أصل القومة في علم
المنهاج النبوي
1.علم المنهاج النبوي
ليصبر القارئ الكريم على محاولة
متكررة لتقريب الصورة حول اجتهاد متميز يقترح مشروعا ضخما لإخراج الأمة والإنسانية
من واقع مكفر تهيمن عليه الشحناء والكراهية والتظالم والاستضعاف والتمزق العلمي والعلومي
والجغرافي والسياسي، ولذلك فليس ادعاء ولا ترفا فكريا القول بعلم المنهاج النبوي،
بل هو مدخل ضروري لإحكام أصول العلم والعمل بما هي كليات قطعية حاكمة تندرج تحتها
جزئيات متعددة علمية وعملية، ولذلك كانت هناك قيمة علمية نوعية مضافة في تجربة
الحركة الإسلامية وحركة الدعوة من خلال اجتهاد الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين حينما
رتب الخصال العشر وشعب الإيمان السبعة والسبعين ترتيبا علميا محكما بنى صرحا من
قواعد جامعة صارت كليات علمية تؤسس لكليات عملية وتبني جزئياتها علمية وعملية
منسجمة تماما من حيث العلاقة بينها (الكليات العلمية والكليات العملية) بواسطة
قواعد حاكمة وقطعية باستنادها إلى الوحي معنى ومبنى سواء من حيث معناه الكلي أو من
حيث نصوصه الفرعية.
ولذلك إذا كانت هناك من إرادة
لهدم مشروع العدل والإحسان وبناء تجاوزه- بما هو اجتهاد علمي للأستاذ المرشد عبد
السلام ياسين أجاب ويجيب من خلاله عن سؤال التغيير من حيث مدلوله الفردي والجماعي
وبعده القطري والمحلي والدولي)- فلتكن هذه الإرادة علمية، من جهة، بما يوفر قدرة علمية،
وليست فكرية فقط، ترقى إلى مستوى هذا الاجتهاد المتكامل فتهدم بناءه الأصولي
المرجعي، ومن ثمة يسهل تجاوز جزئياته العلمية ونقضها نقضا يكشف عن عدم جدواها
العملي مرحليا واستراتيجيا ومصيريا. ولتكن عملية، من جهة ثانية، بحيث تستطيع أن
تكشف عمليا عن عدم الفائدة العملية للسلوكات المجتمعية والسياسية الكلية والجزئية
التي تبنيها حركة المشروع على أرض الواقع. ومن ثمة فالخوض في نقد ونقض هذا المشروع
من خلال بعض الجوانب التصورية والعملية الفرعية لن يخرج عن النظر السطحي مهما بلغ
من الصرامة المنهجية، علما أن الجزئية العملية (الموقف االسياسي أو الاستراتيجية
السياسية مثلا) لما تكون نتاج حركة كلية علمية في الواقع العام فلن يتم فهمها
واستيعابها الدقيق من جانب العالم والباحث ما لم يتم فهم واستيعاب المعنى العلمي للكلية
العلمية التي ترعى بناء هذه الجزئية العملية.
وهنا أذكر بمسألة لطالما عرضتها
في مقالات ومحاضرات عديدة، وهي قضية التراتب العلمي لمفاهيم علم المنهاج النبوي،
لأن إدراك هذا التراتب يجعل من نظام التفكير مستقيما ومنسجما ومتكامل الحلقات
والعمليات الذهنية عند التصدي للقضايا علمية كانت أو عملية.
وما ينبني على هذا ضرورة الوعي
بالمسافة التصورية التي تتحرك ضمنها الجزئية المتصدى لمعالجتها مع إحكام موقعها
المناسب ضمن هذه المسافة وسياقها الخاص.
وهذه المسافة التصورية هي
كالتالي:
المستوى العلمي (علم المنهاج
النبوي: مشروع مجتمعي متكامل)، ثم مستوى العلوم العقلية (علم الأصول، علم المقاصد،
علم التفسير وباقي علوم الآلة...)، ثم مستوى النظرية المنهاجية في هذا المجال أو
ذالك (يمكن إكتشاف نظريات عدة بحسب الحاجة والضرورة لكل مجال عمل: النظرية
السياسية، النظرية التربوية، النظرية الاقتصادية......) على اعتبار أن لكل نظرية
أساسها العلمي والمعرفي المتضمن في مقتضى علم المنهاج النبوي والذي يجد مكانه في
مستوى آخر ضمن علم من العلوم العقلية, أو ضمن كثير منها أو كلها، وهكذا، ثم
المستوى العملي الذي تبنى من خلاله الجزئيات العملية بما لا ينتج ترفا حركيا
وسلوكيا فرديا أو جماعيا، ويكون متكامل المهام والوظائف، كما يكون قاصدا وتجذبه
الغاية الجامعة لعلم المنهاج النبوي وهي قيام العبودية لله وحده لا شريك له عبر
تحقق الاتباع الكامل لسيد الأولين والآخرين.
وما ينبغي أن يشار
إليه هنا أن الوعي بهذه المسافة ضروري عندما ننتقل إلى مستوى التعبير الفكري الضروري
عن مشروع العدل والإحسان، أما من حيث تحصيل علم المنهاج النبوي وفقهه فالأمر في
أصله عملية تربوية سلوكية من خلال الخصال العشر وشعب الإيمان التي تبدأ بخصلة
الصحبة والجماعة وبشعبة محبة الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتختم
بخصلة الجهاد، ذروة سنام الإسلام، وبشعبة الدعوة إلى الله تعالى. علما أن معنى
الدعوة من خلال علم المنهاج النبوي له دلالات ومضامين تجديدية هامة مع اجتهاد
الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين تغطي المعنى الفردي والجماعي والإنساني وفق قواعد
محكمة وحاكمة تورث فقها دقيقا (الفقه المنهاجي) بما يبني عمقا استراتيجيا للحركة؛
بل يتجاوز ما هو استراتيجي إلى ما هو مصيري فيغطي حركة التاريخ عبر فقه الإخبار النبوي
من خلال حديث الخلافة وما تعضضه من نصوص في الباب.
إن هذه المسافة
التصورية في جوهرها مسيرة قلب وعقل غير منفصلين عن معنى العضوية في جماعة
المجاهدين التي ينبغي أن تكون جسدا قويا متراصا لحمته الأساسية التحاب في الله
والتناصح في الله والتعاون على كل بر وخير في الله. ولذلك لايقف المرء عند جزئية
عملية فرعية اجتهادية ليحيط بها من جل الجهات منفصلة عن أخواتها من الجزئيات التي
تعطينا المعنى الكلي العلمي ثم العملي.
وهنا أود أن أذكر
بقضيتين هامتين في بناء الفكرة أو الحكم الجزئي.
فمقتضى الأولى: أن إنتاج الفكر
والموقف بمجرد التعامل الفرعي مع مسألة جزئية (المنهاج السياسي مثلا) لا تنكشف
قوته الدلالية بوضوح دون تحريك مفاهيمه ومدلولاته ضمن حركة المشروع بما هو علم
متسق الأطراف له موضوعه ومقاصده وغايته وأهدافه ووسائله الكلية ورجاله ومنهاجه.
ومعنى هذا أن
التفكير في التصور المنهاجي الإسلامي ينطلق من الكليات لا من الجزئيات، وكلي
الكليات هو الوحي، لذلك بدأ الأستاذ عبد السلام ياسين بعرض المنهاج بما هو المضمون
العلمي والعملي للوحي من خلال الخصال العشر وشعب الإيمان.(هل التفكير من خلال
الكليات أم الجزئيات قضية فكرية كبرى في الفكر الغربي الآن بعد أن أتعبته متابعة
الجزئيات وقادته إلى كثير من المتاهات).
وما ينبني على هذه
القضية أن المنهاج النبوي من خلال اجتهاد الأستاذ عبد السلام ياسين ليس نظرية يمكن
تجاوزها حينما يتم الاستغناء عنها علميا أو عمليا، وإنما هو علم قائم الذات، جسدته
التجربة النبوية الخلافية (الخلافة) فهما وفقها ووعيا وعملا، ولذلك فهو العلم
المهيمن على جميع العلوم، وتم تجديد عرضه لما انفتح نظر الأستاذ المرشد على الأفق
الجهادي الجامع؛ أفق الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
ومقتضى الثانية: أن
نظام التفكير عند العقل المسلم اليوم لم يتخلص من تحكم المنهجية الأصولية
التقليدية التي ارتبطت بتوليد الحكم الفرعي العملي عبر تاريخها حيث مع علم المقاصد
اليوم تحتاج إلى جهد علمي كبير ليخرج بها (المنهجية) من ضيق الأفق العلمي والعملي.
وهنا نجد في اجتهاد
الأستاذ عبد السلام ياسين عملية علمية هائلة إذ أخرج المقاصد من معنى الحفظ إلى
معنى الطلب في سياق غائي يتعلق بالعمق الإحساني من حيث إرادة الفرد ومن حيث حركة
الأمة نحو معنى الخلافة بما هي مطلب إنساني ملح على جماعة المسلمين (التي لا تعني
بكل حال تنظيم جماعة العدل والإحسان الحالي إذ ما هي إلا لبنة اجتهادية مرحلية على
عاتقها إقامة النموذج العملي الذي يحمل هذا النوع من الهم الشامل) أن تقوم لبناء
أساساته.
وبهذا الإخراج فتح
عملية بنائية سواء على مستوى نظام التفكير أو على مستوى بناء مراحل الزحف والتغيير
أو على مستوى بناء الوسائل الكلية في ذلك، بحيث أن تحقيق كل مطلب من مطالب الشريعة
يكون هدفا مباشرا لحركة المشروع، وعند تحققه (أي المطلب) يصبح وسيلة كبرى لتحقيق
المطلب الآخر الذي يليه في الترتيب، ليبقى تحقيق مطلب الإحسان على قواعد السلوك
الجهادي الجماعي هو رائد حركة المشروع وروح وسائله ومضمونه العلمي، علما أن
الانتقال من مطلب إلى مطلب ليس انتقالا فجائيا، أو عبر قطيعة، بل هناك وعي دقيق
بمراحل تحقيق كل مطلب وبتداخل المراحل كما هو الشأن تماما في الوعي بتداخل مراحل
التاريخ الإسلامي وما يميز كل واحدة عن الأخرى من حيث المعنى الكلي لا من حيث
التفاصيل التي قد تكون متشابهة في كثير منها.
وما يرتبط بهذا
التراتب العلمي لمفاهيم علم المنهاج النبوي العلاقة البنائية العلمية والعملية بين
هذا المفهوم وذاك (الاجتهاد-التغيير –القومة- الاصلاح.....)، لذلك من لم يكتشف هذه
العلاقات العلمية، التي لها تجلياتها العملية الواضحة في رعاية وتأطير مراحل الزحف
والبناء، لا يمكنه إنجاز عملية النقد أو حتى النقض ناجحة لهذا المدلول العلمي أو
العملي أو ذاك في حركة المشروع.
فالحكم بتجاوز مفهوم
القومة، مثلا، هو دلالة واضحة على عدم التحكم في كل مفاصيله ومدلولاته العلمية
والعملية، ولذلك كتبنا مقالات في الباب منها: القومة العلمية، والقومة العملية
والاستراتيجية السياسية لجماعة العدل والإحسان نظرا لأهمية هذا المفهوم في بناء
الحركة السياسية لمشروع العدل والإحسان.
ولتوضيح الأمر سنعرض
مفهوم الطاعة الجماعية ضمن سياقه العلمي المنهاجي النبوي كأساس لمفهوم القومة في
مدلوله العملي. بل إن مفهوم الطاعة الجماعية حينما ننتبه إلى علاقته بباقي العلوم
العقلية، خاصة علوم الأصول والفقه والتفسير والمقاصد، وغيرها، والتي لها تأثير
مباشر على فهوم الناس وسلوكاتهم، سنكتشف مدى التحول الجذري الذي سيحصل في هذه
العلوم حينما تخترقها معاني الطاعة الجماعية التي ستعيد ترتيب معنى العبودية لله
تعالى من حيث معناها الفردي والجماعي وماهي المقاصد والغاية التي ترعى هذا
الترتيب، ومن ثمة إعادة النظر في كثير من القضايا الكلية والفرعية في الأصول
والفقه والتفسير وعلم السياسة، وهكذا. وهو ما سميناه ب"القومة العلمية"
التي أنتجها تجديد علم المنهاج النبوي مع الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين.
لكن لا بد من
الإشارة إلى مستويات مهمة في مراقبة حركة مشروع العدل والإحسان:
-المستوى الأول:
الاجتهاد العلمي للأستاذ عبد السلام ياسين لتجديد حركة الأمة التاريخية (علم
المنهاج النبوي: مشروع مجتمعي متكامل: مشروع العدل والإحسان)، وهو علم اشتغل من
خلاله بدقة عالية على العلاقة بين معنى الفرد ومعنى الجماعة النبوية (محمد والذين
معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا)
[الفتح:29]، ومعنى الأمة ومعنى الإنسانية عبر حركة التاريخ ضمن حركة الكون التي
تكفل الله تعالى بتحديد القصد منها. ولذلك لم يكن هذا الاجتهاد إلاعملية تجديدية
في عرض السيرة النبوية على صورة متكاملة وشاملة جامعة لمصير الفرد عند الله تعالى
ومصير الأمة التاريخي ومطلب العدل الإنساني الكوني بما هو أساس الاختيار الحر.
وما تنبغي الإشارة
إليه هنا أن ما ميز عملية التجديد التي أنجزها الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين عن
باقي العمليات التجديدية الأخرى أنه صاغها عبر "علم المنهاج النبوي"
ففتح لها أفقا جهاديا كبيرا؛ هو أفق الخلافة الثانية على منهاج النبوة. وهو ما
يعني أن معنى الخلافة هنا لا يرتبط بما نجده في كتب التاريخ، كما لا يرتبط مضمونه
العلمي صياغة ونقدا بما تورثه المنهجية الأصولية التقليدية من فقه ووعي بمقتضى
الخلافة والملك والحكم والسياسة الشرعية وما إلى ذلك، بل نحن أمام تفاصيل تجديدية
تغطي كل مفاصل الحياة المجتمعية والإنسانية، ومن ثمة أسست لموقف جذري من الظلم
وأنماط الحكم الاستبدادي والوراثي، أي أن حركة مشروع العدل والإحسان لما انفتحت
على أفق الخلافة لم تهادن ولن تهادن كل شكل من أشكال الظلم والاستبداد والفساد
والمسخ وتتعامل معه بالحكمة اللازمة التي أساسها الرحمة القلبية والقوة العملية،
وهنا يتجلى لنا بوضوح كيف تصبح التربية على قواعد علم المنهاج النبوي ممتدة في كل
تفاصيل الحراك الميداني وناظمة لكل خيوطه ومحاوره وأفقه.
-المستوى الثاني: مدرسة المنهاج النبوي التي تعنى بعرض
ومدارسة مشروع العدل والإحسان الذي قام بتجديد صياغته الأستاذ عبد السلام ياسين.
وهي مدرسة تربوية تعليمية تغييرية تعنى ببناء السلوك النبوي على صورة شاملة تغطي
كل مناحي الحياة الإنسانية في أفق الخلافة الثانية، وهو ما صاغ له علم المنهاج
النبوي مفهوما دقيقا هو "السلوك الجهادي"، وليراجع كتابنا في الباب
الموسوم ب"التكامل التربوي في مدرسة المنهاج النبوي".
-المستوى الثالث:
جماعة العدل والإحسان من حيث هي تنظيم دعوي (بالمعنى التجديدي للدعوة مع علم
المنهاج النبوي)، وهي محاولة لتجسيد مقتضيات مشروع العدل والإحسان في مرحلة من
مراحل الزحف مع وعي وفقه هامين بالمراحل التالية وعلاقة كل مرحلة بباقي المراحل.
ومعنى هذا أن حركة
التنظيم بما هي مجهود واجتهاد بشري في زمان ومكان معينين إنما هي محاولة لتجسيد مقتضيات
هذا المشروع في الزمان والمكان بالحكمة اللازمة لذلك. وما يترتب على هذا أن
المعيار في نقد حركة تنظيم العدل والإحسان ومواقفه السياسية ليست معطيات فكرية
خارج سياق حركة مشروع العدل والإحسان، وإنما المعيار هو مدى تطابق مضامين ووسائل
حركة التنظيم مع أصول علم المنهاج النبوي الذي لما انتبه إلى محورية العلم بمعنى
الخلافة الثانية غطى مستقبل حركة التاريخ البشري على قواعد علمية صارمة لا تنطلق
من تخرصات ما "سمي بعلم المستقبليات" أو "علم المستقبل" بل
مبنية على فهم وفقه دقيقين للمستقبل البشري بما هو حركة بشرية كلية لا تخرج البتة
عما رسمه الوحي من سنن وقواعد؛ منها ماهو مكتوب في كتاب الوحي يحتاج إلى قلوب
معينة للعلم به وفقهه، ومنها ما هو مكتوب في كتاب العالم والكون يحتاج إلى عقول
حكيمة للعلم به وفقهه، وهنا محورية علم المنهاج النبوي في فقه الوحي وفقه الكون
فقها دقيقا يورث حركة مستقيمة تحتاج إلى دور الأنبياء والأولياء في الكشف عنها
وبيان جوهرها وأفقها.
إننا بهذه المستويات
نكشف عن هذا الامتداد التجديدي في حركة التاريخ البشري لما أنجز الأستاذ المرشد
عبد السلام ياسين مهمة المنهاج النبوي لتغيير الإنسان من خلال عرض الخصال العشر
وشعب الإيمان بما هي المضمون الجامع لمعنى الوحي قرآنا وسنة.
2-الطاعة الجماعية أصل علمي
للقومة المجتمعية
حينما استجمع الأستاذ عبد
السلام ياسين المعنى القرآني النبوي في الخصال العشر وشعب الإيمان وفتح أفقا علميا
وعمليا لحركة مشروع العدل والإحسان كانت القدرة كبيرة على توليد مفاهيم عامرة
ومشحونة بقوة علمية تتوفر على قوتين هائلتين: قوة اقتراحية وقوة اقتحامية، بحيث
مدى الاقتحام مرتبط تماما بمستوى قوة الاقتراح. وهو ما أعطى إمكانية على توليد فكر
وفقه يغطيان مساحات حركة الإسلام ويولدان فقه بناء السلطة وتجديدها وبناء المعارضة
وتطويرها، سواء المعارضة قبل بناء السلطة أو المعارضة بعد بنائها، وسواء على
المستوى المحلي أو الدولي.
وما يرتبط بموضوعنا هنا هو
الأساس العلمي لمفهوم القومة من حيث هي حركة مجتمعية شاملة قائمة ضد كل أشكال
الظلم.
فحركة الخصال العشر، أي حركة المنهاج
النبوي، أي المقتضى العملي لعلم المنهاج النبوي، حينما تأسست على قاعدة مطالب
الشريعة وغايتها الإحسانية العبادية الجامعة أخرجت مفهوم الطاعة ومعنى النهي عن
المنكر والأمر بالمعروف من معناه وسياقه الفرديين إلى معناه وسياقه التجديديين
الجماعيين. ولذلك أبدع الأستاذ المرشد مفهوما أساسيا في الباب سماه "الطاعة
الجماعية".
انقل عبارة مطولة لكنها ضرورية
من خاتمة كتاب الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية. يقول الأستاذ المرشد عبد السلام
ياسين: "إن طاعة الله تعالى الفردية تتعلق بذمة المسلم وتنظر إليها، أما
طاعته الجماعية، في الحكم والمال، أي في السياسة والاقتصاد، فتتعلق بذمة جماعة
المؤمنين المخاطبة بالقرآن، المنوط بها تكليف إقامة دين الله في الأرض.طاعة الله
تعالى الجماعية تقتضي مقاومة الظلم والاستكبار أينما كان، وتقتضي نصرة المستضعفين،
وتقتضي القتال من أجل ذلك، ائتمارا بقوله عز وجل : (ومالكم لاتقاتلون في سبيل الله
والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان)[المائدة: 8].
فحينما ندرك معنى الطاعة
الجماعية وأفقها الحركي المغطي لكل مساحات الحراك الإنساني ندرك أن معنى القومة
ليست لحظة سياسية ولاموقف سياسي لحظي، بل هي إعمال لكل مقتضيات القوة الرفيقة
الرحيمة لأجل صناعة واقع الوضوح في الفهم والوعي والإرادة والاختيار لحركة الأمة
في الداخل وفي كل مراحل إعادة البناء، وفي الخارج وفي كل تفاصيل معاملاته في السلم
والحرب بناء على المدلول القرآني للعدل والظلم والاستكبار والاستضعاف والدعوة لفرض
نظام إنساني يقيم عمرانا أخويا؛ وهو مقتضى نظام الخلافة.
وبهذا، فلسنا أمام قضية القطعي
والظني في العملية السياسية، بقدر ما نحن أمام عمق استراتيجي مصيري في تغطية علمية
دقيقة ومفصلة لكل مراحل الزحف والبناء والتغيير ترسم الأفق الحركي والموقع المناسب
له في اللحظة المناسبة الذي يتولد منه الموقف المناسب ضمن سياق بنائي تجديدي شامل
يغطي حركة الفرد والجماعة والأمة والإنسانية في تناسق وتكامل واضحين عبر وعي مرحلي
ومصيري دقيق.
وما ينبني على هذا أن مسألة
القطعي والظني إنما هي ارتهان لنظام تفكير محكوم بقوة وهيمنة المنهجية الأصولية
التقليدية في النقد والعرض، كما ينبني عليه أن هناك مواضيع أصبحت خارج الاهتمام
العلمي الأصلي في المرحلة المعيشة لحركة مشروع العدل والإحسان، كمواضيع: الدين
والسياسة، والدولة الدينية والدولة المدنية، والثورة، وما يشابههما، لأن هذا
المشروع يرسم سياقه وقضاياه بما هو قوة اقتحامية اقتراحية وليس ردة فعل لحظية أو
جزئية.
وعليه، لا يمكن قراءة مفهوم
القومة من خلال الواقع السياسي والاجتماعي المعيش، ولا من خلال مفاهيم علم السياسة
كما صاغته التجربة الغربية مع ما يمكن الاستفادة منها، بل من خلال معنى حركة مشروع
العدل والإحسان، أي من خلال المقتضى العلمي المنهاجي النبوي الذي يرسم قواعده العملية
الكلية والفرعية وفق وعي مرحلي يدقق عبره الموقع والموقف المناسبين اللذين ينبغي
أن تتخذهما حركة هذا المشروع في الوقت والمكان المناسبين.
ولاشك أن مفهوم الطاعة الجماعية،
الذي يحتاج إلى مجهود علمي كبير يكشف عن مضامينه، يملك قدرة دلالية تبني جزئياتها
العملية لأجل تحقيق نهضة عامة كبرى تجعل الأمة في موقع اتخاذ القرار الذي يناسب
وجودها على قواعد الشورى والعدل والإحسان؛ وهي قواعد تبني المنهاج الذي يشكل معيار
النظر والتقييم والتقويم في ولكل مرحلة من مراحل التاريخ، خاصة تاريخ المسلمين
ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
وإلى لقاء قريب إن شاء الله
تعالى