على هامش ما يكتبه الأستاذ الدكتور عبد العالي مجدوب
خطأ اختزال عرض "المنهاج النبوي" في معنى الاجتهاد الفروعي
أ-المنهاج النبوي من حيث هو اجتهاد.
سيدي عبد العالي، تعلم أن هناك ثقلا تاريخيا علوميا جاثما على الإرادة وأنظمة التفكير لدى
النخبة العالمة والمفكرة في عالمنا العربي الإسلامي عموما، وهناك سؤال التجديد
والرجوع إلى الأخذ من النبع الصافي قرآنا وسنة، لكن مع هذا السؤال هناك سؤال
الكيف: كيف نتخلص من هذا الثقل، وكيف الرجوع إلى الأخذ من هذا النبع الصافي؟
هنا كان "المنهاج النبوي" من حيث هو اجتهاد في مرحلة تاريخية دقيقة من تاريخ
المسلمين والإنسانية؛ إذ أُنجز عبر عمليتين:
الأولى: تتعلق ابتداء باكتشاف المنهاج النبوي واكتشاف أسراره في
التربية والبناء، وهنا معنى التجربة الشخصية عند الرجل رحمه الله، وهنا معنى التوفيق،
وهنا معنى البعثة التجديدية.
والثانية: تتعلق بطريقة عرضه (أي المنهاج النبوي) حتى يكون أداة
علم وأداة عمل في نفس الوقت. ولذلك لن يدرك المرء قيمة عرض الخصال العشر،
وهي مرتبة بالترتيب الوارد في كل ما كتبه الرجل، رحمه الله، وكذلك تضمين كل خصلة
عددا من شعب الإيمان، هي الأخرى مرتبة ترتيبا مقصودا، ما لم ينتبه إلى أنها تشكل
المضمون القرآني النبوي الذي تجسده السنة النبوية المطهرة على صورة جامعة وشاملة،
بحيث تَحرك الخصال العشر عمليا يعني إعادة بناء الأمة من خلال إنجاز مراحل البناء
والتغيير: تغيير الفرد، بناء الجماعة، بناء الأمة، خدمة الإنسانية انطلاقا من
حقيقة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)الأنبياء107. وهنا
لابد من الوقوف على معنى التجديد عند الأستاذ المرشد، رحمه الله، الذي سنخصص له
مقالات مضافة إلى كل ما كتبناه في الموضوع منذ مدة إن شاء الله تعالى.
فإذن، المنهاج النبوي اجتهاد لعرض السيرة النبوية كاملة
غير منقوصة، ويجعل هذا العرض أفقا لحركته الميدانية الخلافة الثانية على منهاج
النبوة، ومن ثمة فلسنا أمام اجتهاد فروعي بقدر ما نحن أمام اجتهاد كلي غير مسبوق
علميا يعيد العلاقة المستقيمة مع الوحي من خلال حركة جماعة المسلمين موظفا فقها
جامعا. والفقه الجامع له وظيفتان:
الأولى: الاستفادة من التراث العلمي والعلومي الذي
خلفه لنا أئمتنا العلماء رحمهم الله في كل العلوم خلال مراحل تاريخ المسلمين بناء
على موقعه من أربعة قضايا:
1-الحكم.
2-الظرف التاريخي.
3-الصراعات المذهبية
4-موقف أهل العلم رضي الله عنهم المحافظة على
بيضة الأمة.
ولاشك أن منهاج الاستفادة من هذا التراث الضخم والهائل
هو: منهاج الشورى والعدل والإحسان، حيث تعرض عليه العلوم. والشورى والعدل والإحسان
مطالب كلية للشريعة ومعايير للنظر والتقييم والتقويم.
وما بني على هذا أن الإمام المجدد عبد السلام ياسين لا
يستجلب تراث علمائنا إلا استفادة لا أصلا في العلم والفهم وبناء السلوك، لأنه لا
يبغي عن الوحي بديلا وعن التجربة النبوية ملاذا، وهو معنى الاجتهاد من خلال صياغة
"المنهاج النبوي" الذي يجعل تجربة الصحابة الفردية والجماعية نموذجه
المقصود تربية وتعليما وبناء وعطاء في كل المجالات وفي كل مناحي الحياة، مما
استقام معه معنى السلوك الفردي مع السلوك الجماعي وفق قواعد جامعة يتعلم معها
المرء أين مصالحه الخاصة من مصالح الجماعة ومصالح الأمة ومصالح الإنسانية، فيتعلم
قواعد الترجيح بين المصالح والمصالح، والمصالح والمفاسد، والمفاسد والمفاسد وفق
فهم جديد وفقه جديد وإرادة جديدة، فيستقيم معنى البذل والعطاء، وهو مقتضى ترتيب
الخصال العشر مندرجة تحتها شعب الإيمان إلى ذروة سنام الإسلام، وهو خصلة الجهاد،
وذروة سنام شعب الإيمان شعبة الدعوة إلى الله تعالى وفق فقه دعوي تجديدي جامع.
أما الثانية: فهي الجمع في نظرة واحدة بين الدعوة والدولة
في كل مراحل تاريخ المسلمين: زمن النبوة والخلافة الراشدة، وزمن الحكم العاض، وزمن
الحكم الجبري، وزمن الإعداد للخلافة الثانية، وهنا تقتضي المناسبة التذكير بما
يغفله كثير من الباحثين: أن الخلافة الثانية، هي هي الإمامة المهدية. وهذا التذكير
له معناه ومغزاه هنا، لأن الرجل، رحمه الله، لايمكن أن ينظر من خلال الفقه الجامع؛
ثمرة مزاولة "علم المنهاج النبوي"، وهو جالس على أريكة الفهم الانشطاري التاريخي
الذي يحجب العقل المفكر عن حقيقة الوحدة بين المسلمين شيعة وسنة على الرغم من كل
ما نراه من آلام جرها هذا الفهم الانشطاري العمودي على الأمة التي كانت خير أمة
أخرجت للناس. ومن مقتضى السعي لهذه الوحدة الضرورية الشرعية، وهي أم المقاصد وشرط
تحقيقها، الموقف الجذري من الحكم الوراثي، والانشطار المذهبي.
هنا، أستاذي وسيدي عبد العالي مجدوب، بيت القصيد كما
يقال، أين القطعي والظني في هذا الاجتهاد؟ وما هو الكلي والفرعي فيه؟
حينما نؤكد على أن "المنهاج النبوي" اجتهاد في
عرض المضمون القرآني النبوي في صورة كلية، فمعناه أنه اجتهاد كلي ينجز مهمة كلية
هي إعادة التجربة الصحابية في التعامل مع الوحي، حيث غلب في تاريخنا التعامل
الجزئي معه عبر استعمال النصوص فرعية عند الاستنباط، وهو ما ينتج تفكيرا جزئيا لا
يستطيع اختراق الواقع الذي هو معطى كلي قائم. لذلك، ولإنجاز قوة كلية قادرة على
تغيير هذا الواقع في اتجاه تجديد اتجاهه ومضمون حركته، لابد من تحريك الوحي بما هو
حقيقة كلية جامعة، لا نصوصا مبعثرة، وهو مقتضى بناء جماعة المسلمين ورابطتها بناء
على الآية الكريمة: -(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح
29 ).
نحقق هنا، سيدي عبد العالي، نتيجة هامة: يتحرك الوحي من
حيث هو كلية تبني جزئياتها على أرض الواقع الخاص والعام من خلال حركة كلية وشاملة
تنجز تفاصيل البناء وفق وعي مرحلي مناسب لمعنى العلم إمام العمل، والعمل ينمي
العلم ويزكيه.
وبهذا، فالمنهاج النبوي كلية قطعية محكمة وحاكمة على
غيرها من الكليات والجزئيات بما هو اجتهاد جامع لعرض المضمون القرآني النبوي جامعا
بين العلم والعمل مرتبا معنى الطاعة الفردية ومعنى الطاعة الجماعية في سياق واحد
واضح ومفهوم له أهداف ومقاصد وغاية.
وهو ما يعني أن عرض المنهاج النبوي ككلية جامعة للمضمون
القرآني النبوي يُصيره قطعيا، وإنما الاجتهاد في طريقة العرض حتى يناسب الزمان والمكان
الذي تغطيه عملية التجديد. وهنا كلام عميق وهام في الزمان والمكان الذي تغطيه
العملية التجديدية التي أنجزها الإمام المجدد عبد السلام ياسين، وهو ما سنرجع
إليه، بحول الله وقوته، في بحوث أخرى.
وما يتفرع عن هذا الاستنتاج أن الموقف السياسي الجزئي في
مرحلة معينة من مراحل الزحف إنما هو جزئية ضمن حركة كلية، أي تجل من تجليات الموقف
الكلي المنسجم مع حركة الوحي ككلية تجعل من مطالب الشورى والعدل والإحسان أهدافا
مباشرة لها. وهو ما يفهم منه معنى اختيار موقع المعارضة الجذرية الذي ينتج الموقف
الجذري من كل نظام وراثي أو استبدادي لأنه متعارض جوهريا مع مقتضى المطالب
الثلاثة. نرجع إلى هذا إن شاء الله لنكشف عن عمق "المنهاج السياسي"
لجماعة العدل والإحسان.
ب-المنهاج النبوي من حيث هو علم.
إذا تقرر أن المنهاج النبوي كلية قطعية محكمة وحاكمة بما
هو المضمون القرآني النبوي جامعا، فمعناه أنه علم قائم الذات تحصيله هو ثمرة ما
عرضناه في الجزء الأول من هذا البحث المتعلق بتحصيل جوهر العدل والإحسان من خلال
اكتمال مسيرة القلب والعقل والجسد جهادا في سياق: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
و(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).
أعلم سيدي عبد العالي أنك رجل عميق القراءة دقيق
الملاحظة صارم المنهجية ومكثر الكتابة نثرا ونظما، وهو ما يؤهلك، حتما، لإدراك
علاقة الاجتهاد الفروعي بالاجتهاد الكلي في سياق عرض علم قائم الذات، وهو علم خاضع
لثلاث قواعد أساسية: الأولى: العلم إمام العمل، والثانية: العلم يفضي إلى العمل
مباشرة، والثالثة: العمل ينمي العلم ويزكيه.
فلاعمل من دون إمام العلم، والعلم ينتقل مباشرة إلى عمل بواسطة
الإرادة المجاهدة والحكمة العقلية التي تنظم عملية التنزيل بما يحقق موافقة قصد
الشارع من ذلك العمل، ثم هذا العمل يجعل المجاهد الحكيم ذي القلب الرحيم، سواء كان
شخصا أو جماعة، يكتشف مزيدا من مقتضيات ذلك العلم بما يناسب كل لحظة وكل مرحلة،
وهو مقتضى الاجتهاد الفرعي في استنباط المعنى العلمي المناسب، لذلك فمع مرور الزمن
ومرور المعاناة الخاصة والعامة سيكتشف من علم المنهاج النبوي ما يناسب الإجابة عن أسئلة
المرحلة التي تطرحها هذه المعاناة. وهنا أدخل معك سيدي مباشرة إلى معنى
"المنهاج السياسي" عند جماعة العدل والإحسان بما هو عملية فرعية في سياق
عملية تجديدية كلية وشاملة.
يتبع إن شاء الله تعالى