعوب في آخر المطاف لابد أن تسلم أمانة انتفاضتها لقيادة منها مخلصة وقادرة وأمينة لتنظيم عملية الامتداد في المستقبل تجمعت لها خبرة الأجيال المتجددة والمتلاحمة، ومن هنا يكون تخلف النخبة فراغا مهولا يتيح الفرصة لأعداء الثورة وخصومها.
وعليه، فإذا كان من الطبيعي أن تحصل الهوة السحيقة بين الحكام المستبدين والمتسلطين مع مرور الزمن وبين الشعوب، فليس من الطبيعي أن يحصل ذلك بين النخبة العالمة والمثقفة والمفكرة المنحازة لهموم الشعوب وبين هذه الأخيرة، خاصة العلماء وقيادات حركة الدعوة في عالمنا العربي والإسلامي.
ومن هنا نؤكد على مايلي:
-ضرورة استيعاب طبيعة التحولات التي تحدث لدى الشباب وفق متغيرات وسائل الاتصال والتواصل في زمن التدفق الهائل للمعلومة والمعرفة.
-ضرورة تجاوز عقلية التنظيم المغلق بمنطق الحزب الواحد والرأي الواحد، أي أن القيادات الطلائعية يجب أن تجمع بين الكفاءة العالية في بناء الطليعة القيادية بالانتباه إلى كل معاني الفتوة والإقدام وبين الانفتاح على فئة الشباب العريضة بما يستوعب طموحاتها وتوجهاتها ورغباتها باستعمال الوسائل المتاحة والمناسبة لذلك، وإن رجال الدعوة يملكون أهم وسيلة في ذلك؛ هي القلب الواسع والرحيم والعقل الراجح والحكيم، لذلك فكل تنظيم إسلامي فرط في هذه الوسيلة الأصلية التي تلتقط وسائل العصر واللحظة لتوظفها في مكانها المناسب بالطريقة المناسبة يصبح تنظيما مغلقا وفئويا، وهو الخطر الذي يتهدد مطامح الأمة الجهادية ويدفع هذه التنظيمات إلى الهامش الحركي.
-ضرورة الانتباه إلى قوة الموازنة في تقدير لحظات الزحف ومراحله بدقة متناهية وفق وعي سياسي استراتيجي مصيري حتى لاتسقط حركة التغيير في متاهات الانتظارية أو في براثين التسرع والعجلة وسوء تقدير المرحلة. وهنا نذكر في عجالة بثلاثة صور:
الأولى: تجربة حركة النهضة في تونس لما خاضت ذروة المواجهة مع نظام ابن علي بداية تسعينات القرن الماضي فحجم وجودها.
فقد جُرت حركة النهضة الإسلامية ساعتها إلى مواجهة شاملة لم تقدرها القيادة السياسية بقدر ما وجدت نفسها مقحمة فيها بعد تصعيد النضالات الطلابية في الجامعات بحجم كبير وهائل، ومن ثمة لما كانت لحظة الانتفاضة الشاملة اليوم كانت النهضة في غير الموعد.
إن خطأ الفشل في تحديد الموعد المناسب مع التاريخ يعد خطأ جسيما، لأنه يرتبط بمصير أمة.
الثانية: تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ لما خاضت الانتخابات كذلك في الجزائر بطريقة جعلتها تتخلف عن الموعد اليوم، إذ في ظروف غير مناسبة نزلت بقوة لاكتساح البلديات والبرلمان وطالبت بانتخابات رئاسية سابقة لأوانها، مما جعلها في مواجهة وضع غير منتظر ولا محسوب.
إن اكتساح مجالات الانتخابات مرحلة متأخرة جدا بالنظر إلى مراحل بناء قواعد النهضة المجتمعية الشاملة وإرساء أسس الوعي الجماعي الكبير والجامع لكل أطراف الأمة وتثبيت قواعد الحرية الشاملة لتكون محاصرة أركان الاستبداد والفساد عملية غير مكلفة وناجحة، ذلك أن هذه الأركان تشكل تحالفا مصلحيا لايمكن الاستهانة به في إطار الصراع الدولي المنعكس ضرورة على كل ما هو محلي.
الثالثة: طريقة تنظيم "الإخوان المسلمون" في إدارة الصراع مع نظام حسني مبارك من خلال العملية الانتخابية حيث الجماعة لم تنشئ ذراعها المجتمعي السياسي الذي يتولى مباشرة قضايا الشأن العام، وتتفرغ القيادات التاريخية للحفاظ على بناء وتطوير التنظيم والاستيعاب الكبير لفئة الشباب دعويا للتمكن من استيعاب كل التحولات التي تعني مصر بما هي دولة محورية في عملية الصراع الإقليمي والدولي علاقة بالقضية الفلسطينية، وهو ما أدى إلى ارتباك شديد في لحظات دقيقة في قيادة الجماعة وفي علاقتها بالشباب الذي يشكل القاعدة الصلبة اليوم في قيادة الانتفاضة، وفي علاقتها بتدبير الشأن العام.
إن الإشارة المختزلة لهذه الصور الثلاثة تروم التأكيد على أن قيادة التغيير في زمن ثورة الإعلام والتواصل وتدفق المعلومة وانسيابها يقتضي شرط نجاعة القيادة وفعاليتها وانفتاحها الكبير، وشرط بناء الهياكل التنظيمية القوية والمتماسكة والمنفتحة على فئة الشباب بشكل كبير جدا جدا، وفي نفس الوقت توفر القدرة على الحفاظ على وضوح القضية الجامعة لحركة الأمة وأفقها العريض. وهو ما يعني ضرورة بناء عملية زحف تصاعدية ومتئدة تتأسس على وعي سياسي مرحلي واستراتيجي مصيري عميق وتروم محاصرة وتقويض أركان الفساد والاستبداد حتى لحظة الحسم الشامل معها دون عنف أو فوضى أومخالفة الموعد الحتمي مع التاريخ الذي يحصل لحظة استكمال الوعي الكامل بالذات ومصيرها الفردي والجماعي.
فحينما تستمع إلى هتافات وشعارات شباب تونس ومصر تدرك الدرجة الكبيرة من الوعي بالذات، وفي المقابل تكتشف عجز القيادة التي تحول هذا الوعي إلى أفق حركي كبير ومنظم، إذ وجود هذه القيادة من عدمه سيؤثر بشكل جدي على المرحلة القادمة من هذه الانتفاضة التاريخية الكبرى.
وفي هذا الباب سنقف في سطور مركزة بعد، إن شاء الله تعالى، مع تجربة جماعة العدل والإحسان في المغرب، في بناء الذات والوعي والأفق.
3-نهاية زمن الثورة وبداية زمن الأمة
راهنت الثورة في العصر الحديث على توفر عامل الغضب على الوضع الاجتماعي والاقتصادي لدى الشعوب وعلى وجود الحزب الثوري الذي يقود هذه الثورة ويؤسس لمراحلها وينجز مضامينها، وهي تجربة كانت قاصرة تماما في عالمنا العربي حيث تجلت في توفر لحظات غضب على النقص في الخبز وعلى تدهور الوضع المعيشي وارتفاع الأسعار، إذ يخرج الناس في بعض المظاهرات الغاضبة غالبا ما تنتهي عبر قمع بوليسي شرس يستغل ما يصاحب هذه الخرجات من عنف وتخريب، وفي الغالب لا تكون هذه الخرجات مراحل حركية تجمع مستويات الوعي والخبرة لتصل إلى لحظة الانتفاضة الشاملة حيث تصل درجة الوعي إلى القدرة على الربط بين واقع الحرمان الاجتماعي والسياسي وواقع القيم الخبيثة التي تهيمن على تفكير وسلوك النظام السياسي الاستبدادي وكل حلفائه وأركانه.
ولذلك هيمن على الوعي السياسي لدى كثير من المعارضين ضرورة اللجوء إلى الانقلابات العسكرية التي تفرض أنظمة جبرية قابضة ومدمرة للجميع، وهذا لا ينفيه أحد ولا يعترض عليه إلا مستفيد منه بالمعنى النفعي الأناني للاستفادة، إذ هؤلاء المستفيدون النفعيون الأنانيون هم الذين يشكلون أذرع المقاومة لانتفاضة الشعب التونسي والمصري القائمتين اليوم. وقد وظفوا أبشع أساليب البطش لإجهاضها والقضاء عليها.
نعم، فطيلة القرن الماضي بعد الاستقلالات الصورية للأوطان العربية تراكمت مأساة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن وضع الاستبداد السياسي الجاثم على صدر الأمة، لكن غضب الجميع الشديد على هذه الأوضاع لم يفض إلى التحرر الحقيقي وإن ساهم بشكل جيد في بناء الوعي الذي توج في تونس ومصر بخروج الشعب المفاجئ لمن كان يرتدي نظارات تقليدية وقديمة لأنه لم يخف على من نظر بعيدا وبعمق وأدرك أن اللحظة التاريخية التي تعيشها الأمة والإنسانية هي لحظة انطلاق التحول التاريخي الذي سيغير وجهة حركة العالم لتتوافق مع حركة القيم السامية والنبيلة الدائرة على معنى تكريم وكرامة الإنسان، كما سيتبين بعد إن شاء الله في هذه السطور.
إننا سنرتكب خطأ فظيعا حينما نحصر انتفاضة الشعبين التونسي والمصري في القضية المعيشية التي تشكل مظهرا مهما من مظاهر جوهرها الحقيقي، ولذلك لابد من ربط هذه الانتفاضة بسياقها التاريخي وعمقها القيمي الشامل، وهو ما يكشف أننا أمام لحظة تاريخية تشكل جزء من مرحلة من مراحل استعادة الأمة مكانتها التاريخية ووظيفتها الرسالية.
فليست حركة الشعبين في تونس ومصر وانتفاضتهما معركة ضد شخص ابن علي ولا مبارك حسني، وإن جعلت رحيل الشخصين شعارا من شعاراتها المركزية بما هما رمزين من رموز الفساد الشامل، بل هي ضد قيم المسخ والاستعباد والاستكبار والفساد، ولذلك فهي حركة ممتدة في التاريخ وجزء مهما من أجزائه، ومن ثمة فهي ستكون شاملة لكل رقعة جغرافية في وطننا العربي والإسلامي ومؤثرة في عالمنا المعاصر ومستقبله مع الانتباه إلى أن قوة هذا الامتداد ودرجة هذا التأثير مرتبطة بمستوى وطبيعة القيادة التي ستسلم لها الأمة قيادة عملية إنجاز الأهداف والمقاصد التي انتفض من أجلها الجميع. ولذلك فإن هذه الانتفاضة تدلل على أننا حقيقة نغادر زمن الثورة التي تعني صراعا ضيقا على السلطة ولأجل تحسين الأوضاع الاجتماعية فقط لندخل زمن الأمة من خلال نهضتها الشاملة والواعية. وهنا يبقى  السؤال الكبير معروضا على العلماء والمثقفين والمفكرين ليحددوا مواقعهم ومواقفهم من واقع لم يعد مقبولا بكل قيمه وجزئياته وتفاصيله، إذ كشفت نهضة الشعبين التونسي والمصري أنها تجاوزت النمط المتخلف من هذه الفئات وهو كثير العدد كبير الأهمية على كل حال، لتطلب أنموذجا آخر من القيادة ونمطا آخر من التدبير والتنظيم في كل المستويات.
لقد اضطرت النخبة القديمة أن تلتحق بالثورة بدلا من قيادتها، بل إن التنظيمات السياسية والمجتمعية التقليدية هي الأخرى وجدت نفسها تلتحق بميادين الانتفاضة بدلا من أن تكون هي إطارها التنظيمي والهيكلي، ولذلك وجب التفكير جيدا في الأشكال الهيكلية والتنظيمية والتواصلية في قيادة التغيير الجذري وجمع شمل الأمة في كل مراحل الزحف نحو الحرية الشاملة.
وفي مقابل هذا التخلف للنخبة وكثير من تنظيماتها السياسية والمجتمعية عن اللحظة التاريخية، يلاحظ الجميع موقع وموقف الجيشين التونسي والمصري من الأحداث وتفاصيلها، وهو ما يكشف أن المؤسسة العسكرية استطاعت أن تتحول إلى مؤسسة للشعب وليست أداة للحكم والاستمرار فيه. فهي أداة من أدوات الأمة المهمة وليست أداة في يد زعيم وقائد يوظفها وفق أغراضه ومصالحه الشخصية، وهو مؤشر دال على أننا أمام مرحلة قادمة مؤثرة في واقع الصراع المحلي والإقليمي والدولي حتما، حيث كانت الشعوب غالبا ما تغتر بانقلابات الجيش التي يصورها ثورة حقيقية وتلتحق بحكمه فما تلبث أن تكون أول ضحاياه، أما اليوم فقد بات واضحا أن نهضة الشعوب وانتفاضتها الشاملة تلزم الجيش بأن يلتحق بها ويحرص على خدمتها مع الانتباه إلى أن حصول أي مستوى من الغفلة قد يستغله طلاب السلطة فينقلبوا على مكتسبات وتضحيات الأمة في التخلص من الاستبداد والفساد والاستعباد.
إن من الفروق الجوهرية بين ثورات الأمس وانتفاضات اليوم نبذ العنف واعتماد قيم سامية في إنجاز مراحل النهوض والانتفاض، وكذلك درجة الوعي الجماعي بالذات ومصيرها وقوة الزحف الذي يحمي الأمة من سراق التاريخ وجواهره، إذ لا يستطيع أحد أن يلبس على الانتفاضة ويحجب حقيقتها ويستولي على إنجازاتها.
يتبع إن شاء الله تعالى