حينما تصنع الدمعة الوعي والإرادة على المتخاذل أن ينزاح عن الطريق


حينما تصنع الدمعة الوعي والإرادة
على المتخاذل أن ينزاح عن الطريق







مبارك الموساوي

.1.

في الماضي القريب تُحكى سردا المأساة فتتأثر العواطف وقد تدمع العين  ويستغرق رد الفعل زمنا طويلا، أما في زماننا هذا فالمأساة ترى رأي العين، وتنقل الصورة حية وتتابع من كل الزوايا خبرا على خبر وحدثا على حدث فتفعل فعلها في النفس والفكر مباشرة قبل أن يستفيق المحلل ليعيد قراءتها كما علمته المنهجية التي تدرب عليها في المعهد لعيد عرضها تفكيكا وتركيبا دون أن يكون لذلك اثره الكبير على ما فعله الحديث مباشرة.
كان في الماضي القريب وسيطا بين الحدث والمتلقي، أما اليوم فالإنسان يستطيع أن يقف على الحدث مباشرة وبكل تفاصيله وينقله كما هو حي إلى العالم فيعيشه معه كما يعيشه هو، إذ في كثير من الأحيان ينقل معه حتى رد فعله المباشر ساعة وقوعه.
في كل معارك القرن الواحد والعشرين بتاريخ النصارى شاهدنا جميعا دموع المدنيين ودمار الطبيعة وآهات الآباء والأمهات وصرخات الثكالى وأنين العجزة وكيف تفننت التقنيات الحديثة في تقليب الصورة من كل جانب من مشارق الأرض ومغاربها حتى صارت هذه الصورة دمعا ممزوجا بالدم ومصحوبا بالأنين والصراخ والآلام والعويل.
فهل هذا هو العالم الذي نريده جميعا، والذي شيب البحث عن أمنه وسلامه وعدله الفلاسفة منذ القدم والحكماء والعلماء، وبعث الله، عز وجل، قبل ذلك الأنبياء والرسل، لرفع الظلم وقيام الرحمة والمحبة؟
هل غلب جانب الشر والعنف في الطبيعة الإنسانية جانب الخير والرفق، ولماذا وإلى متى؟
أليست الإنسانية التي صارت قرية واحدة في حاجة مصيرية إلى عملية تاريخية رفيقة تدلها على الطريق الأخير إلى الخلاص؟

.2.

قد يحار المرء العادي، فضلا عن العالم والمثقف والمفكر وجميع طبقات المعرفة والعلم، أمام هول ما يجري في عالمنا من شرور وآلام، فيبحث عن تفسير هذا الضيم المطبق على الإنسانية وهي تعج بمعاني التقدم والرفاه !
كيف تنعم قلة قليلة بالبذح السافر والحماية من كل جانب وتشرد الأغلبية وتجوع وتموت الموت البطيء أمام أعين أحبابها وأهلها ولا يستطيعون مساعدتها؟
كيف يفتك بالأرواح والأجساد على الملأ وبشكل بشع وبأفتك أنواع الأسلحة والعالم يملأ الدنيا هذرا حول مفاهيم غامضة وهامشية ولا قيمة لها: كمحاربة الإرهاب والسلم العالمي والأمن الغذائي وأخواتها التي صارت تنتظم التفكير الحديث دون جدوى عملية؟
.3.
هل هذا الواقع لاعلاقة له بصناعة الوعي الصحيح لدى عموم الناس الذين لا يحسب لهم حساب في عالم الفكر والسياسة، ولاعلاقة له بصناعة الإرادة لدى هؤلاء؟
هل سينسى الضمير الإنساني ما فعلته الحروب في كل بقاع الدنيا على الأقل خلال القرون الأخيرة، خاصة القرن العشرين والواحد والعشرين؟
هل سينسى العرب والمسلمون ما فعلته الغطرسة الغربية والصهيونية لما بطشت بالناس في افغانستان والعراق ولبنان وفلسطين؟
هل سينسى العرب والمسلمون تلك الدموع والآهات في مجاز القرن العشرين والواحد والعشرين مثل صبرا وشاتيلا وقانا وفلسطين بما فيها غزة العزة على طول الحروب التي لم تستعمل فيها إلا آلات البطش الفتاكة التي صنعتها العقلية الغربية في فهما لمعنى القوة والسلم العالمي؟
هل سينسى الجميع ما فعلته وتفعله أنظمة الاستبداد والبطش بالمواطنين لمجرد مطالبتهم بالحرية من المحيط إلى المحيط؟

.4.

لذلك لا نستغرب أن عند أول فرصة حتى ولو كانت فلتة خرجت الشعوب هادمة حاجز الخوف وأسقطت رؤوس أنظمة سياسية وقوضت أخرى وهددت أخرى.
نعم عند أول فرصة خرجت الشعوب لأن هناك وعيا صامتا وإرادة مقبورة أنجزا مهمتهما، لكن خذلتهما قيادات لم تكن في مستوى اللحظة، وغير مؤهلة للموعد مع التاريخ.
فهل ضاعت فرصة الحد من هذه المأساة بهذه الحركة الجزئية مع ماسمي بالربيع العربي، أم مازال الطريق سالكا وهناك فرصة لتسترجع القيادة دورها الحقيقي وتنجز مهمتها كاملة؟
يبدو أن لعبة المنابر الفوقية والمعارك الهامشية انتهت، وأن مفهوم النخبة لابد أن يعاد فيه النظر، وأن المؤسسة القادرة على بناء حقيقي لواقع الأمن والاستقرار لم توجد بعد.
لذلك شكلت هزات الربيع العربي توجها جديدا لم يخضع للاهتمام المستحق، لأنها لم تزح رؤوس أنظمة سياسية مستبدة وهددت وأرعبت أخرى فقط، بل خلخلت جذريا مفاهيم وصححت أخرى؛ ومنها معنى القيادة المؤهلة للقيام بالمهمة التاريخية الضرورية.
ومن هنا لا ينبغي اعتبار تلك الدموع والآلام والآهات والدماء البريئة من دون قيمة وأنها ستذهب سدى.
أليست الروح عزيزة عند الله، أي أنها أمر عظيم ولن تذهب دون ثمن، ولعه ثمن الحرية الغالية التي تؤسس فيها القيادة الحقيقية الشروط النفسية والمادية والسياسية والاجتماعية وغيرها لتنطلق الإرادة إلى اتجاه البحث عن حقيقة الوجود دون عنف أو إرهاب أو تسلط أو استكبار.

.5.

هل نحن في حاجة إلى هذا العنف الحاد لنخرج جميعا من نفق العجز عن إدراك حاجة الإنسانية إلى الحرية وعن إدراك الطريق إلى هذه الحرية؟
هل لابد أن نبقى سجناء منطق أن الحوار والتفاوض لا ينجح إلا حينما يستند إلى المنطق العسكري الذي يقتضي أن لا تخاطب الغير إلا من موقع القوة العسكرية التي تزود السياسي بأرضية صلبة تجعله في موقع تحقيق أغراضه هو سواء كان شخصا أو منظمة أو دولة؟
لعل ما فتحه ما سمي بالربيع العربي من أفق جديد حجبته بعض توافه النضال الفئوي والطائفي والفرداني الشخصاني سيكشف أن أرضية القوة الحوارية أو التفاوضية هو معنى القيمة التي تحملها عبر رسائلك المتعددة وليس حجم أطماعك، وأن القيمة الإنسانية لما تكون عظيمة لا تجعل من أدوات تبليغها آلات البطش والعنف والتطرف والقمع والإرهاب أيا كان شكلها وحجمها ومصدرها.
هنا فقط يجب التأكيد أن مسار الوعي الصامت والإرادة التي تقتحم معاقل العنف على الإنسان والجهل بحقيقة وجوده لتكنسها بالرفق اللازم سيحسم في القضية لما تكون عملية الحسم عملية تاريخية منسجمة مع معنى حركة التاريخ والكون وجوهر الوجود الإنساني، و ما الرفق إلا القوة التي لا تؤمن بالعنف أبدا، لأن العنف وسيلة الضعيف نفسا وفكرا وقضية مهما أحاط بنفسه من وسائل البطش المادي، ولعل التاريخ خير دليل، ومن صلب هذا التاريخ حركة الأنبياء والرسل وخاتمهم محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلام الله غيروا وجه التاريخ برفق النبوة ورحمة النبوة ورسالة النبوة، وفي هذه اللحظة سيتنحى عن الطريق الأخير لإنقاذ البشرية من جهلها بنفسها كل متخاذل أو معاند طوعا أو كرها.