مفاهيم يجب أن تصحح بعد الثورة المضادة في مصر اليوم(3)
القضية
الثالثة: الحرب والثورة والعنف أية علاقة؟
1. الحرب والثورة والعنف
إن ما جرى في مصر من انقلاب عسكري عنيف على الشرعية في شخص أول رئيس
مدني منتخب في تاريخ مصر يفرض على العقل المفكر اليوم في حاضر الأمة ومستقبلها،
وكذا الإنسانية، أن يقف من خلال منبر الفقه العالي الذي لا تحجبه بشاعة الحدث عن
استلهام دروس عملية عبر إعمال عميق لأدوات جديدة في تقييم وتقويم واقع العنف
المسيطر على الحياة النفسية والفكرية والسياسية والمجتمعية في عالمنا العربي؛ عنف
مقبول من طرف القوى الكبرى ومبرر من طرف نخبة عالمة ومفكرة لطالما دوخت العالم
بخطابها الرنان حول الحرية والنضال الوطني والوطنية والديمقراطية والمقاصد الشرعية.
إننا أمام لحظة تاريخية لا مستقبل للجميع بعدها ما لم يتم التخلص من
نظام تفكير سياسي وعلومي يفرض على الجميع عنف الحكم عبر أداة القمع العسكري
والأمني. لذلك كانت قيمة الموقف السامي والنبيل ل"جماعة الإخوان
المسلمون" وحلفائها في الوقوف أمام جبروت الانقلاب العسكري عبر السلمية
المطلقة التي لم يبخل الانقلابيون بكل وسيلة لتصويرها عنفا، قيمة إنسانية
وتاريخية، مما يفرض البحث عن مداخل ومخارج لعبة يراد من خلالها تصوير عنف الثورة
المضادة قوة وسلم وحق الاعتراض السلمي عنفا وفوضى وباطل.
فمن المعلوم أن الجيوش تشكلت في إطار معنى الحرب هجوما أو دفاعا عن
النفس. ودون الدخول في مناقشات متى تكون الحرب مبررة ومتى تكون غير ذلك؛ فالحرب
دمار محقق، ومن ثمة لا تنفك ولا تنفصل عن العنف ما لم تكن عملية تشكيل الجيش في
إطار خدمة قضية إنسانية كالدعوة الإسلامية التي قدمت أنموذجا راقيا في الدفاع عن
النفس والمستضعفين عبر التاريخ، وكأنموذج بعض التدخلات الإنسانية لإنهاء حروب تحولت
إلى إبادة جماعية كاملة في القرنين الأخيرين.
الشاهد عندنا أن منطق الحرب جعل من الجيوش أداة عنف بعد تضخمها إلى
حد لم تعد تابعة للقرار السياسي السيادي في كثير من الدول المتخلفة مع تراكم
ترسانتها من السلاح والتعبئة ولو في إطار العدو الوهمي، خاصة لما تنهزم عند
مواجهتها في حرب تقليدية أمام العدو الحقيقي، إن توفر، حتى يقرر جل النخبة المغربة
أن وطنا مثل مصر لا يمكن أن يحكمه إلا عسكري. يا له من تخلف فظيع كفظاعة من يؤبد
حكم الأمراء والملوك بناء على منطق تبريري فقهي منحبس!!!
إن البشاعة التي عاشتها أوربا وأمريكا خلال القرن العشرين بسبب
الحروب الداخلية (الحرب الأهلية) أو بين الدول دفعت الجميع إلى ضرورة الوصول إلى
مستوى الاستعداد الحربي في كل المستويات العسكرية والنفسية حتى يجعل من الحرب التي
يتم الإعداد لها مستحيلة الوقوع بسبب الوعي بحجم الدمار الذي ستحدثه، ومن ثمة يكون
الانهزام والانتصار محققا دون خوض الحرب، الأمر الذي لم يحصل مع الجيوش العربية في
مواجهة العدو الصهيوني، في حين تضخمت آلة العسكر داخليا فلم يبق أمامها إلا أن
يكون الحكم والسلطة والثروة الهدف المباشر لجنرالاتها المتنفذين، ليكون السؤال
المسكوت عنه كثيرا: ما هي العقيدة العسكرية لجيوشنا العربية أمام ما نراه من بطش
مرعب تنفذه في حق المواطن البسيط؟
إن القضايا النووية التي عرفها العالم في القرن العشرين، وإن أنشأت
مستوى هاما من توازن الرعب والردع، فإنها فتحت بابا كبيرا للدمار الحقيقي
وللاستعمار الجديد الذي جعل من العالم رهينة بيد القوى الكبرى، في حين تضخمت الآلة
العسكرية بعد حصول الاستقلال السياسي لدى الدول الضعيفة. وهو ما كرس منطق
الانقلابات العسكرية وحكم العسكر أو توظيفه لفرض السيطرة المطلقة على السلطة
والثروة، بل وظفت دول مستكبرة الانقلابات العسكرية لفرض التبعية لها والتخلص من
أنظمة سياسية لم تكن على مزاجها.
إن سيادة منطق الحرب في القرن التاسع عشر والقرن العشرين جعل من
أواخر هذا القرن وبدايات القرن الواحد والعشرين قرن السلاح المنتشر والسيادة
للبندقية، في حين بقي مطلب الحرية بعيد المنال، رغم التضحيات الجسام، ومطلب النضال
السلمي حلما لا تسمح قوة البطش العسكري ببقائه طويلا حيا ورائدا، مما جعل الثورات،
غالبا، إما بعد حرب مدمرة أو تكون هي مقدمة أساسية للحرب (داخلية أو خارجية). ولعل
جل حروب وثورات القرن العشرين خير دليل على هذا، الأمر الذي يفرض مجددا السؤال عن
ماهية الثورة ومآلاتها، ذلك أن الثورة، بمعناها السائد، كالحرب التي لا يمكن أن
تكون إلا عنيفة نظرا لما تخلفه من آلام إنسانية؛ فالحرب لها عدو والثورة لها ثورة
مضادة عدو قد تنتصر عليها وتُفشل مسارها إذا ما توفرت شروط ذلك، ساعتها يكون
انتصارها ساحقا لأنه محكوم، حتما، بمنطق الانتقام وإنهاء روح ومصادر الثورة. هنا
يكون منطق عسكرة الدولة ومؤسساتها هو الحل لمنع الثورة من العودة أو تأجيلها إلى
حين على الأقل خاصة مع استمرار طمع جنرالات عساكر لم يخوضوا معارك مع العدو
الحقيقي وتضخمت سلطتهم وثروتهم وجاههم وطمعهم وتحالفاتهم مع الفساد والمخابرات
الدولية التي لم تترك مكانا حساسا إلا سخرت عملاءها وخبراءها لاختراقه واحتواء
مساراته، لذلك سيكون الجواب العلمي والعملي عن هذه القضية عسيرا، إذ هل يمكن أن
تصمد السلمية مع تحقيقها الانتصار أمام بطش انتقامي ماكر ومتآمر وعدواني وعنيف
عنفا شاملا؟
سنحاول هنا استلهام التجربة المصرية في كلياتها حتى لا يحجبنا الحديث
في أخطاء جزئيات الحراك، بما هي تجربة مفصلية تاريخيا وقيميا، ذلك أن انتصار
السلمية على العنف في لحظة حاسمة، تعني الحياة أو الموت لكلا طرفي الصراع، يمهد
للدخول مباشرة في مرحلة تاريخية جديدة كليا على مستوى تفاصيل الحياة السياسية
والمجتمعية والدولية.
إنني هنا لا أريد أن أسائل النخبة المغربة عن علاقتها المبدئية
بمفاهيم الحرية والديمقراطية والوطنية والاستقلال وغيرها من المفاهيم التي أسالت
مدادا غزيرا ودماء عزيزة، ذلك أنه في مقالات عديدة منذ أواخر التسعينات أكدنا على
أن الخلاف سياسي وجزئي بين النخبة المغربة والأنظمة السياسية القائمة في أمتنا،
وأن المرجعية في عمقها النفسي والفكري واحدة. لذلك حينما يحمى الوطيس وتصبح
المسالة مسألة حياة أو موت لا نجد غالب هذه النخبة، خاصة المحترفة للسياسة، إلا
حليفا مصيريا لأنظمة لا علاقة لها بالشعب، لأنها لا علاقة لها بمرجعيته التي تشكل
ماهية وجوده التاريخي والوجودي والمصيري. لا نسائل هذه النخبة عن علاقتها بتلك
المفاهيم ذات الكيل بمكيالين كما بينتها وقائع لا تحصى منذ بروز الحركة الإسلامية
في الواقع السياسي والمجتمعي، لكن يجب القول إنه أصبح من باب الالتزام الفكري، على
الأقل، إعادة النظر جذريا في مفاهيم الديمقراطية والوطنية والحرية كما يروج لها من
طرف هذه النخبة وإعلامها. ومن ثمة تدقيق الموقع والموقف من هذه النخبة ومن
مفاهيمها ليكون أفق حركة المجتمع واضحا تمام الوضوح. وهنا، بكل موضوعية علمية ودون
تعصب بالتأكيد، أحيل على فقه الإمام المجدد عبد السلام ياسين، في المسألة حيث خصها
بالحديث الطويل والعريض نظرا لأهميتها في البناء النفسي والإرادي والفكري
والمجتمعي والتاريخي المصيري، ذلك أن سياقات بناء المعرفة والعلم وصياغتها ضمن
مفاهيم دالة يجعل الأمر مترابطا بين هذه المفاهيم حتى ولو لم يحصل الوعي بهذا
الترابط الدلالي المتجلي في قضايا عملية.
فمفاهيم الديمقراطية والحرية والحرب والثورة وأخواتها متعانقة ضمن
حلقات الوعي بالذات لدى الغرب وصائغة لأنظمته في الفكر والسياسة ومنتظمة ضمن نمط
من العلاقات الدولية يهادن حينما تكون المهادنة لصالحه ويعادي بعنف قاتل حينما
تكون العداوة والعدوان لصالحه لا لغيره، مما شكل لديه نمطا معينا في علاقته مع
الآخر.
ما نقصده هنا أنه آن أوان الوعي الحاسم بضرورة تجاوز ضياع وقت وجهد
الأمة في اللهث وراء سراب الإصلاح المؤطر بمثل هذه المفاهيم الذي لن يتحقق ضمن
سياق متحكم في آلياته الكبرى وفي مآلاته باعتماد منطق القوة الناعمة الحاسمة
والاستبداد الناعم الممزق اللذين يخفيان من وراء نعومتهما عنفا شاملا ومطلقا لا
رحمة فيه؛ عنفا يشكل الجانب المعنوي فيه أخطر ما يهدد الإنسانية مكملا مهمته بشقه
المادي الشرس والمدمر لكل قوى الإنسان والمجتمع.
لقد وصلنا إلى حد لم يعد منطق الردع عاملا مانعا من نشوب حروب داخلية
وهي أكثر فتكا، لأنها تمزق المجتمع كله، أو خارجية؛ بل صار العالم قرية البطش
بالناس وتشريدهم حيث لا إشكال أن تنقض آلة العسكر على السلطة وتغير نظاما منتخبا
وتقتل وتعتقل بالآلاف وتحرق المنازل وتشرد أهلها دون أن يلاحظ غضب للضمير العالمي،
ولا بأس أن يبطش نظام بثوار ولو بالكيماوي، ولا بأس أن يفعل نفسَ الأمر احتلالٌ
بأصحاب الأرض ويعتبر ذلك الضمير العالمي الشكلي السائد دفاعا عن النفس أو نشرا
لقيم الديمقراطية...
تُعلمنا التجربة المصرية اليوم، على مرارتها، درسا عظيما ربما لو
اجتمع معلمو العالم واشتغلوا عليه عقودا أو قرونا لإقناع الكثير به ما أفلحوا؛ إنه
درس خيار القوة لا العنف، إذ هو الخيار الوحيد الباقي أمام الأمة لتحقق استقلالها
وعزتها وكرامتها، ومن ثمة عزة واستقلال وكرامة الإنسانية.
نعم خيار القوة، لكن ليس بالمعنى المفروض ضمن السياق الغربي الذي لا
يجعل من القوة إلا العنف والدمار كما صاغته الحضارة الغربية، خيار القوة الحاصلة
ضمن سياق حركة قيمة الرحمة القلبية وقيمة الحكمة العقلية، ومن دون هذا الخيار لن
تكون القوى الحية والصادقة إلا رقما من أرقام لعبة الأمم في سياق منطق حضارة قائم
على معنى الاستعمار والتوسع ولو اقتضى ذلك عنفا مباشرا وكيلا بمكيالين.
انتباه: ليس هذا حديث العاطفة حينما نتكلم عن الرحمة القلبية والحكمة
العقلية؛ ولذلك كتبنا في مناسبات عديدة وتكلمنا عن العلاقة بين هذه المفاهيم وما
تطلبه من شروط نفسية تربوية تعليمية وسياسية اجتماعية، وتنظيمية مجتمعية، وهكذا،
انطلاقا من معنى "علم المنهاج النبوي". إنه حديث الكشف عن كليات التجديد
الشامل الذي يعيد جذريا بناء أنظمة التفكير والسياسة وجزئياتها وقواعد السلوك
الفردي والمجتمعي والتأسيس لنظام علاقات دولية عادل بقوة الرحمة وحكمة القوة.
هنا، ودون أن يحجبنا الخلاف المذهبي، يجب أن نقف عند تجربة الإمام
الخميني، كما لم يحجبنا الخلاف في الدين أن نقف مع تجارب إنسانية وقعت هنا أو هناك
في التاريخ البشري.
أقتصد في تجربة الخميني قبل أن تتقهقر ثورته إلى معنى مذهبي ضيق،
وقبل أن تتقهقر أكثر إلى معنى فارسي؛ فصارت في الأخير في نفق تسلسل انتمائي قاصر:
فارسي ثم إثنى عشري ثم إسلامي، مما حجم دورها التاريخي بشكل لم يجعلها أمل
المسلمين والمستضعفين كما نظر لذلك الخميني، رحمه الله تعالى.
أقصد في تجربة الخميني أنه لا يمكن بناء نظام سياسي كامل إلا من خلال
ثورة كاملة في عالمنا الحديث حتى نتمكن من خوض المعارك من موقع القوة لا من موقع
الضعف. ولعل لهذا شاء المولى، عز وجل، أن تكون هذه الثورة فلتة تاريخية من يد
الغرب القابض على تفاصيل حياتنا؛ فلتة ربما أقسم الغرب أن لا تتكرر ولو اقتضى
الأمر استعمال القوة؛ أي العنف الشامل كما يفهم الغرب القوة، لذلك كان لزاما على
هذا الأخير ضرب كل القيم عرض الحائط لإفشال تجربة الإخوان على ضعفها السياسي.
إن المدخل لتفكيك العلاقة بين الحرب والثورة والعنف هو القدرة على
صناعة سياق جديد كليا يقطع كل عمليات البناء المجمعي عن سياق غلبة الغرب الذي شكل
هذه العلاقة، إذ لا يمكن فصلها إلا بتفكيك كل بنياتها على أرض الواقع في النفس
والفكر والممارسة اليومية في بناء مؤسسات المجتمع وهياكله، ومن ثم حتمية بناء
كليات جديدة تبني جزئياتها الجديدة على أرض الواقع ضمن سياق جديد ومتحرر.
2. القوة والقومة والسلام الدولي
حينما تكون الآلة العسكرية والأمنية وسيلة لحسم الخلاف فتقتل وتشرد
الصغير والكبير والمرأة والرجل، ولا تميز بين المعترض السلمي والرافض العنيف،
فإنما هي الوجه الآخرة لعملة العنف الثوري الذي هيمن على ظاهرة الغضب العارم
لإسقاط أنظمة الاستبداد والفساد حتى ولو كان البديل عنها غامضا يتيح فرصة نجاح
الثورة المضادة بسرعة أو يفسح مجال سوء التفاهم المدمر.
تكون نهاية استعمال الآلة العسكرية في الحرب، في الغالب، بيد القرار
السياسي، أما حينما تكون انقلابا فلا أحد يملك منعها من استمرار بطشها بشعبها سوى
الشعب نفسه، خاصة في ظل نظام دولي يكيل بالمكيالين وضمير إنساني شكلي يعير
بمعيارين.
لذلك لا أمل في وقف هذا النزيف الانقلابي وتبعاته ضد الحرية في
عالمنا العربي سوى الانتقال من معنى الثورة السائد إلى معنى تجديدي للثورة حيث
إنجاز التغيير الجذري الذي أصبح الوعي بحتميته وضرورته حتى لدى أعدائه، والانتقال
من معنى العنف في العلاقات وتدبير الخلافات إلى معنى القوة البانية لمجتمع قوي
لمنع كل تدمير في الكيان الإنساني الفردي والجماعي والكوني، والانتقال من نظام
دولي قائم على الحرب لفرض السلام (الذي صار وهما) إلى نظام دولي قائم على السلام
الحقيقي لمنع الحرب، والانتقال من سيادة الضمير الإنساني الشكلي من خلال منظمات
شكلية إلى الضمير الإنساني الحي الذي يبني مؤسسات القوة والعدل والحرية.
هذا الانتقال ليس قفزة في فراغ، ولا عملية ترقيع أو تلفيق بين
القضايا والمفاهيم والحضارات، ولا هو عمليات سياسية جزئية إصلاحية، ولا هو شكل
تنظيمي عمودي، إنما هو وضوح شامل في إدارة وتدبير عملية الصراع والتدافع داخل
المجتمع وفي إطار العلاقات الدولية بما يفرض ضرورة الوعي بممارسة الدور داخل
المجتمع المحلي والدولي من خلال الحجم الحقيقي بحيث لا يمكن أن تحكم الأقلية عبر
العنف، ولا يمكن أن تحجم الأغلبية الأقلية من خلال العنف. ولذلك قلنا في مقال سابق
أن ما سمي بالربيع العربي يفرض حتمية الوعي بضرورة الاصطفاف المجتمعي والسياسي
تفاديا لأي خلط في المواقع والمواقف والأدوار. فقوة المجتمع وحكمة القيادة
المنتخبة هو ما يتيح إمكانيات التوازن الحقيقي والعادل، أما العنف فهو أعمق دليل
على الضعف والخوف. والغموض والخوف والضعف ثلاثي شكل واقع التخلف لدينا.
وإذا أزالت الشعوب اليوم عامل الخوف بعد تضحيات جسام وأسقطت بعض رموز
أنظمة سياسية وهددت أخرى فتكون قد قامت بدورها الأساس؛ فإن واجب القيادة أن تزيل
عامل الغموض والضعف لتكتمل صورة التحرر بحيث من موقع القوة ودون خوف يعلم الجميع
إلى أين المسير والمصير وكيف على وضوح تام.
فحينما ينهض المجتمع لتحقيق أهدافه بوعي ودون عنف فهي القومة لما
تكون القيادة رافعة شعار "هي لله هي لله"، وحينما يفرض الشعب قيادته
المنتخبة ويفرض عليها هذا الاختيار أن تكون إرادتُها إرادتَه فهي لحظة الانتصار
الحق. لذلك يجب على قيادة التغيير الجذري أن تنتبه إلى عدم وجود انقسام عمودي داخل
المجتمع حيث التغيير الجذري إذا اصطدم بواقع الانقسام المجتمعي العمودي قد يتحول
إلى حرب داخلية في الغالب.
ومقتضى هذا أن القيادة المجتمعية في إطار بناء القوة المجتمعية ينبغي
أن لا تسمح البته بأي اختراق للمجتمع يقسمه عموديا وحتى أفقيا؛ أي أن التغيير
الجذري حتى يكون منسجما مع منطق القوة التجديدي لواقع الثورة الحقيقي (القومة) يجب
أن يؤسس لكل ضمانات تمنع حقا ممارسة العنف على أي صورة من صوره، وهنا تكمن قيمة
"الميثاق"، وقيمة "الجبهة المجتمعية" لا الجبهة السياسية، أي
قيمة الوعي الاستباقي بمسار حركة المجتمع وأفقها ومآلها مع الانتباه إلى العمق
الاستراتيجي لهذه الحركة ضمن الحراك الدولي في كل تفاصيله ومجالاته.
ستكون هناك فئة لا شك تشتغل بوعي منها على هذا الانقسام، لأنه عامل
توازن ضروري بالنسبة لها، لكن يجب على قيادة التغيير الجذري أن تجعل من هذه الفئة
هامشية حيث من خلال مزاولة الوضوح بالتلقائية لا تسمح حركة المجتمع باحتلالها أي
موقع تأثير. وهو الأمر الذي لم يحصل في مصر حيث تضافرت عوامل كثير حتى صار المجتمع
في الواقع يعاني من انقسام عمودي أضعف حركته، مما يفرض على قيادة التغيير في مصر
تدارك ما يمكن تداركه لفتح الباب أمام بناء القوة المجتمعية التي تشكل بوصلة
الحراك العام في هذه اللحظة الحاسمة. ومن مقتضيات هذا تجنب الآثار العملية
للخلافات بين مكونات قيادة التغيير الجذري وبناء رابطة قوية أمام عنف الواقع ومكره.
إن الاشتغال ضمن سياق حركة هذه المفاهيم الثلاث: القوة والقومة
والسلام العالمي لا شك أنه سيؤثر جوهريا في بناء مواقع الحراك ومواقفه ومضمونه،
بحيث يفرض الانتقال من سيادة منطق الإصلاح في رسم استراتيجيات حركة المجتمع إلى
سيادة منطق القوة ضمن حركة ثلاثي: الرحمة والقوة والحكمة الذي ينظم حركة المجتمع
أفقيا وعموديا وبه تنتظم.
ليس هذا تنظيرا أكاديميا مجردا كما يعتقد البعض، ولا حلم السبات
العميق على أرائك النضال الهامشي والكراسي العلومية، بل ثمرة إعمال قواعد الفقه
العالي الذي مصدره "علم المنهاج النبوي"، وهكذا فالحركة الإسلامية، خاصة
في مصر اليوم، بموقفها الجذري من الانقلاب وعنفه واستمراره سيجعلها متقدمة جدا في
اكتشاف منطق القوة غير العنيف، وهو منطق سيتقدم بحركة الأمة في بنائها وصراعها مع
أعدائها خطوات هامة، في حين سيكون منطق التنازل هو سماح بفقد مواقع ليحتلها الغير
إن لم يكن هذا التنازل حكمة (يكون مقبولا) أو تصحيحا لخطأ سياسي هام عبر درج
التنازلات (تصحيح خطإ بخطإ) مما يعني بقاء واقع الضعف.
إن خطأ احتلال موقع معين دون وقته المناسب هو خروج عن سياق حركة
ثلاثي الرحمة والقوة والحكمة، وقد يؤدي إلى تحريف مسار المعركة وفتح جبهات في غير
وقتها، وهو ما سيبدد جهودا ضخمة للحيلولة دون الانتكاسة الكبرى ساعتها، إذ الانتكاسة
في تدبير قضية الحكم انتكاسة كبرى، حيث يشكل موقعا اختباريا تحت الضغط الشديد،
ولأنه اختبار للعلاقة القائمة ومستواها بين ثلاثي: القوة والقومة والسلام العالمي؛
أي كشف مستوى ما تتوفر عليه الحركة الإسلامية ساعتها من إمكانيات في تدبير هذه
العلاقة في اتجاه تحقيق أهداف العدل والحرية والكرامة، وإمكانياتها في الاختراق
الضروري لمنظومة الضمير الدولي الشكلي وبناء الحقيقي وفق ما نسميه بالوعي المرحلي
الدقيق الذي يشكل بناءات الوعي الاستراتيجي المصيري العميق. من هنا يجب البحث عن
السند الاستراتيجي الحقيقي للثورة (القومة).
3. السند الاستراتيجي للثورة
(القومة)
لا ثورة من دون سند استراتيجي، لأنه عامل حاسم في النجاح وضمان
الاستمرارية.
فقد يكون السند خارجي كما هو شأن كثير من الثورات خلال الحرب
الباردة، أو بعدها، وهو الغالب، وقد يكون سندا داخليا لكن السؤال حول جدواه يبقى
واردا.
ودون الدخول في مناقشات مدى استقلال أي ثورة حينما يكون سندها خارجي
إذا لم يكن معيقا لها أو عامل إقبارها، وارتباطا بموضوعنا –اعتماد الفقه العالي في
استنباط دروس مصر اليوم- فإن العامل الذاتي حاسم ويتجلى في عاملين تمت الإشارة
إليهما سابقا وكانا موضوع بحث القضية الأولى والقضية الثانية: عامل الغيب وعامل
تنظيم وتعبئة وبناء وعي السواد الأعظم للأمة بما يوفر القيادة الربانية المجاهدة
والقوة المجتمعية الهائلة حتى تلتقي في لحظة تاريخية إرادة تلك القيادة بإرادة هذه
القوة فتكون لحظة النصر المبين. وهي لحظة الالتحام الكامل بين إرادة السواد الأعظم
من خلال حركته الكلية وبين حركة الغيب في واقع الناس.
إن ما يناسب المعنى التجديدي للثورة، وهو معنى القومة، يقتضي تغييرا
جوهريا في معنى السند الاستراتيجي. ولذلك حتى إذا حاصر العالم القومة وتوفر لها
السند الاستراتيجي المصيري المتمثل في عامل الغيب وقوة السواد الأعظم للأمة الواعي
كان النصر الحاسم المتجلي ليس فقط في إنهاء الانقلاب بل في تغيير مجرى التاريخ.
ولهذا ترتبط قضية السند الاستراتيجي بأمرين؛ استقلال الثورة (القومة)
وامتدادها في التاريخ من حيث هي قيمة إنسانية شاملة، ومن ثمت فالسند الاستراتيجي
امتداد عالمي لروح الدفاع عن المستضعفين وكل القيم الإنسانية، لذلك فهو ليس تنظيما
عالميا ولا معنى قوميا يشمل قطرا أو أقطار، بقدر ما هو تحرك تلقائي واع لكل قوى
الصدق والمروءة المدافعة عن الإنسانية المتخلصة من قبضة الضمير الإنساني الشكلي السائد
اليوم والضاغطة عليه ليتبنى حقا حقوق المستضعفين والمقهورين والمعتدى عليهم بما
فيهم الأجيال القادمة لتعيش حرة وكريمة، والمتخلصة من قبضة القومية داء العصر
وفيروس الغرب في أمتنا.
لذلك ليس عبثا أن يكون من قدر الله ما حدث في مصر اليوم مصدر مرض
القومية العربية التي شكلت عقيدة الجيش العربي على غموض شديد فيها وضعف هائل لم
يسمح لها بالصمود أمام الصهيونية وعقيدتها، فانفجر في وجه الحركة الإسلامية عنفا
وغضبا لم يقف عند المحاكمة والإعدام بل تجاوز ذلك إلى كل صور التعذيب والتشريد
والاضطهاد. ومن ثمت لا نفاجأ إذا ما كان إعلان موقف مرسي من المسألة السورية نقطة
أفاضت الكأس في العلاقة مع قيادة الجيش الواضعة كل جهدها وبصرها على كرسي الحكم،
كما لا نفاجأ أن يقف كثير من القوميين موقفا إيجابيا تجاه الانقلاب وسلبيا تجاه
الدفاع عن الشرعية لأن قيادتها إسلامية.
الشاهد عندنا هنا أن الرهان على السند القومي العروبي في الثورات
العربية رهان خاسر تماما، لأنه لا يمكن الرهان في بناء القوة الحقيقية على مرض ما،
ومن ثمت إذا ما تم إثبات هذا عمليا في مصر اليوم فسنكون أمام تحول جوهري في طبيعة
امتداد الحراك العربي ليتحول إلى ثورة حقيقية تروم الحرية الشاملة في إطار حياة
سياسية ومجتمعية عادلة، لأن السند الحقيقي يكمن في هذا السواد الأعظم لأمة الإسلام
كما بين لنا ذلك تضامن الشعوب الإسلامية، خاصة غير العربية، مع المضطهدين في مصر وسوريا
في الوقت الذي تخلت النخبة العربية القومية بل منها من شن هجوما هائجا على تجربة
"الإخوان" في مصر وغيرها من التجارب.
فما نريد تقريره في قضية السند الاستراتيجي من خلال الدرس المصري
اليوم هو أنه إذا ما تم التحام عامل الغيب مع عامل قوة السواد الأعظم للأمة كان
الوضوح وكان النصر التاريخي حيث تكون القوة التي لا تقهر.