الدرس الحمساوي في المصالحة الوطنية
السياق والأفق
1.تذكير
حينما قامت حماس في 2007 بعملية عسكرية أمنية
في غزة ضد عناصر من فتح وجعلت غزة منطلق عملية التحرير العسكري، الذي بلغت
الاستفادة منها المدى المقبول، لم يستوعب الكثير الأمر، وكذلك اليوم حينما تنازلت
على ما يقتضي التنازل في لحظة عصيبة على حماس وعلى القضية الفلسطينية وهي رمح
مقاومتها.
إن وصف التنازل إعلامي، لكن في جوهره إجراء
تكتيكي وفق استراتيجية تكشف أن أرضية التحرير هي القوة المجتمعية التي تجعل هدفها
السياسي وحدة وطنية.
ويظهر أن الخاسر في هذه اللحظة هم الإخوان في
مصر وسوريا والأردن وحتى اليمن، لكن القابل من الزمن سيكشف أن حماس بمدخلها هذا
ستكون مفتاح الفرج السياسي على هؤلاء الإخوان، دون أن ننسى أنهم كانوا المستفيدين
الأولين من الوضع الإقليمي والشعبي الذي ترتب عن فعالية المقاومة انطلاقا من غزة
بعد 2007.
2.الملاذ الوطني
لقد اختارت حماس في لحظة عصيبة الارتماء في
أحضان الوطن وأبناء الوطن، في الوقت الذي كان بإمكانها أن تتقوى بالخارج وتتغنى
بمحور المقاومة والممانعة وترضخ لضغوط الدعم العسكري والسياسي واللوجستيكي من طرف
إيران وسوريا، وبذلك مهما كان الثمن فهو اختيار صحيح وله ثمن لما ندرك أن القضية
الفلسطينية المستهدف الأول من صفقة القرن التي يدعو لها الرئيس الأمريكي والكيان
الصهيوني وعملاؤه، في الوقت الذي كشفت فيه العلاقات والخطابات الإيرانية والتركية
عن "ابراكماتية" عالية واستحضار كبير للخصوصية الاستراتيجية لكل منهما
اتجاه المنطقة (الإمامية الشيعية والعثمانية التركية).
فذكاء حماس السياسي عبر خبرتها الطويلة في
الميدان لن يجعلها لقمة سائغة أمام غطرسة الكيان الصهيوني وسذاجة المكر السياسي
العسكري السيسيوي.
لذلك درس حماس في بناء الموقف السياسي وإعادة
ترتيب أولويات الاستراتيجية السياسية، لايكشف فقط عن ما يسمى بالواقعية السياسية
لدى قيادة حماس، بل يفتح الباب أمام تحول هام في نظام التفكير السياسي عند
الإسلاميين، وسيكون الإخوان المسلمون أول المستفيدين، وهو ما سيؤثر بشكل جوهري على
الاستراتيجية الصهيونية الاستعمارية على المنطقة في انتظار اكتمال مستويات عرض
الخيار الثالث في التفكير السياسي والخط السياسي والاستراتيجية السياسية، أي في
بناء النظرية السياسية الكبرى عند الإسلاميين التي تقدم الأرضية الصلبة لخوض معركة
التحرير الشامل ورسم أفقها العمراني.
إلى ذلكم الأفق ستجري تحولات هامة على
المواقف السياسية لكثير من الحركات الإسلامية، وهي مقدمة جدية للدخول على مرحلة
كبرى من مراحل التحرير والخروج من دائرة الصراع الهامشي المرتبط بالمواقف الجزئية
من الأنظمة السياسية القائمة التي ستكون لا محالة ومهما كان شأنها، في مهب الريح
أمام عواصف الوعي بالذات الذي ينموا بسرعة فائقة ومتنوعة لدى شباب الأمة ونخبها
الصاعدة ويبني قواعده المجتمعية والسياسية والتنظيمية والفكرية.
إن اختزال الوجود الحركي لكثير من الحركات
الإسلامية في جزئية الموقف السياسي على صورته اللحظية عملية غير منسجمة مع عمليات
البناء التاريخي التحرري الذي يرسم المراحل على دقة عالية ويحدد مضامينها الفكرية
والاجتهادية والسياسية المناسبة بما يوفر قدرة كبيرة على استيعاب المتغيرات الخارجية
ويسخرها لفائدة أهداف ومقاصد وغاية المشروع التحرري الشامل.
3.الميدان حاكم ومحكوم
في الشأن الداخلي لكل دولة ولكل حركة لا يحق
للبعيد عن الميدان إلا التحليل، ولا يمكنه أن يدعي الصواب في ما يذهب إليه عندما
يتعلق الأمر بالقضايا التفصيلية.
فمن يريد أن يحاكم حماس، مثلا، على خيارات
تفصيلية فليكن في غزة وفي موقع حماس الريادي والقيادي ثم يكن لسماع قوله معنى، إذ
المتابع لحركة حماس وخطابها يدرك أنها مهدت طويلا لخطوة المصالحة عبر تقييم
التجارب السابقة واعتبار اللحظة السياسية ومطالبها، خصوصا بعد الانتصارات الكبرى
للثورة المضادة في مصر، وهي المنفذ الوحيد لقطاع غزة على العالم، وكشفها عن نيتها
إقحام حماس في وضع غاية في التعقيد نظرا لتدخل الاستكبار وكيانه الصهيوني فيه، ثم
انفلات الأمور إلى حرب أهلية في سوريا التي جعلت كل المصالح الدولية وتداخلاتها هي
اللاعب الأكبر في المنطقة، وقد كان لهذا تأثير مباشر على الصراع مع الكيان
الصهيوني وعلى الوضع اليومي للشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة.
نعم، تمتلك حماس أوراق قوة عسكرية وأمنية وتنظيمية
ومجتمعية وتواصلية داخلية وخارجية هائلة لن يكون من السهل تحييدها، وهي أوراق
استراتيجية في معظمها تتعلق بالشأن الداخلي لحماس والفلسطينيين، لذلك، فعلى مستوى
خيارات حماس لايحق لأحد أن يفرض عليها نتائج تحليله أو أهداف مطامعه، لكن من حيث
هي تجربة إسلامية عميقة وفي ظروف قاسية إلى أبعد الحدود يمكن أن يستفاد منها، خاصة
أن أوضاع كل الدول العربية لا تختلف في جوهر قضاياها عن الوضع الفلسطيني.
فمثلا ما يجري في مصر وسوريا والعراق واليمن
وليبيا على وضوح، لا يقل خطورة على ما يجري في فلسطين، وعلى ما يجري في كل البلاد
العربية وإن كانت أوضاع الاستقرار الوهمي فيها تكاد تحجب عن العامة حافة الهاوية
التي عليها الدول والأنظمة والمجتمعات، إذ من الوارد أن تنهار أنظمة ودول ومجتمعات
بسرعة غير متوقعة.
من هنا يحتل مفهوم القوة المجتمعية ومفهوم
الميثاق الجامع اللذين يجعلان هدفهما السياسي تقويض عوامل الفساد والاستبداد
المؤدية إلى الانهيار الكبير، وليس فقط أسبابه، ومن ذلك تمريض مرحلة انتقالية عبر
شكل من أشكال "الوحدة الوطنية" تفتح أفقا لاستقرار الأوضاع على أرضية
الإرادة الشعبية الواعية ويحد من التدخل الخراجي، ولا ينكر أحد أن عموم الشعب
الفلسطيني، الذي رفع صوته عاليا ضد الانقسام معبرا عن وعي حاد لديه، لم يعد يحتمل الانقسام
الداخلي الذي يغذي حالة الشتات الخارجي المؤلمة، علما بأن حماس طرفا مهما فيه رغم
مظلوميتها الكبيرة، فضلا عن النداءات الخارجية من كل غيور على القضية الفلسطينية.
فكما استطاعت حماس استثمار قطاع غزة فبنت
قوتها العسكرية وقاعدتها الأمنية فقوت أرضية المقاومة بشكل جذري ودقيق ستستطيع أن
تجعل حدود 67 على نفس الأمر، خصوصا أن الشعب الفلسطيني لم يتخل عن حسه المقاوم، ويؤيده
النظر الاستراتيجي الذي يكشف أن الأوضاع في المنطقة ومهما كانت قتامتها الحالية
ستكون لصالح خيار المقاومة الحاسم.
فما يهم في الدرس الحمساوي الحالي أن حركة
معنية بقضية مصيرية، كقضية فلسطين التي تعني كامل الأمة، وتواجه قوة عسكرية
استعمارية وأمنية هزمت الأنظمة والجيوش العربية واخترقت أنظمتها الأمنية مرارا
واستمرارا، استطاعت أن تعلن عن حيوية في تفعيل مضامين فكرها السياسي واستراتيجياتها
السياسية، ومن ثمة تفعيل مواقفها السياسية في سياق ترسيخها لقيم الشورى ونظامها داخليا
ووطنيا.
4.من المعارضة والمقاومة إلى أفق الدولة
إن هذا التفعيل المرتبط بجوهر وجود هذه
المقاومة دليل على حوية البناء التنظيمي والتواصلي العلائقي المستدل عليه بالقاعدة
التنظيمية والمجتمعية للحركة، وهو ما يؤهلها لاستيعاب ومواجهة تحديات المقاومة
استراتيجيا.
لكن هذا لا يعني أمان الحركة في ظروف
المستقبل المتعلقة بقيام الدولة وتدبير وجودها (اي وجود الدولة)، فبنية حماس
الفكرية والسياسية لحد الآن لا تنم عن وجود نظرية سياسية كبرى لديها نظرا
لارتكازها في الباب على المرجعية الإخوانية المفتقدة في مسيرتها العظيمة إلى نظرية
سياسية كبرى تمكنها من التعاطي الفعال مع قضايا الدولة وليس فقط مع قضايا المقاومة
والمعارضة، ولاشك أن هذا من معضلات الوجود الإسلامي المعاصر، وعامل من عوامل إخفاق
بعض التجارب عند تعاطيها مع الدولة وتفاصيلها.
يخطئ الكثير عندما لا يميز بين تفعيل المواقف
السياسية عبر عمليات الاجتهاد السياسي الفكري الذي يستمد حويته من قدرته على
التفاعل المستوعب للمتغيرات والمستجدات وبين رسوخ أصول وجود الحركة، لأن الشرط في
هذه الحالة أن يكون الاجتهاد بقدر ما هو مستند لهذه الأصول يكون مفعلا لها حتى
يحصل تأثيرها الضروري وحضورها الواضح في المرحلة واستشراف التي تليها وهكذا. وهو
ما يتطلب درجة كبيرة في وضوح هذه الأصول واكتمال بنائها النظري وتماسكها المعرفي
نعم، تتوفر حماس على تجربة إدارة قطاع غزة،
لكن حجم ما أفرزته من معاناة كان عاملا من عوامل الذهاب إلى المصالحة مع السلطة
الرسمية التي انتزعت منها حماس القطاع عام 2007 لضرورة المقاومة الاستراتيجية، وهي
تجربة تدبيرية استندت على التعاطف مع القضية في علاقاتها الخارجية والدبلوماسية،
لكنها لن تكون هي تجربة الدولة المكتملة الأركان في ظروف مجتمعية ودولية مختلفة،
وهو ما يعني أن من أدق مراحل الدولة الفلسطينية تمريض مرحلة استكمال "المشروع
الوطني" الذي يحقق التحرر الشامل ويرسخ فعالية الإرادة الشعبية، التي تتميز
في فلسطين بالتنوع الواعي والتاريخي على الأرض، في علاقتها مع السلطة ومع المحيط
الإقليمي والدولي.
لذلك فحماس لم تعد مطالبة اليوم بكوادر
عسكرية وتنظيمية وحركية وسياسية فقط بل عليها أن تؤسس لمدرسة هامة في بناء نظرية
سياسية كبرى متكاملة ومتماسكة تمكنها من استثمار خبرتها العميقة في المقاومة،
وسيكون أكبر عائق في الباب الحضور الكثيف للنزعة الوهابية في الخطاب الحمساوي، وهي
نزعة غير قابلة للخروج من قبضة الحكم الفقهي الجزئي والموقف الحركي الجزئي إلى أفق
النظرية السياسية المتكاملة التي لها القدرة على تنظيم حركة الدولة والسطلة
والمجتمع داخليا، وفي إطار العلاقات الدولية.
وهنا تطرح قضية الاعتراف من عدمه بالكيان
الصهيوني بحدة خلافا لمرحلة المقاومة، ذلك أن الوضع السياسي والمجتمعي الذي أصبحت
عليه حماس في فلسطين لا يسمح لها بالاحتفاظ بموقع المعارضة والمقاومة، بل يدعوها
إلى تحمل أعباء الدولة الفلسطينية سواء كانت مكتملة الأركان أو ناقصتها.
لذلك، سيكون اجتهاد حماس في الموضوع الأرضية
التي ستفرض على جميع قوى الأمة أخذها بعين الاعتبار، سواء كانت موافقة عليها أم
لا، خصوصا أن انتصارات الثورة المضادة ستمتد زمنا غير يسير، في القوت الذي تتسارع
فيه أحداث القضية الفلسطينية ويتعمق التدخل الاستعماري وترهل الأنظمة العربية
التقليدية.
هنا سيدخل العالم العربي مرحلة جديدة ما لم تكن
فيها الحركات الإسلامية في الموقع السياسي والمجتمعي المناسبين سيكون الأثر سلبيا
على القضية الفلسطينية، وهنا يتأكد الربط، الذي نلح عليه دائما، بين تحرر فلسطين
وتحرر الشعوب من قبضة الأنظمة الاستبدادية الموالية للغرب والخادمة لاستراتيجيته
الاستعمارية التوسعية في تحالف مع الكيان الصهيوني، وهو ربط مصيري مؤثر لا محالة
في الاستراتيجية السياسية لحركة حماس من حيث هي حركة وطنية منتمية لمشروع مرجعي
يعني الأمة جمعاء.