السلاح الأخلاقي في الإصلاح السياسي والدستوري
يتميز الحقل السياسي في المغرب بغلبة السطحية والفوقية في عمليته الصراعية التدافعية من خلال تمحوره على مبادرات القصر التي تأتي في توقيتات تجعلها محور هذه العملية، وهو ما كرس نمطا من الحراك والنقاش السياسيين موجهين بطريقة "أتوماتيكية" يضمنان هامشية المعارضة ويثبتان قطبية النظام السياسي بحيث يكون هو الضامن للاستمرارية الذاتية وبناء قواعده في أريحية شبه مطلقة.
لكن مع مبادرة 20 فبراير، ولما أصبحت محورية الخطاب والعمل السياسيين في المغرب مع رفع سقف مطالبها السياسية في ظرفية دولية وإقليمية وعربية مشحونة بروح الثورة والتغيير الجذري، كان التوقيت مناسبا لخطاب ملكي يتحين الفرصة منذ وفاة الحسن الثاني لجعل الملك الجديد في قلب العملية السياسية، بحيث ينتقل بالحكم من فترة الحسن الثاني إلى فترة محمد السادس من خلال تعديل دستوري يحمل الصفة الشخصية للملك الجديد في تدقيق موقع القصر في العملية السياسية على وضوح وترسيخ منهجيته في تدبير النظام السياسي.
ومن ثمة فليس المهم في التعديل الدستوري الجديد، التي تشكلت له لجنة معينة من طرف الملك، هو نوع التعديل بقدر ما المهم هو تكريس موقع القصر في العملية السياسية المغربية عهد محمد السادس الذي تحكمه ثلاثة ضوابط في الباب:
1- ضمان الاستمرارية (استمرارية النظام السياسي) على قاعدة: شعب ملكي وملكية شعبية.
2- المؤسسات السياسية حزبية وغير حزبية، رسمية وغير رسمية، هي خادمة لعلاقة القصر مع الشعب، وليست أداة تغيير وبناء، فهي أداة تنظيم الحياة على أساس أن علاقة الملك مع الشعب ليس فيها وسيط مهما كانت قوته المعنوية والحركية والتنظيمية، حيث المفهوم الجديد للسلطة يكشف عن وسيط بين الإدارة والمواطن وليس بين القصر والشعب، لأن العلاقة مع القصر مُباشرة ومبنية على الولاء، ضرورة الولاء المطلق وفق مفهوم معين للبيعة، وهو ما حرصت دائما الأحزاب الإدارية على تجسيده سواء في عهد الحسن الثاني أو مع حزب الهمة في عهد محمد السادس، بل انخرط في هذه العملية كثير من المؤسسات والنخب وهو ما ساهم بشكل واضح في تكريس هامشية المؤسسة الحزبية والمجتمعية.
3- الفقه السياسي والتشريعي والدستوري والقانوني دائر على تكريس هذه العلاقة وتطوير البحث فيها بما يضمن استمرارها وتطورها وتفعيلها ويحاصر أي نمط تفكير وفكر معارضين لها، وهو السياق المكشوف من كل التصريحات الرسمية لقضية الإصلاحات الدستورية والسياسية المرتقبة في المغرب.
من هنا يبقى السؤال مطروحا على مدى جوهرية كل ما يروم القصر والنخب المتحالفة معه إنجازه من تعديلات دستورية وسياسية.
ونظرا لأنه ضاع من وقت المغاربة الكثير في متابعات تعديلات وإصلاحات شكلية، أود في هذه المقالة المركزة أن أذكر بالقاعدة الأخلاقية التي تشكل السلاح المعنوي الضروري للدخول في مرحلة الإصلاح الحقيقي.
إن أي إصلاح سيواجه معضلتين، إذ دون حلهما وإعطائهما الأولوية الكاملة سنكون جميعا أمام لعبة التمويه والتسويف القاتلة:
الأولى: امتداد الاستبداد في عمق العمليات الإصلاحية.
الثانية: التقدم بإصلاح عمقه استبداد مطلق بين يدي إدارة عاجزة عن القيادة وفاسدة في عملية تدبيرها.
ومن هنا ينبغي مزاولة الوضوح الكامل لأجل بيان عدم جدوى أي إصلاح دستوري وسياسي بين يدي المعضلتين.
من الواضح أن حركة 20 فبراير كشفت عن الحقيقة التالية: أن الجميع مقتنع بضرورة التغيير، لكن خبرة النظام السياسي في المغرب في الالتفاف على إرادة الأمة عالية ومتراكمة، ومن ثمة سيجد كل العاملين بصدق لأجل التغيير أنفسهم في وضع دقيق في قيادة عملية التغيير نحو أهداف دقيقة وخادمة لمصلحة الأمة. ذلك أنه منذ وضع الدستور الأول وما تلته من تعديلات، المسماة إصلاحا زورا، تروم تحقيق هدف مركزي، ومع أهداف فرعية خادمة له، وهو تكريس واقع الاستبداد وضمان امتداده في عمق العملية السياسية وهيمنته عليها هيمنة مطلقة.
فهل يمكن أن تستطيع لجنة معينة بنفس المنهجية في التعيينات السابقة أن تصنع قوة معنوية وبشرية تنتج فعلا تعديلات دستورية تؤسس لإصلاح سياسي حقيقي؟
إن كل المؤشرات تدل على أننا أمام تعديلات لن تحرر المغاربة من قبضة الاستبداد وإن تفضلت عليهم بجرعات كعادة المنطق الإصلاحي في المغرب الحديث. لذلك فليس هناك خيار أمام المغاربة إلا الضغط الحقيقي المحكوم بقواعد الرفق والرحمة والحكمة واليقظة ونبذ العنف ومحاصرة أهله حتى تحقيق المطالب الدائرة كليا على تقويض الاستبداد حتى زواله، إذ لا ينبغي الوقوف في نصف الطريق.
سنكون مزورين على الشعب المغربي إذا تم الرضا بتعديلات لم تبن البتة على رد مظالم الشعب المغربي وهي كثيرة.
إن السلاح الأخلاقي الذي يمكن أن يدخل به القصر على إصلاح دستوري حقيقي يؤسس لعملية سياسية فعالة ونزيهة تضمن حرية الاختيار، هو إرجاع الثروة المحتكرة ومصادرها إلى يدي الشعب المغربي ليس عن طريقة شعبوية وإنما على قواعد تجعل كل المغاربة مطمئنين بأنهم سواسية أمام خيرات بلادهم، ومن ثمة تتوفر لهم الكرامة حتى لا يبقوا بطالين منتظرين عطاءات مرتزقة الانتخابات وتجار الصفقات.
إنه إذا ملك القصر الجرأة أن يفكك بكل حزم وحكمة طابوهات الفساد المالي وأن يفكك ثروته الخاصة، أي القصر، ويدقق في مصادرها ويسلمها للشعب المغربي ساعتها سيكون كل أمير وأميرة في كل مكان على رأس وعين الشعب المغربي قاطبة.
إنك حين تحتكر الثروة والسلطة وتسخر كل واحدة منهما للأخرى وتعمل كل ما في وسعك لاستدامة هذه الوضعية فأنت حتما داخل في مواجهة مع الشعب لا يعمل أحد متى تصل مداها ولا كيف نهايتها والعبرة في التاريخ البعيد والقريب والمعيش...
فمن المعلوم أنه حينما تتدكس الثروة في يد القابض على السلطة، ومع مرور الزمن، تنجز واقعتين:
- نخبة موالية فاسدة تعيش على الامتيازات الكبرى وتعمل فوق القانون وخارجه.
- طبقية صارخة يعيش معها الشعب مآس لا تتصور وتتطور بوثيرة سريعة ومؤلمة. وساعتها يصبح النظام السياسي فاسدا أخلاقيا وإنسانيا تفقد معه أي إصلاحات معناها وقيمتها.
ولحد الآن لم يظهر أي مؤشر يدلل على أن القصر مشتغل على هذا الموضوع الذي من دونه لا معنى لأي إصلاح ولا لأي تعيين ولا لأي تعديل.
إن القصر قبل غيره يدرك جيدا أن إدارتنا غارقة في الفساد العام الذي لطالما هدد المغاربة قاطبة في وجودهم.
ومن ثمة فإن أي إصلاح بين يدي إدارة فاسدة كاسدة، أقل مصائبها هدر المال العام والإفلات من العقاب والسؤال إلا ناذرا لدر الرماد في العيون، لن يكون إلا لعبة سياسية إدارية تافهة. ولذلك قبل التقدم خطوة واحدة في "الإصلاح الدستوري" لابد من إصلاح الإدارة وتطهيرها وتخليقها.
نعم تلك عملية تحتاج إلى الوقت كما هو محتاج في عملية رد المظالم وعلى رأسها ثروة الشعب المغربي، وهو ما يجعل إنجاز هذه العمليات لتهيئ ظروف الإصلاح السياسي والدستوري في عداد المستحيلات.
إننا أمام تراكم تاريخي سلبي شكل جوهر بنية النظام السياسي في المغرب، فكيف السبيل للتسلح بهذه القيمة الأخلاقية ليدخل القصر بالمغاربة على طريق التغيير والإصلاح الذي يليق بهم وبحجم مطالبهم ومستقبلهم؟
ذلك ما ستجيب عنه الأيام والشهور القادمة أمام تطور حركة الشعب المغربي مع شبابه نحو رفع سقف المطالب كلما تأخر تنزيل هذا السلاح الأخلاقي على أرض الواقع. فلم يبق وقت لشكليات السياسة وجرعات المنح الدستورية، التغيير ولاشيء غير التغيير.
ما بعد 20 مارس 2011
استطاعت حركة 20 فبراير والقوى الداعمة لها في ظرف شهر أن تحقق ثلاثة أهداف مركزية:
الأول: تنظيم صفوفها أكثر مما فوت على النظام "بلطجة" الاحتجاجات و"بلقنتها". كما أشهر أنه لحد الآن هناك قيادة تتشكل مرحلة بعد مرحلة وتتطور في أدائها وقيادتها لعملية الاحتجاجات التي تعبر عن أفق تغييري باتت أبعاده تتضح أكثر خاصة بعد الخطاب الملكي.
الثاني: توجيه رسالة قوية لبعض السياسيين والمثقفين والفنانين والإعلاميين مفادها أن حركة 20 فبراير حركة واعية إلى أبعد الحدود وواضحة الأفق النضالي، وأن من اعترض عن وجودها أو هون من قوتها لم يكن في الموعد مع التاريخ وحركة التاريخ لاترحم إذ تتجاوز العراقيل مهما كانت وفي الوقت المناسب.
الثالث: وجهت رسالة قوية وواضحة للنظام السياسي مفادها أن زمن الهروب إلى الأمام من طرف النظام لم يعد ممكنا نظرا لفرامل الوعي السياسي والاستعداد النضالي الجهادي الذي أصبح يؤطر حركة الشباب في المغرب. وأن زمن العطايا والمنح قد ولى إلى غير رجعة.
إن الاستماع لصوت الشعب في هذه اللحظة التاريخية كما هو وبما ينطق مسألة حياة أو موت.
كما كشفت تظاهرات ارتباك الجهات المعنية في تدبير التعامل الأمني من حركة الاحتجاجات المتصاعدة والمتفاعلة، إذ في ظرف شهر جرب النظام ثلاثة أشكال لم تفلح في التمويه والتشويه والتعتيم:
فقد جرب "البلطجة" في مظاهارت 20 فبراير والصور والأفلام تثبت ذلك، ولكن لم تفلح هذه الطريقة في تخويف وإرعاب وإرهاب الشعب من أن يخرج في ما بعد. كما جرب الهجوم الأمني الكاسح في ما بعد لكن في 20 مارس خرج الناس غير مبالين بما إرهاب المخزن. كما جرب التعتيم الإعلامي، كعادته، في التقليل من أهمية المظاهرات ومحالات إثارة النعرات كما فعل من خلال رفع اتهام جماعة العدل والإحسان بالهيمنة على المظاهرات وممارستها العنف في مدن شتى كمراكش وخريبكة، وهو ادعاء يعلم الجميع مدى مخالفته للحقيق.
فجماعة العدل والحسان من القوى السباقة لدعم حركة 20 فبراير وهي تشارك في كل مظاهراتها وتقدم خبرتها في التنظيم والتعبئة لتفادي كل انزلاق قد يحرف مسار الحركة، وذلك لكون مطالب 20 فبراير منسجمة تماما مع ما كرست الجماعة جهادها لتحقيقه وأدت ثمنا باهظا على ذلك، فأن تلتقي مطالب حركة 20 فبراير مع مطالب حركة العدل والإحسان فذلك لا يعني أن هذه الأخيرة ترغب في الاستحواذ والاستفراد بل تدلل كل الوقائع أن الجماعة ترغب في مشاركة الجميع في تحمل مسؤولية التغيير والإصلاح الحقيقي في المغرب وذلك منذ وجودها ولعل فكرة الميثاق التي دعت الجماعة إليها منذ قيامها والتي بدأ الوعي السياسي في المغرب يدرك أهميتها وجدواها في الظروف القائمة.
أما دعوى العنف فالجميع، بما فيهم النظام وأجهزته الأمنية، يدركون أن جماعة العدل والإحسان أحرص الناس في الدنيا على الرفق والحلم والرحمة والتؤدة والتدرج ورفض العنف والغموض والخوف مطلقا.
إن مظاهرات 20 مارس 2011 التي عمت أغلب وأهم مدن المغرب والتي جاءت بعد الخطاب الملكي وبعد الحملة الإعلامية التي واكبته وواكبت تشكيل لجنة التعديلات الدستورية، تكشف على أن المغاربة قد نهضوا في اتجاه التغيير الحقيقي وأن الالتفاف على هذه النهضة لن يزيد الأمر إلا تعقيدا وغموضا، لذلك يجب تحقيق الأمور التالية:
1-الاستمرار الواعي والمنظم في بناء واقع الاحتجاجات وتوسيع مواقعها واستقطاب كل غيور وراغب في التغيير والإصلاح الحقيقي.
2-الاستمرار في بناء قيادة التغيير دعما لمطالب حركة 20 فبراير لتلتحم هذه القيادة في درجة هامة من الوعي مع لحظة التغيير المطلوب والممثل لإرادة الشعب المغربي الذي بدأ يتحرك بقوة اتجاه سياق حركة 20 فبراير لما بدأت تأخذه من مصداقية وثقة عامة.
3-الاستمرار في بناء نظام المطالب الشعبية وتدقيق سقفها تفاديا لأي اختلاف في اللحظات الحرجة التي تواكب كل عملية تغيير تعنى بواقع سياسي معقد إلى أبعد الحدود.
4-الانتباه إلى أن النظام لم يوظف لحد الآن إلا اليسير جدا من أوراقه لإجهاض حركة التغيير التي أصبحت واقفة بقوة واقتراح أمام كل مؤسسات الحكم.
5-الاستمرار في الرفع من مستوى الأداء الإعلامي والتغطية الإعلامية محليا ودوليا لأجل صناعة الرأي العام الإيجابي اتجاه هذه الحركة التغييرية.
6-الانتباه إلى عدم جر هذه الحركة التاريخية إلى هوامش المعارك خاصة الإعلامية منها لأن اللحظة ترفض ذلك جملة وتفصيلا وفي نفس الوقت يجب الاشتغال على القضايا الكبرى والمحورية التي تدفع بقوة وحكمة في خدمة مطالب الشعب المغربي في التغيير والإصلاح الحقيقي.
وهكذا، فقد تبين بعد 20 مارس 2011 وكما أكدنا ذلك في مقال "أفق التغيير في المغرب بعد 20 فبراير" أن النظام السياسي في المغرب أمام خيارين:
1-التراجع إلى الوراء وتفويض السلطة للشعب بعد رد كل مظالمه السياسية والاجتماعية وغيرها وفق خطة تكون فيها الأمة حاضرة ومراقبة ومحاسبة وليس على طريقة طي صفحة الماضي من خلال تعويضات مالية.
2-التشبث الأعمى بالمواقع، وهو حتما سيؤدي إلى مواجهة حتمية بين إرادة التغيير وإرادة مقاومته والتشبث بالمواقع السياسية والمالية والاقتصادية، ولاشك أن هذا الخيار سيؤدي إلى مهالك كثيرة في معيار النظر المجرد وإن كانت بمعيار التغيير الشامل أمر لابد منه، لأن ساعتها تكون حركة التغيير في موقع لا يقبل نهائيا الوقوف في منتصف الطريف.
فهل يسمع المعنيين بالأمر لصوت الشعب المتصاعد أم يصموا الآذان، ساعتها يكون الطوفان قد وصل حدا لا يمكن إيقافه؟
فليعتبر العاقلون من التاريخ ومما يجري حولهم إن كانوا عقلاء فعلا، أما من أعمته السلطة والجاه والثروة وقرر القتال حتى آخر لحظة فليعلم أن حركة التاريخ العظمى لا ترتهن لإرادة الأفراد، لأن عمقها متساوق ومتطابق ومتوافق كليا مع إرادة الشعوب في الحرية والعدل والكرامة والأمن والاستقرار والاطمئنان.
والموعد الصبح أليس الصبح بقريب