التؤدة نظام التفكير السياسي عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله


الخيار الثالث للعمل الاسلامي
محورية التؤدة في بناء التفكير والفكر السياسيين 
والحركيين في مشروع العدل والإحسان

-2-



4.الخيار الثالث: التؤدة نظام التفكير السياسي عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله.

   يعتبر الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، ممن فصلوا تفصيلا وافيا في قضايا العمل السياسي الإسلامي، وذلك لانطلاقه من نظرية سياسية متكاملة، والأهم أنها أصيلة حيث أسست لتفكير سياسي مستقل ومتحرر من قبضة المفاهيم السياسية كما صيغت في سياق المدرسة الغربية، وعملت على استلهام أصول التجربة النبوية الخلافية (نسبة إلى الخلافة الراشدة)، وقرأت من خلالها التجارب الإنسانية. ومن ثمة فالتفكير السياسي في سياق ونسق التفكير المنهاجي هو اجتهاد متواصل لمعاجلة قضايا الشأن العام عبر نظرة مستقبلية مستوعبة لكل مراحل البناء.

وفي هذا الباب ينبغي الانتباه إلى مسألة منهجية تتعلق بالتمييز بين مفاهيم عدة عند البحث في منظومة التفكير السياسي في مشروع العدل والإحسان، من أهمها؛ النظرية السياسية، والمشروع السياسي، والخط السياسي، والموقع السياسي، والموقف السياسي، والبرنامج السياسي، لأن لكل مفهوم موقعه ودوره في بناء الخطاب والسلوك السياسيين، سواء لدى الجماعة أو لدى حامل مشروع العدل والإحسان، كما لكل مفهوم منظومته المفاهيمية التي تشكل مضمونه الكامل حيث يتكامل مع غيره من المفاهيم حتى بناء التصور السياسي ومن ثمة النظام السياسي المقترح.

وسيكون هم هذا المقال الكشف عن امتداد معنى التؤدة عبر هذه المفاهيم وانتظام معانيها وتكاملها، وذلك بقصد الوقوف على أن رفع الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، هذا المفهوم إلى مرتبة الخصلة لم يكن عبثا، لأنه أسس بهذا خيارا ثالثا في العمل السياسي الإسلامي من خلال إنتاج فكر سياسي تجديدي.

 ثم إن التمييز بين تلك المفاهيم يقتضي التمييز بين المستوى العلمي الذي يجسده مفهوم التؤدة من حيث هو خصلة من ضمن الخصال العشر الضامنة لامتداد المعنى المنهاجي في الفهم والسلوك الذي ينتظم به التفكير فيكون منهاجيا، وتنتظم به الحركة فتكون قاصدة ومنتجة، وبين المستوى الحركي الذي تخضع مواقعه ومواقفه للاجتهاد السياسي وفق قواعد "علم المنهاج النبوي".

لذلك سنحاول هنا بيان معنى التؤدة من حيث هو أصل كلي في التفكير السياسي وفي بناء استراتيجيات التغيير والإصلاح وفي اقتراح النظام الأخلاقي والسياسي والاجتماعي في حركة مشروع العدل والإحسان.

أ-تعريف التؤدة.

"التؤدة لغة الرزانة، والتريث، وما في معناهما من أخلاق الحلم، والصبر، والتحمل، والأناة، وضبط النفس، وطول النفس، وأهلية تحمل المسؤوليات، والاستمرار في الجهاد"(المنهاج النبوي، ط2: 287).

يظهر من هذا التعريف أن الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، جمع بين المعنى اللغوي للتؤدة وما بنى عليه من مدلول اصلاحي، كما يظهر أن المعنى الاصطلاحي مرتبط بذمة المؤمن حيث تعلق بأهلية تحمل المسؤوليات، والاستمرار في الجهاد، لذلك فكل الأنظمة السياسية والاجتماعية في مشروع العدل والإحسان إنما تجد أصلها العملي في ارتباطها وتعلقها بذمة المؤمن ذكرا أو أنثى، إذ تستمد هذه الأنظمة قوتها المجتمعية من تضامن وتظافر وتكافل وتكامل هذه الذمم الفردية في سياق بناء الجماعة وترسيخ قيمها.

ومن هنا كانت خصلة "الصحبة والجماعة" أم الخصال العشر المرتبة في "المنهاج النبوي"، أما باقي الخصال فخادمة لها ومحققة لمعناها في الواقع الخاص والعام.

ب-موقع خصلة التؤدة في بناء الخصار العشر.

حينما نبحث عن هذا البناء من حيث هو خطوات عشر صاعدة بسلوك الفرد حتى ذروة سنام الإسلام؛ وهي الجهاد الشامل بمعناه النبوي لا القتالي السائد اليوم إعلاميا، فإنما نبحث في المنهاج النبوي الذي ربى به رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الصحابة، وبنى الجماعة، وصنع الأمة، وغير وجه العالم، ذلك أن السلوك صعودا على خطوات الخصال العشر إنجازا لهذه المراحل هو الطريق للحرية.

وقبل عرض موقع خصلة التؤدة ضمن نسق الخصال العشر، لابد من التأكيد على أن الإمام رحمه الله ينطلق من مسلمة تصورية مستفادة من تقييمه وتقويمه للتجارب الثورية والاصلاحية، "نرى في تاريخ البشر أن موجات الثورة والإصلاح سرعان ما تنكسر على صخرة الطبيعة البشرية. فبعد ذهاب وجوه وأفكار ونمط عيش، يحتل الأرض والسلطان وجوه أخرى لا تلبث أن تتلون بالبيئة الموروثة. وكأن هذه النفس البشرية حرباء لونها لون ما تقع عليه" (المنهاج النبوي، 299).

يربط هذا التحليل انكسار موجات الثورة والإصلاح بطبيعة النفس البشرية، أي أن تحقيق مقاصد التغيير والإصلاح النبيلة مرتبط بتغيير جوهري يحصل في هذه النفس التي تتصدى لقيادة التغيير وإنجاز مهامه وتحقيق مراحله.

وهو ما جعل الإمام يصعد بمضمون التؤدة إلى مستوى التربية الإيمانية الإحسانية تجاوزا للمستوى الوعظي الفردي بغية ترقيق القلوب في لحظات مبعثرة فقط، بل جعل منه نظام أخلاق وسلوك متكامل يجمع بين مضمونه الفردي المتصاعد على مدارج الإسلام والإيمان والإحسان وبين مضمونه الجماعي من حيث بناء نظام الجماعة والأنظمة المجتمعية؛ سياسية واجتماعية واقتصادية، وغيرها، على قواعد علمية راسخة.

تأتي خصلة التؤدة في الخطوة الثامنة بعد خصلة السمت الحسن ثم تليها خصلة الاقتصاد ثم الخصلة العاشرة الجهاد.

وتأتي في الخطوة السادسة خصلة العمل بعد الخطوة الخامسة خصلة العلم

وقبل هذا رُتبت الخطوات الأربع الاولى عبر خصال الصحبة والجماعة، ثم الذكر، ثم الصدق، ثم البذل.

نجد مجموعة أولى تتكون من خطوات أربع هي الصحبة والجماعة، ثم الذكر، ثم الصدقن ثم البذل، ومجموعة ثانية تتكون كذلك من خطوات أربع هي: السمت الحس، ثم التؤدة، ثم الاقتصاد، ثم الجهاد.

ويتوسط هاتين المجمعتين خطوتنن هما خصلتي العلم، ثم العمل.

ليس موضوعنا الآن بحث مقاصد ودلالات هذا الترتيب الذي يدلل على فهم عميق "للمنهاج النبوي"جعل الامام رحمه الله باكتشافه يؤسس للخيار الثالث في العمل الإسلامي، ولذلك عنده "ليست العبرة أن نلتمس أقصر طريق للحكم الإسلامي .... العبرة أن نكتشف المنهاج النبوي في التربية، ذلك المنهاج الذي كان عملا باهر النتائج، خرج من مدرسته كبار الصحابة، عظماء الأمة، نخبة الإنسانية بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. العبرة أن نكتشف أسرار المنهاج النبوي الذي نتج عنه الجهاد الخالد الذي كانت ثمرته “المعجزة التاريخية” التي غيرت العالم أعمق تغيير وأوسع تغيير وأسرع تغيير. العبرة أن نكتشف خاصية المنهاج النبوي التي بها تحول أفراد أنانيون، المحروم المستعبد منهم والسيد القاهر، المستضعفون منهم والملأ المستكبرون، جماعة موحدة قوية تحمل هَمَّ الجماعة، وتسعى لتحقيق أهداف الجماعة، ويموت أفراد لتبقى الجماعة وتعز. قل لي كيف أسير، عمليا وعينيا ويوميا، على المنهاج النبوي، كيف تسير الجماعة حزب الله لتجتمع رحمة الإيمان وحكمة الإيمان فتكون الطاقة الدافعة والخبرة الإنجازية الكفيل اجتماعهما بتأهيلنا لاقتحام العقبة. اقتحام وعقبة عمل ارادي وغلاب انجازي"(مقدمات في المنهاج: 34-35).


في الحلقات القادمة، إن شاء الله تعالى، نقف على القيمة العلمية لخصلة التؤدة، ثم على قيمتها العملية من حيث هي خطوة سلوكية مستلهمين بتوفيق منه سبحانه دراستها في كتاب المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا، ومن كتاب الإحسان، خاصة الجزء الثاني.