الطريق الأخير إلى الاستثناء المغربي
أو سؤال المرحلة الانتقالية في مغرب اليوم
بين استراتيجية العدل والإحسان وتكتيكات النظام
أو سؤال المرحلة الانتقالية في مغرب اليوم
بين استراتيجية العدل والإحسان وتكتيكات النظام
للمغرب ميزات تاريخية وسياسية وواقعية، نمر
على بعضها بعد إن شاء الله تعالى، دفعت كثيرا من المراقبين والمحللين والسياسيين
إلى الترويج لمقولة الاستثناء المغربي من حيث ما عاشته بعض الدول العربية مع ما
سمي بالربيع العربي.
وقد بينت الأحداث والوقائع والأفعال أنه ليس
هناك استثناء في المغرب نظرا لتفاقم الأزمة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية التي
تجد أمامها تجربة هائلة لدى النظام السياسي في الالتفاف على إرادة الشعب ومطالبه
وتهميش النخب.
فنحن أمام ثلاثة معطيات:
إصرار النظام السياسي على مزاولة عمليات
التفاف والتواء متكاملة الأركان دون الحد من التدهور السياسي والاجتماعي
والاقتصادي الذي تؤكده حتى الأرقام والخطابات الرسمية فضلا عن عيرها.
انهيار دول ومجتمعات عربية لما بلغ مثل هذا
الإصرار مداه وتمادى إلى درجة توريث حكم "الجمهوريات"، علما أن نظام
التوريث أصل من أصول العملية السياسية الفاسدة في المغرب.
وجود رؤية استراتيجية مصيرية لدى أكبر تنظيم
دعوي سياسي مجتمعي، هو العدل والإحسان، وفرت إمكانية هائلة لاستشراف المستقبل
واقتراح آليات وتنفيذ استراتيجيات جنبت المغرب كثيرا مما عاشته وتعيشه مجتمعات
ودول، ولعل حرص هذا التنظيم منذ مباشرته للعمل السياسي على توفير آليات متجددة
تؤكد على جدوى وفعالية هذه الرؤية؛ كان أبرزها في المجال "نظرية
الميثاق" التي لم تخضع بعد للبحث الكافي من طرف الباحثين، علما أن الجماعة
تتوفر على مفاهيمها وأدبياتها وفق نسق متكامل علميا وعمليا.
لذلك يمكن التساؤل بعد تجربة حوكة 2012،
وبعد تجربة 20 فبراير، عن الطريق الأخير للاستثناء المغربي وفق استيعاب جيد لهذه
المعطيات؛ ليس فقط من حيث تجنب انهيار السلطة والدولة وحتى المجتمع، لكن لإنجاز
انتقال حقيقي من دولة ونظام الاستبداد إلى دولة ونظام الحرية الذي توظف فيه كل
الطاقات الصادقة في التغيير والإصلاح والتحرير والبناء المستمر لواقع الكرامة
والقوة والاستقلال.
اكتسى مفهوم المرحلة الانتقالية منذ أواسط
القرن العشرين أهمية سياسية بالغة تكرست خلال ثورات أمريكا اللاتينية وأوربا
الشرقية مع انهيار الاتحاد السوفياتي، دون أن نغفل تجربة جنوب إفريقيا بعد انهيار
نظام الميز العنصري، كما ظهرت أهمية الاستعداد الجذري لهذه المرحلة لتأمين مسار
الحرية مع ما سمي بالربيع العربي منذ 2011 لتجنب الانهيارات الكبرى التي لا يبقى
معها معنى لشيء.
ولا ينكر باحث أو مراقب أن جماعة العدل
والإحسان تتوفر على غزارة تنظيرية هائلة في الموضوع مصحوبة بمبادرات جدية عملية
عبر تاريخها، ومتسمة بدرجة كافية من الوضوح والصرامة قلما استوعبها نظام التفكير
السياسي السائد على الرغم من أن الأحداث المتتالية محليا وإقليميا ودوليا تؤكد
جدواها ومصداقيتها.
كما لا ينكر باحث أن النظام السياسي في
المغرب (القصر بالتحديد، والمقصود بالقصر هنا كل البلاط الذي يدير دفة الحكم
والسلطة والثروة) كان سباقا لتأثيث مفاهيم من صناعته الخاصة لتمريض مرحلة معينة،
خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مع بداية حقبة ما سمي بنهاية الحرب الباردة، أي
منذ بدايات تسعينات القرن العشرين مع الانتباه إلى مفاهيم الترويض والاحتواء
كمفهوم السلم الاجتماعي ومفهوم الإجماع الوطني وأخواتهما.
فما يعنينا هنا أن جماعة العدل والإحسان،
باعتبارها معارضة قوية من حيث امتدادها المجتمعي ومن حيث وضوح موقفها السياسي ومن
حيث حجم الانتهاكات التي تتعرض لها، وقبل ذلك من حيث قوة اقتراحها عبر مشروعها
المجتمعي الذي تعرضه على المغاربة للخروج من أزمة شاملة لا تكفي فيها عمليات
ترقيعية أو تلفيقية مهما كان حسن النية فيها، باعتبار كل هذا، تشكل الجماعة عاملا
مهما لا يمكن تجاهله في حاضر ومستقبل العملية السياسية في المغرب، وأن تجاهله أو
إقصاءه يعني فشل أي مبادرة لم تأخذ بعين الاعتبار حقيقة وجود العدل والإحسان، وفي
نفس الوقت يجب أن يعي الجميع أن استراتيجيات الاحتواء بالعنف أو باللطف كما
استراتيجيات استثمار الكم الجماهيري للجماعة فقط لن يكون له جدوى سوى تعطيل حركة
التغيير والإصلاح وتعميق درجة الغموض والارتباك في العملية السياسية.
وما يعنينا، كذلك هنا، ضرورة الوعي بأن
النظام السياسي في شخص القصر في المغرب، مسئول تماما، باعتبار اللحظة التاريخية
التي يمر منها المغرب، وباعتبار تموقعه (القصر) عبر تاريخ طويل في الحياة
المغربية، وباعتبار ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي وفي العالم، عن تفادي
انهيار السياسة والمجتمع في المغرب لما يصر على أنه اللاعب المحوري، وربما الوحيد،
والفعلي في الحياة السياسية والمجتمعية.
لهذه الاعتبارات، وغيرها كما سيتبين لاحقا،
يبقى سؤال المرحلة الانتقالية في المغرب معروضا بالضرورة لتحقيق عمليتين
متكاملتين؛ الأولى تتجلى في نقد جذري لعملية الانتقال والتوافق والمصالحة التي تمت
في المغرب منذ تسعينيات القرن الماضي، بما في ذلك عملية الالتفاف الثانية مع دستور
2011 وحكومة 2012، للكشف عن أن هذا الإجراء لم يكن إلا احترازيا، والثانية تتجلى
في الاستشراف الحقيقي لا التوهمي لمستقبل المغاربة على درجة كبيرة من الوضوح
والمسؤولية، مع الانتباه إلى عدم اعتبار النقد الجذري لتجربة الانتقال والمصالحة
التي شارك فيها أغلب مكونات اليسار وأهمها وانغمس فيها كثير من الإسلاميين دون أن
يكونوا طرفا رئيسا فيها، نقدا ترفيا؛ إذ بمعيار الواقع المعيش اليوم في العملية
السياسية والحياة الحقوقية والمجتمعية أصبح واجبا الوقوف على هذه التجربة التي
أسالت مدادا كثيرا وأوهمت الكثيرين بأن شيئا جوهريا حدث في السياسة في المغرب، لأن
الدخول في مرحلة انتقالية حقيقية يقتضي هذا النوع من النقد حيث من دونه يفتح باب
المغرب على المجهول، وهو ما لا يقبله أي عاقل؛ بل مما لاشك فيه أنه ضاعت فرص
حقيقية للدخول في هذه المرحلة بسبب لعبة سياسية فاسدة ممتدة في تفاصيل بنية النظام
السياسي، وهو ما يجعل السؤال التالي مشروعا: هل ضاعت الفرصة من القصر ليقود عملية
تغيير حقيقية يجمع عليها المغاربة ويتجندون لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل؟
سأعالج هذه المسألة منتبها إلى كثير من
تفاصيل ما تعيشه أمتنا من قريب أو بعيد، مستلهما اقتراح الإمام المجدد عبد السلام
ياسين، رحمه الله، في الباب، ليس تعصبا، وإنما لكون حجم المعاناة التي تعرفها
الأمة قاطبة قد تزود العقل السياسي لدى المعنيين بقدرة على استيعاب ما كرس هذا
الرجل، وقد رحل، حياته لبناء لبناته على درجة عالية من الصبر والتحمل والوضوح
والمسؤولية.
إنني لن أورد ما كتبه في كل مصنفاته
ومسموعاته ومرئياته، ذلك أن المقام والمناسبة تكفي فيها العودة الرصينة إلى اقتراح
"مذكرة إلى من يهمه الأمر" على اعتبار أن هذه الوثيقة ليس من الهين
تجاوزها أو نسيانها؛ لأنها ببساطة ليست منتوجا سياسيا لحظيا استهلك في حينه او
انتهى تاريخ استهلاكه، بل هي عملية تاريخية ضمن خطاب سياسي ذي عمق تاريخي، مما
يفرض ضرورة العودة الراشدة للاستماع إلى هذا الخطاب، الذي نفسه سيكون مرجعنا في
نقد تجربة التوافق والانتقال الديموقراطي والمصالحة في المغرب.
تتشكل بنية النظام السياسي في المغرب من ثلاث ركائز أعطته عمقا وتماسكا لم يسمح لأية معارضة باختراقه ولا تهديد مستقبله إلا في حالات جزئية كانت فقط كاشفة عن هذا التماسك. لكن، وبما أنه نظام استبدادي فلا مستقبل له وإن اتسم بالقوة في التماسك في فترات كثيرة، ذلك أن تنامي مستويات الوعي بحتمية الحرية وضرورة تحقيقها ستحاصر وتفكك هذا التماسك من خلال الكشف هن هشاشة تلك الركائز وتقويضها. ومن هنا يكون سؤال المرحلة الانتقالية جوهريا في خطاب وسلوك المعارضة وحركة المجتمع.
فهل بإمكان نظام استبدادي مع شخص ملك يظهر بصفات ذات معنى إنساني أن يتحول إلى نظام ديموقراطي أو يفتح باب الحرية الحقيقية، أم أن الإصرار الاستبدادي سيجني معه الجميع كوارث فساده ثم بعد ذلك انهياره الحتمي؟
أما الركائز الثلاث، فهي:
الأول: عمق تاريخي استغرق أكثر من أربعة عشر قرنا.
الثاني: عمق ديني ممتد لنفس الفترة؛ أي أكثر من أربعة عشر قرنا.
الثالث: عمق حداثي، إذ استطاع النظام السياسي في المغرب، خلاف باقي الأنظمة العربية، الاندماج في التجربة الغربية دون التفريط في الركيزتين السابقتين، خاصة مع شخصية الحسن الثاني، حيث حافظ على درجة كبيرة من وضوحهما والتمسك بهما عبر أدوات متعددة وجدت مكانها في أنظمة التفكير والفهم والسلوك لدى المغاربة. وهو ما عقد عملية التغيير وأفشل استراتيجيات جل المعارضات في الإصلاح، إذ أن جلها، إن لم نقل كلها، بدأ معارضا ثم تحول إلى جزء من هذه البنية حتى ولو من موقع المعارضة الشكلية.
فالتكامل الوظيفي لهذه الركائز ضمن سيرورة النظام السياسي في المغرب، وضمن جغرافيا حافظ فيها على الاستقلال عن الإمبراطوريات المتعاقبة على حكم بلاد المسلمين من الدولة الأموية إلى العثمانية، جعل من هذا النظام كلية متحركة على أرض الواقع تتوفر على خبرة هائلة في فرز جزئياتها وبناء ما تحتاج إليه منها في كل لحظة، كما وفر مرونة كافية للتكيف مع المستجدات واستيعاب الأحداث.
لكن ما ينبغي تقريره أن هذه الركائز، وعلى الرغم من هذا العمق الذي وفرته لحركة النظام السياسي، فهي مبنية على هشاشة، لأنها تستند على عملية تزوير كبيرة للتاريخ وفهم منحرف للدين ولمعنى الديموقراطية، حيث لا أصل للاستبداد في الحقيقة لأنه نتيجة استغلال أوضاع اجتماعية وسياسية وفرت إمكانية الاستيلاء على مواقع ومصادر السلطة والثروة.
ولذلك، فهذا التزوير، الذي يجعل من قيمة الاستبداد قيمة مطلقة لا يمكن مقاومتها وتغييرها إلا من حيث الدوران في فلكها اعتقادا بإصلاح بنيتها المتوفرة على إمكانيات الترويض والاحتواء والتهميش والإقصاء، لايسمح (اي التزوير) ببناء عمليات سياسية حقيقية بما هو كلية ترعى العمليات الجزئية في كل القطاعات والمجالات.
فهو تزوير جعل النظام السياسي محتكرا للتاريخ كما يتصوره، ومحتكرا للدين كما يفهمه ويفهم علاقته بالتاريخ، ومحتكرا لفهم الديمقراطية لتكون فيها التعددية شكلية ومزورة ومراقبة ومحافظة على قواعد التوازن السياسي والمجتمعي الذي يجعل النظام السياسي فوق الجميع حتى درجة التقديس وعدم المساءلة والمحاسبة، بل هو المرجع والحكم.
إن هذه الخبرة التاريخية المتعددة الأوجه وفرت لهذا النظام وعيا استراتيجيا استباقيا جنبه في كثير من المناسبات مخاطر حقيقية ومكنه من تمريض مراحل انتقاله على مزاجه وبقيادته؛ لكن الحقيقة أن ماء سقي الأنظمة الاستبدادية بدأ ينفذ تماما حيث ستجف الأرض منه كليا وساعتها الانهيار.
وبهذا ندرك المضمون السياسي الذي أعطاه النظام السياسي في المغرب للمصالحة برعايته لها وبناء مراحلها وأدواتها منذ بدايات التسعينيات من القرن الميلادي الماضي إلى يومنا هذا، كما نفهم المضمون الديني والتاريخي والسياسي الذي ملأ به لحظة انتقال الحكم من الملك الحسن الثاني إلى الملك محمد السادس وكيف سهرت عليه أجهزة المخزن وإعلامه لتحويله إلى واقع سياسي ومجتمعي عليه ينبغي أن تبنى الأحداث.
تعتبر المقولة المشهورة المعبرة عن ما يهدد المغرب من سكتة قلبية على لسان الراحل الحسن الثاني بدايات تسعينيات القرن العشرين تعبيرا عن وعيه الدقيق بما يعتمل في أعماق المجتمع المغربي، وهو ما يؤكد أن الخبرة التاريخية العميقة لهذا النظام وفرت له وعيا استراتيجيا كليا، ولذلك كان واعيا بطبيعة الإجراءات السياسية المحسوبة جيدا حيث تضمن عدم انهيار النظام واحتواء القوى السياسية المعارضة عبر جني ثمار سياسات إضعافها واحتوائها حفاظا على موقع تحكم القصر في كل تفاصيل العملية السياسية والمجتمعية وضمان استمرارها.
فمع دخول أحزاب المعارضة، خاصة اليسارية الأساسية، في عملية توافق أخرجت هذه الأخيرة من موقع الصراع مع النظام القائم إلى موقع الإصلاح الديموقراطي وفق استراتيجية قادها القصر منذ السبعينات بناء على مقتضى مفهوم الاجماع الوطني والسلم الاجتماعي الذي توج منذ بداية التسعينات بمفهوم التوافق والانتقال الديموقراطي والمصالحة التي حصلت عهد الملك محمد السادس على أساس سياسي رسمه الملك الراحل خلال السنوات الأخيرة من حياته وكان وزير الداخلية البصري منزله وفق نمط تفكير لم يعد لائقا مع الملك الجديد مما جعله يقوم بإبعاده حتى يتمكن من تدبير المرحلة وفق نمط آخر جدد في الشكل دون أن يلامس الجوهر البصري في التعاطي مع الواقع.
ويمكن تسجيل الملاحظات التالية بعد إنجاز ما سمي بالمصالحة بعد عملية ما سمي بطي صفحة الماضي، ذلك أننا نريد بهذا التقديم لفهم استراتيجية اقتراح "مذكرة إلى من يهمه الأمر" التي لم يلتقط من يهمهم الأمر معناها ولا حتى كثير من السياسيين الذي سجنت ردود الفعل اتجاهها مضايق أزمة التفكير السياسي في مغرب لم يدبر طيلة تاريخه، عموما، إلا بعقلية السلطان والاستبداد التي أنتجت اليوم بنية استبدادية مطلقة مهيمنة وحاكمة:
1. إن هذه "المصالحة" حصلت في سياق وعي النظام الاستباقي بما هو قابل من السنوات بعد انهيار المعسكر الشرقي بالنظر إلى موقع المغرب الجيوسياسي، وأن اكتساح العولمة لن يرحم البنيات الهشة لنظم سياسية قائمة على الاستبداد والقمع، لذلك كان لابد من القيام بعلمية سياسية تحقق الإجماع ليس حول حل الأزمة التي يعيشها المغرب بل على النظام السياسي باعتباره أمان المغاربة ولا مستقبل من دونه، وأن الحلول يجب أن تحصل في إطار تفعليه والحفاظ على موقعه في احتكار مصادر السلطة والثروة ووسائلهما الأساسية.
2. لذلك كان هو قائد عملية المصالحة والواضع لتفاصيلها وحتى المعنيين بها، والناظم لوسائلها وأهدافها، مما جعلها عملية جزئية لم تعالج الوضع في كليته، بقدر ما أجابت عن حاجة القصر للخروج من أزمة سياسية عاصفة ومنذرة بانفجار كبير في الواقع المغربي.
3. راهنت عملية المصالحة على الجانب المادي في التعويض عن الضرر وجبره مع عمليات فرعية ذات مضمون سياسي كمدونة الأسرة ومحاور التنمية البشرية، وتجديد الحقل الديني...
4. إن حصر المصالحة في معنى سياسي غير شامل لكل الأطراف السياسية التي عانت من القمع والحصار، مع عدم وضع استراتيجية شاملة لتحقيق مصالحة مجتمعية يشعر من خلالها كل المغاربة برد الاعتبار والمظالم، جعل الحراك السياسي والمجتمعي يعرف انشطارا حادا بين قوى مندفعة كليا في اتجاه تبني تجديد مفهوم السلطة كما عرضه الخطاب الشهير؛ خطاب الدار البيضاء للملك محمد السادس بعد تسمله مقاليد الاستبداد، وبين قوى جعلت منها هذه المصالحة كأنها غير معنية بما يجري في المغرب، مما أعاد عملية اصطفاف الحراك السياسي والمجتمعي الذي سيبرز بشكل أكثر وضوحا مع ما سمي بالربيع العربي عبر حركة 20 فبراير، علما أن ما قام به القصر مع هذا الحراك لم يكن إلا جزء من مرحلة كان ينتظر الظروف المناسبة لإنجازها، لذلك كان أكثر استعدادا لإنجاز عملية التفاف هائلة عبر دستور 2011 وحكومة 2012. (لا أسميها حكومة العدالة والتنمية لأنه مجرد حزب ولون من ألوانها دعت ضرورة الالتفاف لوجوده في هذا الموقع).
5. لقد استطاع القصر أن يجدد في كثير من مستويات النخب في كل المجالات والقطاعات حرصا منه على عملية استقطاب هامة تضمن تجديد نخبه، لكن الوضع الاجتماعي المتأزم وتجذر الفساد في بنية النظام السياسي وإدارته حتى صارا ماهية واحدة مع طبيعة الأزمة في قطاعي التعليم والصحة ومؤسسات الخدمات الاجتماعية لم يجعل لهذه العملية التجديدية أي معنى، يضاف كل هذا إلى بنية الأحزاب السياسية المترهلة بفعل عوامل عدة منها تدخل القصر في سير الأحزاب وفي بنائها.
نخلص من هذه الملاحظات، وغيرها، إلى أن عملية المصالحة والانتقال الديموقراطي لم تفض إلى بناء واقع سياسي حقيقي يضمن مشاركة الجميع ضمن بناء مجتمعي متكامل، وهو ما تؤكده الأرقام حول حجم الفساد ومؤشرات فشل المبادرات التي قادها القصر سواء في التعليم والتنمية ومشاريع الأوراش الكبرى.
ب. استراتيجية العدل والإحسان في تمريض المرحلة الانتقالية
إننا وبعد هزات ما سمي بالربيع العربي نجد أنفسنا أمام وضع لم يتغير فيه شيء إلا بعض الأشكال في المغرب، وهو ما يزيد من حجم المسؤولية على الجميع لتفادي أي انهيار سياسي أو مجتمعي.
هنا أجد أن المغاربة جميعا والنخبة السياسية والقصر يمكنهم أن يجدوا مخرجا إذا ما تم استيعاب جيد لنداء الراحل الإمام عبد السلام ياسين من خلال كل ما كتب، وخاصة "مذكرة إلى من يهمه الأمر".
قبل أن أعيد عرض مضمون هذه الوثيقة التاريخية من خلال اجتهاد في فهم استراتيجية العدل والإحسان في التغيير والإصلاح، لابد من التقديم لها بمزاولة درجة لازمة من الوضوح.
1. الإمام عبد السلام ياسين ليس مِلكا لجماعة العدل والإحسان فقط، هو مِلك للمغاربة، وسيأتي يوم يدرك الجميع أنه ملك للأمة والإنسانية، على الأقل بحجم التفاصيل التي عالج من خلالها قضايا الإنسانية المعقدة. ولذلك؛ فأن يستمع له الجميع ليس عيبا بل فضيلة.
2. فإذا زاول الرجل وضوحا وصرامة وصراحة في تقديم مقترحاته، فمن موقع شعوره الحاد بالمسؤولية بما وفره له نظره الثاقب للمستقبل، إذ كل الأحداث مؤكدة لهذا، ومن ثمة فالرجوع لما سطره في لحظة معينة من تاريخ المغاربة ليس تعصبا وليس رجوعا أعمى بقدر ما يدلل على واجب لمّا ينظر المرء إلى ما يجري في العالم من مأساة وآلام وذهاب الأمن وغياب الاستقرار والأمان ويجد نفسه أمام نداء خالد للإنقاذ.
3. إن المغاربة أصبحوا أمام خيارين لا ثالث لهما مهما كانت درجة الهروب إلى الأمام من طرف البعض، ومهما كانت درجة التعتيم والتعمية التي يعتقد البعض أنها كافية لمنع الكارثة، ومهما تغاضى البعض وتجاهل الزلزال الذي يضرب تحت الأرض ولا يعلم أحد متى يضرب فوقها.
الخيار الأول: إصرار القصر على أن يكون اللاعب الوحيد والمحوري والمهيمن في العملية السياسية والمجتمعية مهما كانت التخريجات الدستورية والقانونية لهذه الهيمنة؛ فلم يعد خافيا على أحد درجة المزاوجة في احتكار السلطة والثروة ومصادرهما؛ علما أن هذا الإصرار سيفضي حتما إلى زلزال لا يعلم أحد حجمه ولا قوته ولا توقيته ولا مداه، ذلك أنه لم يعد مقبولا في المرحلة التاريخية الإنسانية الحالية الحكم المطلق على أي صورة؛ جمهورية ديكتاتورية أو مليكة حاكمة ولو بنفس ديموقراطي مزاجي، بحكم المأساة التي ترتبت وتترتب على هذا النمط من الحكم في زمن تواصلي عارم، دون أن نغفل أن المجتمعات قد تنهار لكن الشعوب في آخر الأمر تقوم بخلاف الأنظمة إذا انهارت فلن تقوم لها قائمة.
الخيار الثاني: أن يدرك من يهمه الأمر من الجميع أن المغرب في حاجة إلى تمريض مرحلة انتقالية بشكل واضح وحقيقي لتفادي لحظة الطوفان، وهنا مرة أخرى، المسؤولية يتحملها القصر، لأنه إذا تجاوز منطق الإصرار على الخيار الأول فسيكون أمام خيار حتمية بناء آليات تمريض المرحلة الانتقالية بما يفضي إلى بناء واقع الحرية التي يختار فيها الشعب من يحكمه ليتابعه ويحاسبه.
وهنا تكون كذلك المسؤولية كبيرة على عاتق القوى الحية في بناء القوة المجتمعية الهائلة التي تحمي المجتمع من الانهيار وتتجه مباشرة إلى الزحف على السلطة لحماية الشعب من فوضى لا تبقي ولا تذر.
معنى هذا أننا أمام مرحلة يتراجع فيها القصر إلى الوراء كليا وبشكل متدرج ويتخلى عن الحكم طواعية ويفكك وفق استراتيجية جامعة علاقته بالثروة والسلطة المطلقة.
لا أريد أن أعطي لهذه الوضعية (وضعية القصر الجديدة التي سيمارسها بوعي منه أو تحت الضغط الذي لا يستطيع أحد تحديد حجمه في المستقبل، صفة من الصفات السائدة (ملكية برلمانية، دستورية، وغيرها.....) فهذا رهين بطبيعة الحوار الجامع الذي تقوده القوى السياسية والمجتمعية في جو من الوضوح والحرية والمسؤولية دون أي مستوى من الإقصاء أو العنف أو الوصاية على الأجيال القادمة مع ضرورة إزالة صفة أمير المؤمنين لارتباط هذه الصفة بممارسة السلطة السياسية والفقهية.
4. لذلك كان الإمام عبد السلام ياسين حريصا كل الحرص على الدخول على هذه المرحلة عبر ميثاق جامع يتوج حوارا جامعا يفضي إلى تأسيس مؤسسة منتخبة بكل حرية ونزاهة لوضع دستور يؤسس لمرحلة الاستقرار السياسي والمجتمعي للبدء في المرحلة الهامة من إقامة العدل الاجتماعي من حيث هو الثمرة التي تضمن واقع الاستقرار والأمن والأمان ليتفرغ الجميع لبناء المستقبل العريض والكبير.
وهو ما يعني أننا أمام فترتين في بناء المرحلة الانتقالية؛ فترة المعارضة ثم فترة بناء اساسات الاستقرار السياسي والاجتماعي للدخول على مرحلة البناء الشامل والمتكامل لحركة المجتمع الشاملة لكل القطاعات والمجالات.
فهل ضاعت فرصة "مذكرة إلى من يهمه الأمر"، أم ما زال هناك أمل في استيعابها واستلهامها؟
3. "مذكرة إلى من يهمه الأمر" واستراتيجية الانتقال المتدرج
أ. مقدمة لا بد منها
لابد من التقديم بين يدي بحث هذه الاستراتيجية من خلال هذه الوثيقة إلى التذكير أن صاحبها ليس سياسيا محترفا للسياسة، بل رجلا حاملا لمشروع تغييري شامل يدرك جيدا موقع قضية الحكم فيه، سواء من حيث الموقف من طبيعة الأنظمة القائمة أو من حيث النظام السياسي الكفيل بضمان واقع الحرية والأمن والاستقرار والأمان والعيش الكريم.
لذلك؛ لابد من التمييز بين معنى العملية السياسية والعملية التاريخية في حركة الرجل مع إدراك العلاقة بينهما.
فالرجل كرس كل مجهوداته لإنجاز عمليات تاريخية لا يكون فيها الموقف السياسي اللحظي إلا لبنة جزئية في صرح البناء التاريخي الذي يعني عملية تغيير جذرية وشاملة؛ أفقها الكبير إعادة النظر جذريا في نظام العلاقات الدولية (النظام العالمي) بما ينصف كل المستضعفين.
ومن هنا يجب أن تُقرأ مضامين كل مبادراته خاصة "رسالة الإسلام أو الطوفان" أو "مذكرة إلى من يهمه الأمر" وأخواتهما، من مبادرات عبر مؤسسات الجماعة، كـ"نداء حلف الإخاء" و"جميعا من أجل الخلاص" ... كما يجب أن تُقرأ تصوراته المتماسكة والتفصيلية والدقيقة لمفهوم المرحلة الانتقالية، ذلك أن توفره على هذا المشروع التغييري الشامل والممتد في المستقبل العريض وفر له قدرة ونظرة مستوعبة لكل لحظة يمكنها أن تقدم خدمة لهذا المستقبل؛ مستقبل الحرية والعدل والكرامة.
وبهذا يمكن التمييز بين من تعامل مع ما إشارات "العهد الجديد"، بدايات تولي محمد السادس العرش، بمنطق إصلاحي معتقدا أنها تؤشر على تغيير جوهري في طبيعة النظام القائم سياسيا واقتصاديا وبين من تعامل معها بمنطق انتهازي سياسوي؛ إذ بعد أكثر من خمسة أشهر من مراقبة سلوكات الملك الجديد، وبعد مراقبة سرعة جل القوى السياسية والمجتمعية الفاعلة في تفاعلها مع هذه الإشارات أصدر الرجل هذه الوثيقة التاريخية التي لم تفقد راهنيتها وإن مر على صدورها حوالي خمسة عشر عاما، خاصة في ظل التحولات الجوهرية التي تحدث في عالمنا، وإن بشكل عنيف في كثير من المناطق، وارتباطها بطبيعة الأنظمة السياسية القائمة.
فقد كُتبت الوثيقة بروح الرجل الداعية المحنك سياسيا، لذلك لم تكن هذه الوثيقة وعظية في شكلها ولا مضمونها، بل وثيقة مصيرية متكاملة الصياغة من حيث منهجيتها في النقد ومن حيث منهجيتها في العرض، لذلك فكل السناريوهات المستقبلية للعملية السياسية في المغرب لن تخرج عن مضمونها وسياقها، وهو ما سنحاول كشفه عبر قراءة متجددة لهذه الوثيقة وفق استحضار مستجدات الأحداث الطارئة في عالمنا ومحيطنا، لنخلص إلى اجتهاد يضع بنودا جامعة للدخول الفعلي في مرحلة انتقالية تؤسس للطريق الأخير للاستثناء المغربي.
ب. "مذكرة إلى من يهمه الأمر" واستراتيجية الانتقال المتدرج
يجد القارئ، خاصة المعتمد على أدوات المنهجية الأكاديمية السائدة في مجال علم السياسة، صعوبة ومشقة في اكتشاف المضامين السياسية المباشرة في خطاب الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، ذلك أن الرجل لا يخاطب الواقع من موقع التحليل الجزئي للقضايا السياسية، بل من موقع الواعي بأن المرحلة تحتاج إلى عملية اجتهادية كبرى تغطي كل المجالات وفق نظرة متكاملة وشاملة مهمتها الأساسية عرض كليات العلم والعمل الكفيلة بالتأسيس للعملية التاريخية الضرورية في هذه المرحلة وتكشف بوضوح عن الأفق الجامع في أبعاد الحركة التاريخية الثلاث: البعد القطري، والبعد العربي الإسلامي، والبعد العالمي.
من هذا المنطلق سنتخاطب مع الوثيقة، موضوع البحث، من حيث هي محاولة لعرض السؤال الجوهري في المرحلة بالمعنى القطري (المغرب) ومحاولة اكتشاف استراتيجيتها في بناء مرحلة انتقالية عميقة وصحيحة المنطلق من خلال ثلاثة محاور، دون أن نغفل أن هذا البحث ليس رجوعا إلى الوراء وسقوطا في فخ التفكير الإصلاحي كما توهم البعض خطاب المذكرة ساعة صدروها، بقدر ما هو محاولة للتأسيس إلى مرحلة جذرية في بناء الخطاب السياسي المفترض في قيادة عملية التغيير والإصلاح في المغرب لقطع الطريق على خطابين يهددان جملة الخطاب السياسي الإيجابي في مغرب اليوم، بل الواقع المغربي، وهما خطاب العنف الذي أطل على المغاربة ولو من بعيد حيث تزكيه بعد خطابات الكراهية وبعض العمليات القذرة التي لا يعلم من يسهر عليها ويؤجج نارها، وخطاب الإقصاء والتهميش والإصرار على تأبيد القبضة الاستبدادية على المغاربة ووضعهم أمام الخيار الوحيد؛ خيار الاستسلام لهذه القبضة. وكلا الخطابين يغديهما الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمالي السيئ، فضلا عن الوضع الدولي والإقليمي المرتبك ظاهريا والمعرض حقيقة لاستراتيجيات التفتيت والتمزيق والتشرذم.
المحور الأول: سؤال الأزمة السياسية في علاقتها بالنظام السياسي القائم مع الملك محمد السادس
بدأت المذكرة بالحديث عن شخص الملك محمد السادس من خلال الصفة التي روجت لها آلة الإعلام الرسمية "ملك الفقراء"، مؤكدة (المذكرة) الجانب الإنساني لملك كان بالأمس أميرا لم يفلت من قساوة الوالد وأجهزته البصرية، مشيرة إلى الحماس الجماهيري في الاستقبالات التي تنظمها آلة المخزن لزيارات الملك في المناطق المختلفة حيث تعبر عن حاجة هذه الجماهير إلى قيادة صادقة تحتضنها وتعبر عن حقيق طموحاتها. "للملك الشاب محمد السادس رصيد من المودة تكنها له شبيبة مغربية اكتشفت فيه صاحبا لها، رمزا لتحررها، بشرى لها بمستقبل يبش في وجهها بعد عبوس. فخلال الأسابيع الأولى من حكمه، وأينما ساقته حملته التدشينية، كان الملك الشاب على موعد مع الحماس الفتي الجياش"(ص 3).
هذه الإشارة إلى المعنى الإنساني لشخص الملك لا تنم عن سذاجة في التحليل، بقدر ما تكشف على أن الرجل لا يغفل البعد البشري في طبيعة الأنظمة الاستبدادية؛ وهو ما يعني أن رمز النظام حينما يقدم على عمل جوهري لتغيير هذه الطبيعة الاستبدادية، كما حدث في التاريخ مع تجارب كثيرة من قبيل تجربة عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، يمكن أن يعول عليها كمقدمة لعمليات متتالية ومتدرجة تنجز واقع الحرية والعدل للمجتمع، وفي نفس الوقت تكشف أنه لا يمكن الرهان على هذا المعنى الإنساني في الشخص ما لم يبرهن عمليا ووفق إجراءات جذرية ومتدرجة على مقاومته الصارمة للنزعة الغريزية في التسلط وممارسة الحكم المستبد مهما زينته له بطانة السوء.
"القضية النبيلة التي يناضل في سبيلها كل مواطن حر يسكنه هدف سامٍ تتطلب منا جميعا حدا أدنى من الصراحة والنزاهة الفكرية حتى نكشف عن الحقائق المنكَرة، ونوقظ العقول الغافية. " "نعم أم لا؟ هل نحن مطالبون، باعتبارنا مواطنين مهتمين بمستقبل بلدنا، بإدانة الغش والغشاشين؟ نعم أم لا؟ هل للملك الشاب الحق في الإصغاء لأصوات غير انتهازية قبل أن يحوله الميل الغريزي لكل أمير يتهالك الكل على إطرائه إلى طاغية غشوم؟" (ص 8).
تدلل هذه الفقرة، وأخواتها، على الوعي لدى الرجل بأن بنية النظام كما هي قائمة ما لم تتخذ بكل جرأة في حقها إجراءات عميقة، مع التدرج طبعا، لن تلبث هذه النزعة الانسانية البادية على شخص الملك أن تخبوا وراء فعل آلة الإطراء والتقديس ذات التاريخ الطويل وتفلح في حجبها نهائيا ليستفيق المغاربة بعد على أن شيئا لم يتغير وأن دار لقمان على حالها.
ففي الوقت الذي دعت الوثيقة إلى الاستمرار في كنس هذه البنية تماما بعد إبعاد شخص الوزير البصري وفق عملية متدرجة جامعة تؤسس لواقع جماعي في بناء مستقبل حقيقي للحرية في المغرب، كانت منتبهة تماما إلى أن الراجح هو أن هذا الكنس سيكون شكليا وسطحيا وأن شبكة الفساد والمفسدين ستكون هي صاحبة القبضة على الأمور لترجح كفة بناء لعبة جديدة في الشكل لكنها بنفس المضمون والآليات والأهداف والغايات؛ "لن تلبث الصورة المزركشة والنية الحسنة للسلطة الرمزية الجديدة أن تخونهما الإكراهات الاجتماعية الاقتصادية، والجوارح المستنسرة المتحفزة للاستماتة في الدفاع عن امتيازاتها والمحافظة على الظروف السياسية المُمَكِّنة لعهد الجمود. سيبذل محركو الدواليب خلف الستارة، الفاسدون المفسدون المتمرسون بأساليب التعمية والتزييف كل ما في وسعهم لمناهضة الإرادات الشابة المبتدئة.
" "لا يمكن للنية الحسنة المتفتحة أن تصمد أمام دهَاء الثعالب العجوزة، ولا يمكن استهلال صفحة جديدة وزرع حقل جديد مع جيل هَدَّه اليأس بالاعتماد على ثقافة العلاقات العامة. لا يمكن أن نمعن في ذر الرماد في عيون العالم و المغرب على شفا جرف هار، كما لا يمكن أن ننسج على منوال العهد البائد بعد أن دقت ساعة الحساب" (ص 3).
المحور الثاني: عوامل فشل تكتيكات النظام في التدبير الاستبدادي للمرحلة
تشير الفقرة السابقة إلى بعض عوامل فشل تكتيك النظام في الانتقال إلى بناء مقدمات حقيقية لمرحلة انتقالية جامعة، وما دام هناك خطأ في المقدمات فستكون النتائج من جنسها.
إن فساد بنية النظام على مدى عقود من الزمن، بل قرون، لن يسمح بأي تغير هام في الممارسة السياسية لهذه البنية، ومن ثمة لم تظهر أية تجليات، سواء دستورية أو قانونية تنظيمية أو واقعية، تؤشر على أن هناك إمكانية الرهان على جوانب شكلية مست رأس هذه البنية مع بروز المسحة الإنسانية في شخص الملك الجديد التي لم تسمح منظومة الفساد بأن تتحول إلى مضمون سياسي ومجتمعي يعطي للمغاربة إمكانيات الحرية في الاختيار الحقيقي.
السؤال: هل ضاعت هذه الفرصة اليوم تماما من المغاربة؟
أما العوامل الأخرى التي أشارت إليها المذكرة فهي حجم الإكراهات الاجتماعية والمالية التي لم تتخذ اتجاهها أية قرارات فعالة للحد من تدهورها المستمر مضافة إلى عاملين سيقوضان حركة القصر مع الملك الجديد؛ إذ "أصبحت الضرورة تفرض التدخل العاجل والحاسم قبل أن يتلقى البناء المنخور ضربة قاضية من أحد هذين الاستحقاقين: مسألة الصحراء وانفتاح السوق العالمي بعد عشر سنوات" (ص 11).
وإذا أضيف هذا إلى انكشاف زيف لعبة التوافق التنوابي وسيادة منطق الالتفاف على مطالب الشعب المغربي في الحرية والكرامة والعدل فسنكون أمام واقع الانهيار الشامل. الأمر الذي تؤكده الأحداث المتتالية.
المحور الثالث: المدخل الأخلاقي للمرحلة الانتقالية واستراتيجية الانتقال
لم تكتف المذكرة بتوصيف الواقع في كل مجلاته ارتباطا بطبيعة النظام السياسي، إذ زكت ذلك بالأرقام والقضايا ذات الصلة التي يجب أن يباشرها الخطاب السياسي الحقيقي والمتعلقة بقضايا الفساد وشبكاته والثروة ومصادرها وعلاقة ذلك كله بطبيعة النظام السياسي وعناصره، بل تجاوزت ذلك إلى اقتراح رصين يستثمر بروز شخص الملك الجديد في حلة الإنساني الرحيم ليقوم بعملية سياسية ومجتمعية جذرية متدرجة تؤدي إلى إنجاز واقع الحرية في اختيار الشعب وتمكن لواقع الأمن والاستقرار والعمل الجماعي.
ويمكن القول إن هذه الوثيقة اقترحت مدخلا أخلاقيا وأساسا عمليا:
أ- المدخل الأخلاقي: ويتجلى في عميلتين هامتين؛ الأولى رد المظالم؛ ومنها استعمال ثروة الملك الراحل في سد الدين المغربي. أما الثانية فتتجلى في تطهير الإدارة وإعدادها لتكون في مستوى الخدمات التدبيرية.
"لابد أن يختار الملك الشاب بين طريقين: إما أن يُخلص لعرف عفّى عليه الزمن فيتبع خطوات أسلافه حذوك القذة بالقذة وبئست السبيل هي! وإما أن يعقد العزم على اقتحام العقبة والتكفير عن الجرائم التي كان أحد شهودها" (ص 22).
ب ـ الأساس العملي: وهو ثمرة طبيعية للمدخل الأخلاقي الذي هو سلاح أخلاقي يدخل به الملك على المرحلة، ذلك أنه لا انتخابات حقيقية أمام وضع اجتماعي يفرض المتاجرة في الذمم وشراء الأصوات وبين يدي إدارة ينخرها الفساد حتى أخمصي قدميها؛ فحين تكتمل قواعد السلاح الأخلاقي ساعتها فقط يمكن الاطمئنان إلى عملية انتخابية تستثمر فيها الآليات الديموقراطية لفرز واقع انتخابي يضمن فعليا ممارسة المسؤولية الكاملة والمحاسبة الحقيقية حيث سيكون الشعب اختار بوعي وفي مناخ جماعي يتسم بالوضوح والمسوؤلية والمنافسة الشريفة والتدافع السليم.
إن هذا الاقتراح ليس اقتراحا ساذجا، بل امتاز بدرجة كبيرة من العمق والوضوح في الوقت الذي حجب الفعل السياسي المغربي لدى النخبة السائدة شكليات انتقال الحكم من شخص إلى شخص عن جوهر المشكلة السياسية في علاقتها بطبيعة النظام السياسي، ولذلك نجد أن "مذكرة إلى من يهمه الأمر" جمعت بصرامة في ما رسمته من عناصر استراتيجية المرحلة الانتقالية بهذه المناسبة بين محورين مرتبطين؛ إذ من دون أحدهما لن يكون بناء الآخر إلا وهما؛ وهما المحور السياسي والمحور الاجتماعي؛ بل يمكن القول إن الوثيقة ركزت على بناء أساسات قوية للجانب الاجتماعي للبرهنة على صدقية المبادرات السياسية للملك ومحيطه، وقد حصل الربط من خلال علاقة الثروة لدى القصر الحاكم بالسلطة القابض عليها بالخروج من وضع اجتماعي محتقن إلى درجة تنذر بانفجار غير متحكم فيه.
فالبرنامج الاجتماعي الذي اقترحته الوثيقة هو ما أصبح محور مطالب الحراك المجتمعي بعد، علما أن"مذكرة إلى من يهمه الأمر" فصلت فيه تفصيلا مع ربطه ربطا مصيريا مع المحور السياسي الذي يشكل السلاح الأخلاقي الذي حينما يتسلح به القصر سيفرض على الجميع الانخراط فيه بشكل إرادي.
فهل ضيع القصر على نفسه هذه الفرصة التي تحقق إجماعا حقيقيا بين المغاربة؟
قبل أن أعرض أهم عناوين البرنامج الاجتماعي لابد من التذكير بأمر هام لم تغفله الوثيقة، ذلك أن صاحبها، رحمه الله، يخاطب اللحظة من خلال مشروع مجتمعي متكامل، وهو ما جعله لا يغفل أي جانب يشكل أساسا رصينا في البناء المرحلي لما سيبنى عليه من عمليات ضخمة في المستقبل.
لقد انتبهت الوثيقة إلى أهمية البطانة المحيطة بشخص الملك، ذلك أن مقدمة إنجاز ما سمته المذكرة بالثورة الصغرى (إعادة بناء المحيط الملكي) تتجلى في الاستمرار الشجاع في إبعاد المفسدين والفاسدين والرهان على بناء محيط نظيف تجمعه روحانية عالية، لذلك لابد من وجود بطانة تقيم واقع القيم النبيلة والسامية والمشعة على الجميع، ولاشك أن إنجاز هذه المقدمة يؤسس لما سمته الوثيقة بالثورة الكبرى المتجلية في إنجاح برنامج اجتماعي يقيم العدل والإنصاف ويحقق الأمن والأمان والاستقلال والقوة، "لا بد أن تطبع الأحداث بطابع جديد. ويبدو الأسلوب الجديد للملك الشاب خطوة في هذا السبيل، لكن الساعد الذي يريد تشغيل المحرك المغربي يحتاج إلى القوة. لابد للعقل الذي يصبو إلى الإتقان من الزاد الروحي، ولابد للطموح الناشئ من غاية سامية ورافعة روحية. لا مناص من إعادة النظر في النظام بأكمله. لا بد من وضع القطار على سكة جديدة. ولذا لا بد من قاطرة قوية ويد حازمة. لا بد من مراجعة شاملة، فوراء الواجهة المزينة يوشك البنيان أن يَنْقَضَّ" (ص 11).
نفهم من كل هذا أن العناصر الأساسية لاستراتيجية المرحلة الانتقالية تتجلى في:
1. سياسيا: الإرادة السياسية الحقيقية في إعادة النظر في النظام بأكمله.
2. أخلاقيا: رد المظالم السياسية والاجتماعية ومقدمتها استعمال الثروة الملكية في سد الدين المغربي للدخول مع المغاربة في بناء واقع اجتماعي يؤسس لنهوض اقتصادي واستثمار منتج ويوفر فرص الشغل ويبني عدل اجتماعي. ولا معنى لهذا دون تطهير إدارة فاسدة مفسدة من مصادر الفساد والإفساد.
3. إداريا: ثم بعد هذا الأساس الأخلاقي والسياسي يمكن الاطمئنان إلى السلوك التدبيري في تنظيم الانتخابات وصناعة محيطها النظيف الذي لن يخرج عنه كل من له نية صادقة لخدمة وطنه وأمته، فلا انتخابات حقيقية بين يدي فوارق اجتماعية صارخة صادمة وإدارة فاسدة مفسدة تهيمن عليها عقلية رجل الأمن ونفسية الموظف الخائف وحركة المواطن الناقص المواطنة والأهلية.
وبناء على فهم روح هذه الوثيقة التاريخية وإدراكا لمشروع صاحبها، رحمه الله، واستلهاما لمضامينها، واستيعابا للحظة المعيشة في أبعادها المحلية والإقليمية والدولية سأعرض اجتهادا، بحول الله تعالى، جامعا للنقاش في أفق المساهمة في بلورة خطاب سياسي يجيب عن أهم أسئلة المرحلة.