بين مشقتي الحقيقة والسياسة2

بين مشقتي الحقيقة والسياسة
-2-
 

4.الحقيقة والسياسة في التجربة الإسلامية

أ-الفراق والوصال

الفراق بين السلطان والقرآن حصل باكرا في التجربة الإسلامية وقد وصل إلى حد الخصام باكرا كذلك.

فمباشرة بعد إعلان معاوية أنه آخر خليفة وأول ملك -مما يدلل على أنه ملك وليس خلفة لأن الخليفة لا يمكنه أن يفعل ذلك- بدأ الانفصال بين مسار الحقيقة ومسار السياسة، لذلك نجد أن مواقف كل المذاهب والفرق إنما مردها إلى الموقف من السلطان، أي من السياسة في شخص المؤسسة القائمة ومن الفعل السياسي المطلوب على الأرض، دون أن نغفل أن لحظة الفراق هذه لم تكن فجائية بقدر ما كانت نتيجة لتضخم الفعل البشري السياسي وسعيه للسطو على مواقع الحقيقة حيث حصل بدأ فقدان أركان الجمع بين مساري القضيتين في المسار الذي كان عبره البناء ومن خلاله النظر.

فالإخبار النبوي بأمر افتراق القرآن والسلطان يعني أولا أنه أمر جلل، وثانيا أن الأمر باتباع القرآن حيث دار أمر بالتشبث بالحقيقة ابتداء، لكن كيف الحفاظ عليها مع تضخم فاضح في فعل سياسي صارت وسيلته هي السيف والقتل والتقاتل؟

قد يتساءل البعض عن ماهية هذه الحقيقة التي يحويها الوحي وكانت جماع الأمر قبل الافتراق.

سنترك الجواب متسربا عبر ما يلي من السطور إلى أن نقف على بعض المفاهيم لتقديم هذه الحقيقة التي ضاعت متمزقة بين المذاهب والفرق والاجتهادات مباشرة بعد ثلاثين عاما بعد مرحلة النبوة والخلافة الراشدة، ونقف على علامات اللقاء الحاسم بين السياسة والحقيقة ضمن التجربة الإسلامية لنستلهم منه أرضية البحث لبناء جامع مستقبلي.

فعبر التاريخ الإسلامي، وبمعيار الفعالية في التاريخ الجامعة بين البناء الداخلي الحر والتواصل الخارجي القوي، نجد أن لحظات اللقاء كانت منارات هامة على رأسها فترة النبوة ثم الخلافة الراشدة.

فمع ولاية أبي بكر الصديق رمز الصديقية والصدق انكشفت قيم النفاق؛ وهي من أخطر حجب الحقيقة وفصلها عن السياسة وجعلها دسيسة، ولو كتب لها النجاح لضاعت الرسالة وفُقدت الأمانة بمجرد انتقال صاحبها إلى الرفيق الأعلى.

أما عمر بن الخطاب رمز الموافقة والعدل فمعه انكشفت قيم الجور الكامنة في الطبيعة البشرية حيث تظهر تطلعات الهوى وعدم مطابقته للحقيقة، فحاصرها بجرأته وقوته في حربه على كل مقدمات الجور النفسية والسلوكية والتدبيرية.

وأما عثمان بن عفان رمز الحياء والرفق فمعه انكشفت قيم العنف والطمع والدسيسة فتسرب بنو أمية إلى مراكز التأثير والسلطة.

وأما علي بن أبي طالب رمز العلم والشجاعة فمعه انكشفت قيم الجهل وأشباه الرجال ولا رجال ثم مع زمن الملك معاوية بدأ الانحدار الكبير إلى اليوم.

في هذه الفترة الراشدية القصيرة زمنيا تجسدت كل أصول السياسة في السياق الإسلامي لما تعانق الحقيقة وتكون خادمها البار على كامل الوضوح، وفي نفس الوقت انكشفت أصول السياسة لما يكون همها وغاية سعيها فراق الحقيقة وعناق الهوى، وهو مايعني أن لا مدخل للحرية والبناء الكامل من دون فهم ما فعله بنوي أمية من التأسيس للانحراف الكبير الذي نتجت عنه كل الانحرافات.

فتميز رجل من هؤلاء الرجال الخلفاء الأربع النماذج الخالدة في التاريخ البشري بصفة من الصفات لا يعني أن غيره منهم ومن أمثالهم ليس له الحظ الوافر منها، لكن القدر جعل كل رجل منهم يواجه أصلا عظيما من أصول فراق الحقيقة والسياسة، وفي نفس الوقت يعرض أصلا عظيما من أصول الحفاظ على اللقاء والجمع بينهما.

فقد كانت هذه التجربة معالجة لطرفي الانحراف؛ نفاق يدعي معه صاحبه النبوة، أي ادعاء امتلاك كامل الحقيقة ليفرض كامل شرعيته على غيره، من أمثال مسيلمة الكذاب وأمثاله، وطرف الإفراط في انحراف ذات اليمين حيث ادعاء امتلاك الحقيقة في رجل من الرجال بعد غياب صاحبها الأصلي، أي طرف الخوارج والروافض، مثلا، ثم ادعاء المهدية بعد نسبة إلى المهدي المنتظر.

من الأمور الغريبة في التجربة الإسلامية قضية التجديد التي وصفها صاحب الرسالة مضمونا ووسائل، وحدد متى يكون الفرد والأمة في حاجة إليها.

فلما تمت قبضة بني أمية واكتملت صورة الفراق كانت فترة عمر بن عبد العزيز التي لم تدم أكثر من عامين بعامل مكر السياسي المفارق للحقيقة اختيارا، لكنه في هذه الفترة القصيرة قام بعملية التجديد المطلوبة في حينها، أي إعادة اللقاء بين الحقيقة والسياسة وتجلي عظمة هذا اللقاء على حياة الناس والمجتمع.

ومن النماذج المضيئة الكاشفة عن أهمية هذا اللقاء ومعناه نموذج صلاح الدين الأيوبي وأمثاله من الأمراء مثل تجربة يوسف بن تاشفين مع دولة المرابطين في المغرب، ثم تجارب مقاومة المستعمر سواء مع محمد بن عبد الكريم الخطابي أو عمر المختار أوعبد القادر الجزائري أو السنوسية في ليبيا أوالمهدية في السودان وكذلك تجارب الهند، وغيرها، التي تميزت باللقاء بين رجل السياسة ورجل التربية الإيمانية الإحسانية، ذلك أن هذه النماذج، التي سجلها التاريخ الإسلامي ناصعة في العمل السياسي البناء، كان خلالها لقاء رجل السياسة الممارس مع رجال إذا أردنا تصنيفهم حسب بحثنا هذا سندرجهم ضمن رجال البحث عن الحقيقة والكشف عنها وعن وسائل إقامتها.

نعم، هناك فرق بين من اشتغل على فروع الحقيقة وبين من اشتغل على الحقيقة، والفرق بين الاشتغالين كالفرق بين من ينظر إلى شيء مع جهله بكل الأشياء الخارجة عنه وبين من ينظر نظرة جامعة كلية حتى يحيط بماهية الأشياء الكلية وبجميع تفاصيلها الجزئية، وقد يظن الأول أن ما تراه عينه هو الحقيقة كاملة مما يجعله لا يراها ألبته عند غيره، في حين يدرك الثاني كلية الحقيقة ومواقع تفاصيلها وأجزائها فيقدر أهمية كل جزء وقيمة مكانه وجدوى وجوده فيعدل في النظرة والحكم.

ففي زمن النبوة والخلافة الراشدة حيث النظرة من موقع كلي جامع، أي زمن اجتماع القرآن والسلطان مع تحديد موقع كل منهما، كان الأمر واضحا فكانت الفعالية في التاريخ، أما بعد ذلك، أي زمن افتراق القرآن والسلطان، فقد تفتت الأمر وصار كل فريق يظن أن الحقيقة معه وأن الحق بجانبه، ومن ثمة فغيره قد يكون كافرا وقد يكون على باطل على الأقل، والطامة أن الحاكم، في كثير من الأحيان، صار حاكما باسم الله وظلا لله في الأرض ادعاء لا حقيقة.

هذا الواقع الممزق علميا وحركيا، في الغالب، المزور سياسيا، جعل تاريخ المسلمين تاريخين؛ واحد في الظاهر هو تاريخ الحكام، مهما كان عدلهم أو ظلمهم، بما فيه من حرب وسلم وتقاتل وتآمر، وقف معه علماء الظاهر مؤيدين أو صامتين أو معارضين، والثاني تاريخ حركة أرباب القلوب، باطن تاريخ المسلمين وصمام أمان وجوده.

ومن يدقق في قراءة هذا التاريخ سيجد أن حركة هؤلاء، أي أرباب القلوب، تشكل صلبه، لأنها قامت بدور الحفاظ على جوهر الرسالة والأمانة، وهو حقيقة العبودية لله ومعنى توحيده بها وإفراده بها، لذلك كانت الفاعلية في التاريخ مرتبطة بهم في جميع الأحوال؛ إذ كلما حصل لقاء الحكام بهم، سواء قبل تولي الحكم أو بعد توليه، تكون هذه الفعالية وأثرها واضحين جليين، وكلما تباعدت المسافة كلما خبت جذوة الأمة وحراكها التاريخي، بل تدخل في مرحلة تمزق مهولة ومحيرة.

واقرأ أغلب تاريخ المسلمين تجد تفاصيله تجاذبا بين هاذين الطرفين، وقد عرفت بعض لحظاته هروب أرباب القلوب إلى الخلوات حفاظا على ما معهم من جوهر الحقيقة ولا يدخلون على الحكام إلا لمصلحة الخلق ولا يخالطونهم حفاظا على صفائها، في حين كان يحرص الحكام على لقائهم لإضفاء الشرعية الكبرى على حكمهم أو التماس الدعاء منهم والتبرك بهم، كما اشتغل الكثير منهم على محاربتهم وحتى إعدامهم جسديا.

لقد كان الحكام يحرصون على اللقاء المزور في الغالب، في حين كان أرباب القلوب يحرصون على أن يكون الحكم عدلا ورحمة ومحبة.

ليس الحديث هنا عن أهل ادعاء الحقيقة أو ادعاء الانتساب إلى أهلها، فهؤلاء كشف أمرهم أهل الحقيقة تحقيقا، وإنما الحديث عن تلك القلوب التي عُرف أصحابها بالولاية وسجل التاريخ أعمالهم ومواقفهم العظيمة خالفهم من خالفهم وأيدهم من أيدهم.

فلا حرية إلا حينما نكتشف جميعا أن أفقها مرتبط بهذا اللقاء، ولقد ضيعت كثير من الحركات الاسلامية المجددة أفقها لما لم تدرك أن مسارها الوجودي لا قيمة كبرى له دون ربط حركتها بحركة أرباب القلوب الزاهدون في الدنيا الرافضون للسلطة العالمون بمواقعهم الطبيعية في تاريخ البشرية الملتزمون بها أمرا لا اختيارا.

وإن الفاعلية في التاريخ ليست مرهونة ببحث شكليات حركة هؤلاء، وإنما بجوهر ما معهم من الحق والحقيقة وما يستمد منها من فهم لمعنى السياسة.


في حلقة قادمة، إن شاء الله، نقف مع بعض المفاهيم الكاشفة لمعنى اللقاء.