السلوك إلى الله تعالى وحب رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم
1.ما بين الحب والغرام في مدرسة المنهاج النبوي.
من بين ما تميز به الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه
الله -وهو يكتب بدمه ولحمه المنهاج النبوي ويسطر قواعده وعلمه في هذا الكتاب أو
ذاك وفي هذا النظم أو ذاك وعبر هذا المسموع أو ذاك أو هذا المرئي أو ذاك- حرصه
العالي على التدقيق في العبارات لعلمه التام بأثرها البالغ في السلوك إلى الله
تعالى.
إن المتتبع لعرض علم المنهاج النبوي، كما صاغه الرجل،
يكتشف ذلك التفصيل، دون إسراف أو ترف، لكل دقائق السلوك إلى الله تعالى. كيف لا
والأمر متعلق بعلم المعاملة القلبية مع الله تعالى، جهادا في سبيل الله إحياء لسنة
رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كاملة غير منقوصة من خلال قواعد مرتبة
بعضها يخدم البعض الأخر بناء متراصا متماسكا. وكل ذلك إنما لتقديم مشروع العدل
والإحسان للأمة ولكل الإنسانية على أجمل صورة وأبهى عبارة وأكرم مضمون وأوضح مقصود.
وما يهمنا هنا أن ندخل على موضوع السلوك إلى الله تعالى
من خلال علم المنهاج النبوي بالتمييز بين عمليتين قلبيتين. يقول الأستاذ المرشد،
رحمه الله: "إن تمييز الله نبيه عنا لا يهدف لرفعه فوقنا رفعا يبعده عنا، لكن
يهدف لتمكين هيبته في نفوسنا وتعميق حبه في قلوبنا. وكما أن تَعَالِيَ المولى
سبحانه وتقدُّسَهُ لا يجعله بعيدا عن عباده بل يبقى قريبا، فكذلك هذا الرجل الذي
لا يَصفو حبنا له من أكدار البشرية لو بقي في أعيننا واحدا من بعض رجالنا. وحبه
صلى الله عليه وسلم من حب الله. ومِن حب الله والتعلق الدائم به يفيض الحب على
رسوله بالإضافة والتبعية.
فمهما توغل حب العبد المصطفى في قلوبنا فسيبقى حبا
مضافا. ولا خطر من الشرك كما يتوهم أهل اليُبْسِ والجفوة، عافانا الله.
حب الله ورسوله ليس عاطفة -وهذه كلمة محدثة تترجم لغة
بشرية- حب الله ورسوله حركة قلبية كأخواتها من معاني القلب والغيب: الرحمة
والسكينة والإيمان والإحسان وما إليها. أما الغرام، الذي يعبر عنه بكلمة الحب وهي
شريفة أنزلها الاستعمال الدارج عن مكانتها، فهو حركة نفسية. وتشترك الانفعالات البشرية
في التسمية، فيكون للمومن والجاهلي فرح وغضب، حب وبغض، وسائر ما تعتلج به الأنفس.
لكن المومن وحده المختص بحاسة القلب يفرح بالله، ويغضب لله، ويحب في الله، ويبغض
فيه. أما الكافر المطبوع على قلبه فلا يعدو الانفعالَ النفسيَّ. فمن أخص خصائص
المومن حياةُ القلب، لا يعرفها عالم الجاهلية. وقد مستنا عدوى العقلانية الجافة،
واختلطت في مجتمعاتنا دوافع النفس البشرية المشتركة مع الدوافع الجاهلية
الهِيَاجِيَّةِ المُعْدية، فضمُرَت، ثم ذبُلَت، ثم ماتت رقائق القلب من تواد،
وتراحم، وتساكن. فإذا مجتمعنا تركيب تُقَعْقِعُ فيه المصالح، والعلاقات النفعية
الجافة، والكراهية، والتحاسد، والتباغض، والعنف وهو الجاهلية. ما ذاك إلا لتعطيل،
بل تعطل، الحياة القلبية. وإنَّ معين هذه الحياة حب الله ورسوله. فمتى غابت هذه
الشُّعبة العظمى من شعب الإيمان من حياة المسلمين هوَوْا في دَرَكات العَمَاية.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "إن من أحب غير الله، لا من حيث نسبتُه إلى
الله تعالى، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى. وحب الرسول صلى الله عليه وسلم
محمود لأنه عين حب الله تعالى. وكذلك حب العلماء والأتقياء، لأن محبوبَ المحبوب
محبوب. ورسول المحبوب محبوب، ومحب المحبوب محبوب. وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل، فلا
يتجاوزه إلى غيره. فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى. ولا مستحق
للمحبة سواه" (القرآن والنبوة: 57-58)
يقول الإمام
المرشد، رحمه الله: "الحُبُّ لله والحب في الله، رزق يرْزقه الله من يشاء، لا
يفيد في ذلك تفعل العبد إلا أن يدعوَ ربه. عن عبد الله بن يزيد الخطيمي الأنصاري
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهم
ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك. اللهم ما رزقتني مما أحبُّ فاجعله قوة لي
فيما تحب. وما زَوَيْتَ عني مما أحِبُّ فاجعله فراغا لي فيما تُحب". رواه
الترمذي وحسنه.
وأعظم الرزق بعد
حب الله حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. حبه الشريف مقام يرفع الله إليه العبد
المختار. وهو حب عميق في قلوب الرجال يستفيض منه العامة هذه المحبة للجناب النبوي
التي يعبرون عنها بالمحافل والمواليد، وهي مناسبات خير لا شك ما تُجُنِّبَتِ
البدع.
حبه الشريف صلى
الله عليه وسلم علامة على صدق المريد وجه الله في طلبه، وعَلَمٌ من أعلام النصر
على طريق السلوك إلى الله. قال ابن القيم رحمه الله: "فإذا صدق في ذلك (أي في
جمع إرادته على الله) رُزِق محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستولت روحانيته
على قلبه، فجعله إمامه ومعلم وأستاذه وشيخه وقُدوته، كما جعله الله نبيَّه ورسوله
وهاديا إليه. فيطالع سيرته ومبَادئ أمره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاتِه
وأخلاقَه في حركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، حتى
يصير كأنه معه، من بعض أصحابه."[1]. قلت: والشغف بسيرة الحبيب صلى الله عليه
وسلم وبتفاصيل حياته لازمة من لوازم اتباعه في جليل الأمر وهينه، أصدق علامات أهل
الله شغفهم بتقليد المحبوب في سنته الكاملة.(الإحسان 1: 188-189).
3.محبة رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله
وسلم، مفتاح فهم الوحي.
"وقال رحمه
الله(أي شيخ الإسلام ابن القيم): "ينجذب (المريد) إليها (الآخرة) بالكلية،
ويزهد في التعلقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة والقيام بالمأمورات الظاهرة
والباطنة(...). فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق
إليه. فإذا صدق في ذلك رُزِق محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستولت روحانيته
على قلبه(...). فإذا رسخ في ذلك فُتِح له في فهم الوحي المنزل(...) فإذا تمكن من
ذلك انفتح في قلبه عينٌ أخرى، يشاهد بها صفات الرب جل جلاله، حتى تصير لقلبه
بمنزلة المرئي لعينه. فيشهد عُلُوَّ الرب سبحانه فوق خلقه، واستواءه على عرشه،
ونزول الأمر من عنده بتدبير مملكته، وتكليمه بالوحي، وتكليمه لعبده جبريل به،
وإرساله إلى من يشاء بما يشاء، وصعود الأمور إليه، وعرضها عليه"(الإحسان، 2:
54).
والحمد
لله رب العالمين