مفاهيم يجب أن تصحح بعد الثورة المضادة في مصر اليوم(1)
1. الربيع العربي الإسلامي ونهاية الحكم
الوراثي والانقلاب العسكري
لاشك أن شراسة الثورة المضادة في مصر وانقضاضها العنيف والدموي على كل مكاسب
ثورة 25 يناير انتكاسة كبرى في مسار الحرية، ليس فقط في مصر، بل في كل البلاد
الإسلامية. ولاشك، كذلك، أن بنية الحكم بعد ثورة 25 يناير لم تكن قادرة على مواجهة
مؤامرة كبيرة لتقويض امتداد التيار الإسلامي في تفاصيل الحكم التي لم تتخلص من
مورث النظام السابق مما سمح للتبلور السريع للثورة المضادة، لكن كل هذا، وهو
الظاهر للتحليل السياسي، لا ينبغي أن يحجب عنا القيمة التاريخية والإنسانية لما
جرى عبر موقف التيار الإسلامي الجذري في الدفاع عن الشرعية، العائدة مهما طال
الزمن، حيث شكل حدثا تاريخيا محوريا ربما لن تستوعب المفاهيم والأفكار وأنظمة
التفكير السائدة مآلاته، وسيبقى هكذا إلى حين نضوج هذه الأدوات إلى مستوى يمكنها
من كفايات الاستيعاب ثم التحليل في سياق عمليات تاريخية لا تخدم إلا مسار بناء
أساسات الحرية الحقيقية لكل الإنسانية.
وما يمكن التأكيد عليه اليوم -وقد كتبنا لهذه المرحلة كثيرا وبإلحاح، والمنة
والفضل لله سبحانه جل وعلا- أن درجة الوعي باللحظة التاريخية وبمطالبها كانت
متخلفة لدى كثير من عناصر النخبة المالئة لمجالات العمل السياسي والاستراتيجي،
والمفكرة لقضايا الأمة والإنسانية، وأن مرجع هذا التخلف مستوى الغموض المقصود أو
غير المقصود المهيمن على أنظمة التفكير وأدوات الاشتغال الميداني والمصيري خاصة
التنظيمية والهيكلية، وهو ما شكل عائقا كبيرا أمام مسار التحول التاريخي الذي ظهر
مع ما سمي بالربيع العربي، مما فتح الباب واسعا لأكبر أداة مستقرة على مدى قرون من
الزمن؛ إنها قوة الاستخبارات الاستكبارية والصهيونية وتوابعها بكل أصنافها لتتحكم
في مسارات شعوب وقضايا إنسانية مصيرية متعددة وتتلاعب بكثير من العقول.
مفاد هذا التذكير التأكيد على ما يلي:
- إن الرضى بالاشتغال على أساسات غامضة، سواء فكرية أو دستورية أو قانونية أو
تعاقدية، على أي صورة من صور التعاقد الاجتماعي والسياسي أو غير ذلك، وفي أية فترة
أو لحظة تاريخية، إنما هو تضييع لوقت وجهد الأمة وفرصة هامة لتجذر قوى الصيد في
الماء العكر وقوى الفساد والاستبداد والعمالة والخيانة والاستعمار والاستحمار.
ولذلك فبناء كل أساسات المستقبل يجب أن يتم على كامل الوضوح الكاشف الجميع للجميع
في إطار من التدافع الحر والمتكافئ، إذ مع غير هذا فلينتظر الجميع لحظة الصدام
الغامض الذي يغذيه العامل الخارجي السلبي ليصبح الواقع العام فتنة محيرة لا يُدرى
فيها الموقف الصحيح من السقيم ولا الموقع السليم من غير السليم، وهي الفوضى
الهدامة.
ومقتضى هذا أن جهاد دفع الغموض باب هام لدفع عامل الخوف، إذ غالبا ما يكون
الخوف مع الغموض وهما أوخوفا من أوهام، وهو ما يولد على منطق تبريري فقهي وسياسي
ويحافظ عليه يرجح حكم المتغلب بالسيف في كل زمان. إنها حالة تخلف تحتاج إلى رجة
عميقة تخلخل مسلمات تاريخية صارت سقف التفكير وحد النظر وسجن الحركة، ولعل ما جرى
في مصر يكون عاملا بليغا في الباب.
- إن صناعة الوعي وحده غير كافية، لأنه قد يكون سكونا لا حركة إن لم يتحول إلى
خبال فكري، ولذلك لا بد من صناعة الإرادة المقتحمة لمعاقل الغموض والعالمة بثمن
هذا الاقتحام ومراحله وأهدافه ووسائله الكلية والفرعية المنسجمة تماما مع طبيعة
الوعي السامي ومضامينه؛ حيث لا ثورة حقيقية إلا بوعي حقيقي وإرادة فردية وجماعية
حقيقية في إطار قيادة مجتمعية عميقة النظر راسخة القدم وحقيقية لا افتراضية. لذلك
عرضنا قضية القيادة في أول مقال معلق على ثوة 25 يناير تحت عنوان: "الرحيل من زمن الثورة إلى زمن الأمة" .
- إن من طبيعة كل ثورة في كل زمان أنها لا تنهي فقط واقع الاستبداد والفساد، لأن
هذين مفهومين عامان، ولذلك فكل اشتغال ميداني تغييري إصلاحي على أساس محاربة
الفساد والاستبداد لا يفضي البتة إلى تغيير حقيقي، حيث من وراء كل واقع فاسد يهيمن
عليه الاستبداد أنظمة مجتمعية وسياسية وتفكيرية، وغير ذلك، هي التي يجب إنهاؤها
وبناء أنظمة جديدة منسجمة مع المرحلة وخادمة للمستقبل. وهنا يكون معنى للثورة التي
تشكل نهضة عامة وشاملة تقوم من خلالها الأمة قومة ناتجة عن الولادة الجديدة بالقطع
مع نظام في الحياة وبناء نظام جديد لحياة جديدة ومتجددة وفق قيم ونظم جديدة، علما
أنه قد تمتد درجة الوعي الصحيح إلى عمق بنية الواقع وأنظمته السائدة فيحصل ما يسمى
بالثورة البيضاء إذا نتج عن هذا الوعي إرادة سياسية حقيقية تبرهن على مسار جديد في
اتجاه إنجاز مطالب المرحلة في إطار من الحرية الضامنة مشاركة الأمة، والشرط في هذا
أن تكون بنية النظام القائم قابلة للتحول إلى بنية الحرية والقوة والاستقلال، وهو خلاف
جوهر أنظمة الاستبداد مصدر الفساد.
لذلك إذا كان مع إسقاط رموز أنظمة سياسية بما سمي الربيع العربي تم الإعلان
عمليا عن نهاية الحكم الوراثي؛ فإن مع الجولة الثانية من الربيع العربي الإسلامي
في مصر، على يد هذه المقاومة الشرسة للثورة المضادة من طرف الشعب بقيادة إسلامية
ووطنية، تم الإعلان عن نهاية زمن الانقلابات العسكرية؛ وهو مكسب عظيم لا يقل أهمية
عن مكسب الوعي بنهاية الأنظمة الوراثية، ومن ثمة فكل من وقف ضد الانقلاب العسكري
في مصر وقف موقفا نبيلا وساميا في لحظة تاريخية حاسمة بالنظر إلى نتائجه العميقة
الأثر على الأمة والإنسانية. ولاشك أن حصول هذين المكسبين العظيمين مقدمةٌ جليلة
في طريق الحرية لأمة أنهكتها الانقلابات سواء الثورية أو العميلة، أما من وقف مع
الانقلاب بأي مبرر فقد وقف ضد حركة التاريخ قد يشوشُ على وضوحها لدى البعض لكن لا
يمكن إيقافها أو تحريف اتجاهها.
هنا نجد أنفسنا أمام حتمية إعادة النظر في مضامين وسياقات كثير من القضايا
والمفاهيم التي دوخت بها النخبة السياسية والفكرية التقليدية عقول الناس وصمت
آذانهم وصدعت رؤوسهم حتى صاروا يرونها وحيا مقدسا لا وحي غيره، خاصة أن هذه
المفاهيم نسجت واقعا معيشا معقدا ومتشابكا ومتعدد الأبعاد.
إن ما جرى ويجري في مصر اليوم يدعو ضرورة إلى الوقوف مع قضايا ربما كان
يعتبرها الكثير مسلمات كونية لكثرة تداولها في الخطاب النخبوي والإعلامي. ومن
الواجب على الحركة الإسلامية أن تجلس مستفيدة، لا أقول من أخطائها في مصر، بل من
الدروس التي ساقها الله تعالى لها من خلال حدث قد يظهر للوهلة الأولى في صورته
البشعة، التي لا تشكل إلا مسمارا في نعش أنظمة القمع والاستبداد، لكنه في حقيقته
منحة تستحقها تضحيات جسام لرجال عظام عبر تاريخ طويل من الجهاد، ذلك أن المستقبل
الذي ينتظر هذه الحركة ليس عملية سياسية جزئية، بل إنجاز واقع التحول التاريخي
الذي يحصل من خلال تحول عميق في المجتمعات والنفسيات وأنظمة الحكم والتفكير في أفق
إنجاز واقع دولي يقوض ويحارب الاستكبار الذي لا ينتج إلا استضعافا في الأرض
واستخفافا بكل الإنسان والقيم الإنسانية ويؤسس لكل وسائل المسخ والفساد والاستبداد
والمعايير المزدوجة.
كل ذي عقل راجح وضمير حي لا يملك إلا أن يكون في حالة صدمة مؤلمة بسبب بشاعة
الانقلاب العسكري في مصر وجرأته في قتل شعبه. وخطورة هذه الصدمة، بالنسبة للحركة
الاسلامية، تكمن في حصول مراجعات في الاتجاه السلبي تزيد من درجة الغموض في أفق
مشروع الحركة الاسلامية وتعمق درجة الخلاف وتسطح مستوى الفهم لقضية الصراع
والتدافع على أرض الواقع في بعده المحلي والدولي، وتختزل التغيير أو الإصلاح في
طلقات رصاص هنا أوهناك أو في عمليات جزئية وفرعية علومية أو فكرية أو سياسية هنا
أوهناك.
ولاشك أن زاوية النظر للحدث عامل حاسم في باب اكتشاف دروسه وآثاره والعلم
بمآلاته، ومن ثمة فمن ينظر من تحت ضغط تسلسل أحداث الانقلاب المتوالية وتسلسل حجم
معاناة الرافضين الانقلاب سيجد نفسه أمام حقيقة التسليم بالأمر الواقع؛ واقع حكم
الانقلاب العسكري المعروف في التاريخ بوعوده الخلابة وبشاعة بطشه وشراسة أكل
أطرافه قبل غيرها. لكن من ينظر من زاوية قيمة الموقف التاريخي والانساني الذي
وقفته جماعة "الإخوان المسلمون" وحلفاؤها وعلاقته بحجم التحولات
الجوهرية التي ستترتب عنه في بنية العلاقات وأنواعها داخل المجتمعات العربية خصوصا
والدولية عموما، سيدرك أن معيار النظر ليس البحث عن أخطاء الإخوان في طريقة الوصول
للحكم وطريقة تدبيره، وإنما المعيار حجم المكاسب التي استفاد منها وسيستفيد
المشروع التحرري الأصيل من خلال وجودهم المحاصر في الحكم لمدة أقل من عام، ومن
خلال صمود أسطوري نوعي في وجه الانقلاب والمؤامرة.
إن كلام الأخطاء لا فائدة منه على الأقل في اللحظة المعيشة، لأنهم وصلوا عبر
ثورة توجت بانتخابات نزيهة أفرزت حجمهم وحجم تضحياتهم وجعلهم يتموقعون تموقعا
صحيحا في حلبة الصراع ليحولوا دون انتكاسة كبرى في مسار حركة الأمة؛ فمن حقهم أن يكونوا
في الحكم ومن حق الشعب أن يكتشف حلولهم لأزمات خلفها حكم الاستبداد والتبعية
والعمالة، وليس من حق أحد أن يفرض عليهم متى يصلوا للحكم ومتى يسلموه لغيرهم، كما
ليس من حق أحد أن يتآمر على شرعية ولا يسمح لها بممارسة السلطة في أدنى ظروف
الاستقرار.
كيف تحكم على رئيس بالفشل وأنت لم تسمح له قط أن يجلس لتدبير قضايا الحكم لحظة
واحدة عبر مؤامرة كبرى لتقويض نظامه الذي لا زال وعودا انتخابية فقط؟
إن حجم المؤامرة جعل الرأي السائد أن الإخوان تسرعوا في قضية الحكم، والمفروض
قلب الصورة لتظهر على حقيقتها: أليس حجم المؤامرة وطبيعة أطرافها تكشف عن قيمة
وأهمية وأصالة وجدارة حكم المشروع الإسلامي كما تكشف عنه حجم التضحيات ونوعية
الثبات في الدفاع عن حق الأمة في الاختيار الحر ورفض الظلم والاحتلال والتبعية
والقهر؟
كما ينبغي أن يتذكر الجميع أن الإخوان لم يكونوا في بداية الأمر بعد ثورة 25
يناير 2011 على رأي ترشيح رئيس منهم، لكن تطورات الأحداث فرضت ذلك، وليتصور الجميع
عدم ترشح مرشح من الإخوان وفوز غيره من المرشحين من الإسلاميين أو غيرهم، ماذا كان
سيقع من انتكاسة للمشروع الإسلامي في مصر وفي العالم؟
قد تضغط الأحداث حتى تعتبر بعض قيادات الإخوان قبل غيرهم أنهم استعجلوا في
مسألة الرئاسة، لكن بعد حين سيكتشف الجميع حكمة الترشح وعظمة الوقوف في وجه
الانقلاب والمؤامرة.
إن اللحظة الدقيقة في تاريخ الأمم الثائرة هي اللحظة التي يصبح فيها مصير
الأمة ومصير الثورة مصيرا واحدا؛ هي لحظة حياة أو موت، هي لحظة اتخاذ القرار
المصيري الذي يحكم على مصير الأمة والثورة بالنجاح أو الفشل، وهنا يكون دور
القيادة والحاجة للقيادة الموفقة، حيث الحاجة للقرار الحاسم في مصير الثورة الذي
يعني حتما تقرير مصير الأمة.
فلله ذركم أيها الواقفون في وجه الانقلاب العسكري في مصر، كم حبستم من سفك
الدماء وتشريد الأطفال والنساء في علامنا العربي والإسلامي. فبعد حين ستدركون أن
قرار ترشيح مرسي قرار حكيم ليس بمعيار التحليل السياسي والتاريخي فقط، بل بمعيار
العناية الإلهية بالأمة المحمدية.
من هنا ينبغي أن نكتشف زاوية أخرى للنظر في مثل هذه الأحداث الكبرى، سواء التي
أنجزتها الحركة الإسلامية بوعي أو التي تعني العالم والعالم العربي والإسلامي، أو
التي ساقها الله قدرا من أقداره، وهو سبحانه العالم بعباده وبحاجاتهم في هذا
الزمان وفي ما هو أت من الأزمان، ذلك أن الوظيفة التاريخية للأمة المرتبطة بحركة
الإسلام وعلاقته بواقع العدل في الأرض والدلالة على الله والشهادة على الناس، أمام
هذا الدمار الهائل الذي تحدثه حضارة الغرب في واقع الانسانية، تحتم أن ننتبه إلى
عامل جوهري يتجلى في أن الله جل وعلا يسوق من الأحداث ما يدفع الحركة العامة
للمجتمع الإسلامي في اتجاه منسجم تماما مع مراده عز وجل في كونه ومن كونه الذي لا
دخل لأحد في تعديل اتجاهه وقصده، وهو أمر متوافق مع حركة التاريخ واتجاهه. هنا
ينبغي أن ننفتح على أدوات علمية جديدة في تدقيق النظر واكتشاف مآلات الحدث في أفق
القيام بالواجب لصناعة تاريخ غايته إقامة واقع العدل والحرية الذي يضمن كرامة
الإنسان كل إنسان ويثور ضد الاستكبار بكل قوة وحكمة وحرية واستقلال.
لقد كان على "الإخوان المسلمون" أن ينتظروا عقودا أو قرونا عديدة
ليدركوا من الفهم والعلم والعمل ما طواه الله لهم ولغيرهم من الحركات الإسلامية في
مدة قصيرة بين يدي هذا الحدث الجلل الذي تقف الإنسانية اليوم أمامه مأخوذة على
الرغم من الصمت السائد حتى الآن؛ فهو إما صمت الصدمة أو صمت التفكر والتدبر، ولاشك
أن لهذا النوع الأخير ما بعده من فتوحات لا يعلمها إلا الله ولي المتقين وحبيب
المحسنين الصابرين.
ربما يفرح الانقلابيون بلحظات قتل معارضيهم ويتمتعوا بلحظات اعتقال ومحاكمة
رموز الشرعية الذين صمدوا مع الشعب صمودا في ميادين مصر، لكن إنما هو فرح الغرور
اللحظي العابر الذي يكشف عن مستوى القيم التي يحملها الانقالبيون كعادتهم وعن أفق
نظرهم وضيق حويصلاتهم. وفي نفس الوقت يكشف عن عظمة من قُتل وشرد واعتقل وحافظ على
السلمية والوطنية الحقيقية رغم الدماء والجراح والآلام التي سيحكي عنها التاريخ
القريب قبل البعيد وعن بشاعتها وهمجيتها وحقارتها ودناءتها، لأن الثورة المضادة لا
تكون إلا خسيسة بطبيعتها.