في مناقشة الأستاذ الدكتور عبد العالي مجدوب


على هامش ما يكتبه الأستاذ الدكتور عبد العالي مجدوب

خطأ اختزال عرض "المنهاج النبوي" في معنى الاجتهاد الفروعي
 

 

1.اعتذار

بداية أود الاعتذار من استاذي الجليل عبد العالي مجدوب، فله علي من الفضل العظيم ما أسأل الله جلت عظمته أن يجعله في ميزان حسناته يوم العرض عليه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

لن أنسى سيدي ليالي وأيام الجهاد والمرابطة، ولن أنسى مولاي كريم عنايتك وجميل اهتمامك وعظيم موقفك يوم امتدت لنا نحن بعض شباب الجماعة يد الاعتقال والمحاكمة والسجن بمراكش، حيث سهرت على قضيتنا، فلك مني كل الحب والتقدير والاحترام، فكل من عرفك لن يشهد إلا أنك رجل الصدق والوضوح.

وأعتذر سيدي إن حملت قلمي- الذي دافعتَ عنه بصدق يوم اعتقلتُ لما كان المحجوز الوحيد ضمن ملف الاتهام، فكتبتَ مقالا تحت عنوان: اعتقال قلم، أو هكذا- وأنا كلي استحياء أن أناقش رجلا من طينتك، لكن معذرة سيدي إذ ما تكتبه انتقال من مرحلة التلميح والتلويح حول اجتهاد الإمام المجدد عبد السلام ياسين إلى مرحلة الصراحة والوضوح، وأنت تعلم سيدي أني واحد من المكثرين كتابة عن مشروع الرجل، مما يفرض علي فرضا مناقشتك سيدي بكل محبة وتقدير وإيخاء في لحظة هامة من حركة هذا المشروع. لايهمنا في الأمر إلا الحق الذي يعرف به الرجال،  وتعلم أنه ضاعت جهود عظيمة من أمتنا في مناقشات ومهاترات لا فائدة منها إلا استعراض عضلات الفكر وتشنجات النفس وحركاتها إن كان في ذلك فائدة ! ونحن تعلمنا معكم سيدي أن هذا ليس من تربيتنا ولا من همنا.

فاقبل اعتذاري سيدي، واقبل معه وضوحي، ويشهد الله تعالى أني أكن لك من المحبة والتقدير ما أسأل الله جلت عظمته أن يجعله قربى إليه؛ فهي الدنيا الفانية، وما فيها إلا محبة المؤمنين وخدمة المستضعفين وأن نكون رحمة للعالمين وقوفا قويا ضد مصادر الفساد والإفساد والاستبداد والتدبير غير الشوري والحكم غير الشوري.

2.المدخل إلى مناقشة مشروع العدل والإحسان

سأعرض قضيتين هامتين تشكلان مدخلا جوهريا في قراءة مسلك تقييم مواقف الإمام المجدد عبد السلام ياسين.

الأولى: مسيرة العقل المفكر في مشروع العدل والإحسان.

الثانية: معنى الاجتهاد الذي أنجزه الإمام المجدد من خلال عرضه "المنهاج النبوي" وموقع "المنهاج السياسي" من ذلك.

الأولى: مسيرة العقل المفكر في مدرسة المنهاج النبوي.

لقد اعتمدت عرض القضيتين بناء على أن كل مناقشاتك، سيدي عبد العالي، لاجتهاد الرجل تنطلق من مسألة الظني والقطعي في بناء العقل المسلم، ومن مسألة أن الخط السياسي الذي كثف الحديث عنه في كل مؤلفاته ومسموعاته ومرئياته اجتهاد فرعي، ومن ثمة فتجاوزه مسألة قائمة مع كل مستجد موضوعي مؤثر في مقتضى هذا الاجتهاد.

ولذلك رأيت التأسيس بالحديث عن قضية مسيرة العقل المفكر في مدرسة المنهاج النبوي مقدمة ضرورية للدخول على مناقشة عبر التحليل العالي المتخلص من منهجية العرض "الجرائدي" حتى ننصف الرجل، رحمه الله، من خلال الكشف عن السياق الذي يعرض فيه قضايا هامة، والتي عند تجريدها من سياقها الاجتهادي الكلي تصير مسائل من مسائل الاستعمال "الصحفي" مجردة عن سوابقها ولواحقها التي يحددها السياق العام الذي انتجها من حيث هي ضرورة علمية وعملية.

لذلك أصر على الحديث عن معنى "علم المنهاج النبوي" حتى لا ينفلت عرض أية جزئية دون الانتباه إلى سياقها العلمي المرتبط مباشرة بالعمل دون وسائط إلا وسيط إرادة الجهاد وحكمة الاجتهاد مع طليعة الجهاد (جماعة المسلمين ورابطتها).

وتعلم سيدي أن مسيرة اقتحام العقبة إلى الله تعالى في مدرسة المنهاج النبوي (مدرسة العدل والإحسان أو مشروع العدل والإحسان) هي مسيرة قلب وعقل وجسد على صورة وعلاقة توازن وتكامل، وأن أي اختلال في بناء هذه العلاقة بين هذه الأركان الثلاثة لا يكتمل معه المسير، ومن ثمة لايصبح التعبير عن المشروع وعلمه مكتملا.

ومفاده أن عند عدم اكتمال مسيرة ركن واحد من هذه الثلاثة لا يصبح الركنان الآخران معبرين حقيقة عن المشروع، ولو كانت حركتهما صادقة ساعتها.

فقد تسبق حركة العقل، لعوامل عديدة؛ كسابقة الإنسان في مجالات الفكر والبحث العلومي وهكذا، حركة القلب والجسد مجتمعين، وقد تسبق حركة أحدهما، فيتضخم أمامها ركام معرفي وضغط واقعي حول قضايا شائكة، خاصة في المجالات السياسية، فيضطر العقل المفكر إلى استجلاب حلول علاجية من مدارس أخرى وتجارب أخرى ربما ليست منسجمة من حيث السياق مع حركة المشروع الأصلي، وحينها يحصل تصدع هادئ أو حاد في أنظمة التفكير، مما يؤدي إلى واقع ترفي يحجب عن باقي الركنين عملية المسير؛ أي عملية الاقتحام.

إننا هنا أمام قضية دقيقة في بناء نظام التفكير الذي يولد الموقف الفكري من مسألة ما، ذلك أن بناء هذا النظام في معزل عن درجة اكتمال مسيرة الركنين الآخرين مع عدم ضبط العلاقة بين الأركان الثلاثة علميا وعمليا، يفضي إلى انزلاق واضح، خاصة عند التصدي لقضايا دقيقة في الشأن السياسي.

ونفس الأمر، فقد تسبق حركة الجسد اليومية باقي حركة الركنين (القلب والعقل) فيحصل ترف حركي خاصة لما تكون حركة الجسد اليومية من خلال مواقع المسؤوليات الكبرى ضمن حركة المشروع بحيث تراكم هذه الحركة قطع مسافات بسرعة فلا يتم استيعابها الجيد والصحيح مما يترتب عليه تفاعل مع قضايا عامة وشائكة في الواقع اليومي الحركي من موقع غير الموقع المناسب، فتصدر حتما مواقف غير مناسبة، ولو كانت صادقة، تصبح مع جسامة الوضع وتعقده نمط تفكير يولد بعض الأحكام والسلوكات غير المناسبة مع المعنى الكلي لحركة المشروع.

وتكون الطامة كبيرة لما يتحالف ترف العقل مع ترف الحركة اليومية فيحصل تضخم هائل يصير ثقلا حاجبا عن جوهر المشروع وحقيقة حركته، مما يفضي إلى إنتاج مواقف وأحكام من غير الموقع الصحيح.

إنني هنا لا أعطي المعنى التنظيمي للموقف، وإنما معنى التعبير عن جوهر المشروع في كليته وشموليته، وإن كان بين الأمرين تلازم.

ونفس الأمر تماما، حينما يترحك القلب في غير توازن وتكامل مع الركنين الآخرين فيصير التعبير عن المشروع وعلمه أحوالا أو مشاعر أو عاطفة مجنحة، ولو كانت صادقة، مما يؤدي إلى ضبابية وتشوه في تقديم المضمون الصحيح للمشروع، وهو نوع انزلاق ذات اليمين يحرف المسيرة عن اتجاهها الصحيح، إذ يصبح المشروع مختزلا في بعض الأحوال القلبية والمشاعر النفسية والسلوكات العاطفية، ولو كانت صادقة، وهو أمر لاعلاقة له شكلا ومضمونا بمشروع العدل والإحسان، أي بعلم المنهاج النبوي.

ما نريد قوله هنا أن عرض مسألة جزئية في مشروع العدل والإحسان لا ينفك عن اكتمال مسيرة العقل العارض ضمن عملية اقتحام العقبة إلى الله تعالى ضمن مسيرة واحدة للقلب والعقل والجسد، أي من خلال توازن وتكامل دقيقين بين حركات وسكنات هذه الأركان.

وللإشارة، فهناك فرق بين مستوى العرض لمسألة معينة من المشروع ومستوى مناقشتها؛ لأننا نتحدث عن مشروع كبير كمشروع العدل والإحسان.

فالعارض يجب أن يحقق الحد الأدنى الضروري من درجة كمال مسيرة الأركان الثلاثة في علاقتها بجوهر مشروع العدل والإحسان حتى يكون العرض متوفرا على الشروط الدنيا لتقديمه على صورة مستقيمة. أما المناقش فعليه أن يحيط، ولو عقلا، بالمعنى العام للمشروع وبالعلاقات الرابطة بين مكوناته حتى يتوفر على الصورة الكاملة لهذا المشروع فيتجنب عمليات الاختزال والبتر والتجزئة عند مناقشته لجزئية من جزئيات المشروع (كالموقف السياسي مثلا) لتكون هذه المناقشة منصفة علميا ومفهومة عمليا، وهو ما لم نجده عند كثير من الباحثين والمناقشين لمشروع العدل والإحسان.

نخلص إذن إلى أن تحصيل درجة اكتمال متوازن ومتكامل للأركان الثلاثة ضمن حركة مشروع العدل والإحسان شرط ضروري في عرض مقتضيات هذا المشروع وبيانها، وأن إخفاق أي ركن في تحقيق تلك الدرجة تخفق معه مسيرة العلم بجوهر المشروع، وإن تحصلت معها درجة هامة من الإدراك الشخصي بمقتضياته، فتخفق معها حركة الجهاد المتكامل عبر أبواب الجهاد. ومن هنا نفهم معنى شعار "التربية أولا والتربية ثانيا والتربية آخرا ولا آخر" الذي يكرره صاحب المشروع الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله.

وتعلم سيدي عبد العالي أن حركة العقل وحركة الجسد في مشروع العدل والإحسان تتأسسان على حركة القلب حتى تكون حركة العقل حكمة بالغة، وحركة الجسد قوة نافذة لا عنفا في النفس والعبارة والسلوك، لأن حركة القلب ضمن حركة مشروع العدل والإحسان هي مسيرة الوصول إلى الله تعالى، وهنا يكتمل معنى الصحبة والجماعة، ويظهر معنى المنهاج النبوي الذي ليس عرضه اجتهادا فروعيا، لأنه اجتهاد نحو أفق جهادي هو الخلافة الثانية على منهاج النبوة. وتعلم، سيدي، أن نظام الخلافة في مشروع العدل والإحسان لا علاقة له ألبتة بالبديل عن الأنظمة السياسية القائمة اليوم إلا من حيث مدى خدمة هذا البديل للقيم التي سيرعاها نظام الخلافة بما هو مطلب إنساني كوني لأجل تحقيق قيم العدل والحرية والكرامة لكل الناس مهما كانت توجهاتهم ومذاهبهم.

هذا الأفق حاول البعض هدمه علميا، وهو ما كررته سيدي في بعض مقالاتك، لأن هدمه يعني هدم مشروع العدل والإحسان جملة. لكن، وللأسف الشديد، أن محاولة الهدم هذه، مهما كانت درجة الصدق التي تؤطرها، سواء معك أو مع الراحل الدكتور فريد الأنصاري، رحمه الله رحمة واسعة، لم تتخلص من قبضة المنهجية الأصولية التقليدية، وهي المنهجية القابضة على أنظمة التفكير لدى كثير من مفكرينا وعلمائنا وباحثينا، وتعلم سيدي أن هذه المنهجية في جوهرها العلمي تشتغل على المعنى الجزئي في التفكير مما لا يسمح للمشتغل من خلالها عند تصديه لقضايا كلية، كقضية الموقف من الحكم القائم وقضية بناء أساسات نظام الخلافة بما هو نظام تجديدي للعلاقات الدولية، أن ينفتح على المعنى الكلي في اجتهاد "المنهاج النبوي". نتأسف لأن التخلص من قبضة هذه المنهجية على عظمتها العلمية والمعرفية، سيفضي حتما إلى العلم بمقتضى مشروع العدل والإحسان وبمقتضى نظام التفكير ومصادره الكلية الذي سيفضي إلى الانفتاح الهائل على نوع الأسئلة الكبرى والإجابات الكبرى التي يقترحها على الأمة وطلائعها لتزحف زحفها اليومي نحو واقع الحرية الحقيقي بالمعنى الفردي والجماعي، حتى لا يصبح وهم الاشتغال بالأسئلة الصغرى هو مضمون نظام التفكير ومعنى الاجتهاد.

فسؤال الانتقال، مثلا، من المعارضة الجذرية من خارج قواعد اللعبة السياسية السائدة اليوم إلى المعارضة من داخلها ليس سؤالا كبيرا حينما يشتغل نظام التفكير من داخل قواعد حركة المنهاج النبوي، أي من داخل حركة مشروع العدل والإحسان، لأن هناك فرق هائل بين من يشتغل على قاعدة نظام تفكير سياسي يؤسس لبناء نظام سياسي كبير وبين من يفكر ويشتغل ضمن قوالب جزئية لن تفضي إلا إلى موقف جزئي لا يصمد كثيرا أمام عملية سياسية يقودها نظام سياسي كلي عمره أكثر من 13 قرنا.

من هنا نفهم أهمية الموقف الجذري من الأنظمة السياسية الوراثية الذي تميز به الإمام المجدد عبد السلام ياسين ضمن سياق عرضه المنهاج النبوي، أي عرض مشروع العدل والإحسان بما هو غاية جامعة ومقاصد عالية وأهداف كبيرة أثر العلم بها في صياغة وبناء قواعد الترجيح بين المصالح والمصالح والمفاسد والمفاسد والمصالح والمفاسد، ومن ثمة نفهم معنى "المنهاج السياسي" لدى جماعة العدل والإحسان، الذي حاولت سيدي عبد العالي، مناقشته في مقالاتك الأخيرة وفق قاعدة القطعي والظني وقاعدة المصالح والمفاسد التي لم تخرجها من منطق التفكير الجزئي إلى سياق العرض الكلي لتعطيها معنى تجديديا كما هو الأمر مع إدراجها ومناقشتها وعرضها وإعادة صياغتها من خلال حركة مشروع العدل والإحسان، إذ سجنت مناقشاتك في حيز ضيق جدا؛ هو موقف جماعة العدل والإحسان من النظام السياسي القائم في المغرب. وهو حيز ضيق لأنه لا يسمح باكتشاف مؤهلات التفكير والفكر السياسيين الذين ينتجهما الاشتغال من خلال ما يوفره العمق الفكري ضمن حركة مشروع العدل والإحسان، لأن موقف جماعة العدل والإحسان السياسي الآني  ما هو إلا تجل في الزمان والمكان للموقف العام من قضية الشورى والحكم الوراثي والاستبدادي في علاقته بمستقبل الأمة وحقيقة الحرية في مسارها ومسار الإنسانية. وللعلم، فلما انقبضت عن رؤيتك سيدي هذه الحقيقة انقبض عنك العلم بالتحقيب النبوي لتاريخ المسلمين.

فننتقل إلى معنى "الاجتهاد" ومعنى "المنهاج السياسي" عند الرجل رحمه الله.
يتبع إن شاء الله