امتداد الصحبة في حركة مشروع العدل والإحسان



امتداد الصحبة في حركة مشروع العدل والإحسان

مبارك الموساوي
 1.تذكير
استهل الحديث في هذا الموضوع، البالغ الأهمية والعظيم الشأن، بالتذكير بأن الخوض فيه ليس ترفا فكريا، ولا مكان فيه للجدل ولعبة استعراض الأفكار؛ ذلك أن القضايا المصيرية تملك من المقومات الذاتية ما يدفع عنها كل ما لا يمت لها بصلة، كما أني لا أدعي الإحاطة الشاملة به، لكن، وقد خضت فيه منذ أكثر من عقد من الزمن في مذاكرات مع كثير من الأصدقاء والأحباب ليقيني أنه من أهم ما سيطرح بعد رحيل الإمام المجدد، عبد السلام ياسين، رحمه الله، إلى دار الخلود، كما قدمت حوله إشارات عدة في مقالات عدة، لذلك أرى، والله تعالى أجل وأعلم، أن اللحظة التاريخية التي تمر منها الأمة عموما، وحركة الدعوة خصوصا، تقتضي إشاعة الحديث فيه بروح عالية وإرادة سامية لا تروم إلا البناء والبناء فقط؛ بناء العلم وبناء العمل؛ العمل الذي يقوي حركة الدعوة ويفتل في حبلها رجاء الهداية من المولى الكريم، هو تعالى من وراء القصد وهو سبحانه يهدي إلى سواء السبيل، خاصة أن في زحمة الأحداث وضغط الواقع وتضخم الفعل الحركي اليومي الفردي والجماعي تعرض إشكالات لاعلاج لها إلا وضوح المعنى الأصلي الوجودي لحركة الدعوة ووظائفها ومهامها.
كما أنطلق من القاعدة التالية: إن تصاعد نمو حركة جماعة العدل والإحسان رهين بفتح آفاق سلوكية ومعرفية لجوهر أساسها التربوي كما يقدمه علم المنهاج النبوي؛ ذلك الأساس المنجمع في كتاب الإحسان بجزئيه، خروجا من ضيق التجارب الشخصية إلى عمق ما يقدمه الإمام من حركة متجددة لمعنى الوحي قرآنا ونبوة صلة بمعنى الصحبة.
وللعلم فإن فقه جوهر النظرية السياسية عند الإمام، رحمه الله، هو نفسه رهين بمعنى هذا الأساس وانفتاح آفاق الحركة العامة عليه، وهو أساس لا يحتاج منا إلى الذوق الفردي، بقدر ما نحتاج نحن إلى الانخراط فيه باعتباره وقوفا مباشرا على التجربة النبوية الصحابية كما يقدمها الوحي من حيث هو كلية مؤثرة في التاريخ والوجود.
وبين يدي هذا المقال أود الإشارة إلى الأمر التالي:
إن أعظم تنوع بشري عرفته وتعرفه الإنسانية تنوع العارفين بالله في الزمان والمكان وعلى طول تاريخ البشرية، خاصة بعد بعثة المصطفى الحبيب، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ذلك أنه تنوع لا يعرفُ الاختلافُ التعارضي طريقا أو مسلكا إلى أوساطه، لأنهم، رحم الله الجميع، أوعية المحبة ومصادر الرحمة والرفق، ومعادن الخير وحسن الظن وجميل المعاملة، وهم كنوز المعرفة وجماعها، كان منهم وعلى رأسهم كبار الصحابة وآل البيت الأطهار وكل ولي تقي في كل زمان، فكل ما يظهر للبعض اختلاف بينهم إنما هو عين التكامل لتحقيق جوامع قابليات التربية والبناء وسط الأمة.
كيف لا يكون الأمر هكذا وهم قلوب غارقة في علم المعاملة القلبية مع الله، عامرة بحب سيد البرية، همها الدلالة على الله وإنقاذ خلق الله، عيال الله، من النفاق والجهل بالله وبخلقه، ومن الجحود وقبضة النفس والهوى والظلم والاستكبار، لا صلة لهم بطلب محمدة الخلق، بل الخلق لهم محتاج علم أم لم يعلم.
هم في الدنيا كالحديقة الجميلة المزينة بالورود الزاهية، كل واحدة من هذه الورود مستغنية عن الأخرى في شجرتها وأغصانها وزهورها وعطرها الطيب، لكنها جميعها تزين الحديقة بألوانها الجميلة وأشكالها البهية، كلها جميلة صادرة من الأرض متجهة إلى السماء، لكن قلب الزائر الوارد عليها يميل إلى هذه الوردة أوتلك لأمر قد لا يعلمه إلا الله في سابقة علمه سبحانه.
الحكمة من هذه الإشارة أن تعدد الأولياء الذي يعني تعدد مشايخ التربية في الزمان والمكان آية من آيات الله ووسيلة من وسائل استيعاب القلوب وتوجيه القابليات، هذا وتزداد أهمية هذا التعدد لما يكون الأمر متعلقا بمعنى الجماعية وبنائها والعلم بوظائفها الأصلية والفرعية.
فهذا المعنى التعددي الجامع هو ما سيعالجه هذا المقال في إطار حركة مشروع العدل والإحسان كما عرضه الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله.
لذلك أتمنى على أحبابي أن يصبروا على القراءة، وإن همي الوحيد أن أقدم خدمة لرجل إذا ذكر فاضت العين وأن الصدرُ وتملل الجسد، همي أن أساهم من موقع العبد الضعيف في تفعيل مقتضيات مشروع لا أحتمل مجرد الشك في أنه طريق خروج الأمة من واقع الفتنة المغرقة كما أخرجتها حركة النبوة الملتحمِ بها الصحابة من واقع الجاهلية الجهلاء.
إن مشروعا مبنيا على التعدد في قضية الصحبة المسلكة الخادمة للصحبة المجددة الكاملة، التي هي أصل العلم والعمل، لن يكون إلا الخيمة الجامعة لغيرها من الفروع والمنظمة لها حتى تكون قوة لا تقهر ورحمة عامة للكل، لذلك فالصبر هو السلاح حتى يفقه الناس ما يحمله هذا المشروع الكبير.
فلا يسجن أحدنا معنى المشروع وآفاق حركته في الوجود في حدود فهمه وأفق حركته ومقتضيات مرحلته وظروف تجربته الشخصية؛ سواء في علاقته مع الإمام المجدد أو مع تنظيم جماعة العدل والإحسان، ولاشك أن تنوع هذه التجارب هو نفسه نعمة وأرضية يبنى عليها جمعا لا تفريقا، لأن سجن معنى المشروع في مثل هذه المضايق رجوع إلى ما قبل ظهور الإمام رحمه الله رافعا لواء مشروع العدل والإحسان؛ مشروع الشورى والعدل والإحسان، مشروع جماعة المسلمين قاعدة وحدة الأمة وصانعتها، مشروع بناء الجهاد الجماعي العفوي والسلوك العفوي لما تصبح جماعة المسلمين هي القلب النابض للأمة وعماد خيمتها.
فحصر معنى المشروع، كما عرضه الإمام المجدد رحمه الله، وآفاق حركته في مستوى الفهم الشخصي وآفاق حركة الشخص وظروف تجربته مدخل كبير للتفتيت المصيري والارتباك الاستراتيجي، في حين إذا تم إعمال روح المشروع، مشروع الشورى والعدل والإحسان، ووسائله الكلية في تفاعل وتكامل وتعاون وتآزر الأفهام والإرادات وتنظيمها وفق روح النواظم الثلاث ونظامها؛ فذلك تفعيل للأساس التربوي لهذا المشروع وفتح آفاق اختراقه للواقع تأسيسا وبناء لمسارات الحرية الشاملة وأنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية كما يعرض علم المنهاج النبوي مفهوم الحرية.
2. قضية الشيخ في السلوك إلى الله تعالى.
من تقريرات الإمام الشاطبي، في كتاب الموافقات، أن إجماع أرباب القلوب كما يصفهم، وهم أهل التربية، إجماع[1] ، ومما أجمع عليه هؤلاء ضرورة الشيخ المربي، ولذلك صار هذا أصلا كليا في التربية يبنى عليه.
نعم، لا يحتاج أهل التربية في الباب إلى تقرير الإمام الشاطبي الذي عاش في أواخر القرن الثامن الهجري، لكن أن يكون هذا التقرير من أصولي مقاصدي من عيار الشاطبي مشارك في مجال التربية والسلوك جعل ثمرة حياته بحثا في مقاصد الشريعة وأسرارها، فذلك أمر غاية من الأهمية يستحق البناء عليه، خاصة بالنظر إلى مستقبل الأمة وما يعترض مسيرتها نحو الحرية والريادة، فهو تقرير يستحق أن يكون مدخلا هاما في الجمع بين علم الأصول وعلم السلوك حتى يتسنى لنا بناء فقه تجديدي جامع، وهذا باب نسأل المولى الكريم التوفيق والسداد لطرق مباحثه من رجالات البناء لما يفهم جديا معنى القومة (الثورة) العلمية التي أنجزها الإمام من خلال اكتشافه المنهاج النبوي. (لنا عودة للموضوع أن شاء الله الكريم الوهاب).
وعليه، فلا نقاش في أمر ضرورة الشيخ في السلوك إلى الله تعالى، لكن ما يتفرع عن هذه القضية من المواضيع التي عالجها أهل التربية أرباب القلوب، كما وصفهم الشاطبي، مسألة الأفضلية في التربية: هل هي للشيخ الميت أم للشيخ الحي حتى ولو كان المنتقل إلى دار البقاء هو الشيخ الكامل[2]؟
دون الدخول في هذا النقاش، تكفي الإشارة إلى أن الراجح عند أرباب القلوب أن التربية تكون بواسطة الشيخ الحي.
وما يهمنا هنا أن الرأي الذي ذهب إليه الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، وعلى درجة كبيرة من الوضوح، هو أن التربية تحتاج إلى المربي الحي.
هنا بالضبط سأدخل إلى موضوع المقال معتمدا درجة كافية من الوضوح، لذلك أدعو القارئ الكريم إلى الصبر مرة أخرى حتى نهاية المقال.
3.الصحبة في مشروع العدل والإحسان
أ- الشيخ والصحبة.
مما يفهم من حديث الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله تعالى، أنه يميز بين عبارة "الشيخ"[3] وبين عبارة "الصحبة"[4].
 فقد استعمل، رحمه الله، عبارة "الشيخ" في كتاب المنهاج النبوي، كما استعملها في كتاب الإحسان، وكل استعمالاته لها تأتي في سياق تأكيده على الراجح عنده أن شرط الاستقامة في التربية مرهون بوجود الشيخ المربي الحي، كما يؤكد ما أجمع عليه أرباب القلوب من كون الصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، شيخ من لاشيخ له، وهو تأكيد على ضرورة الشيخ الحي في التربية، وإشارة إلى مقام النعمة العظمى الرحمة المهداة عليه صلاة الله وسلامه.
وقد يطلق عبارة "الصحبة الشخصية" على معنى الشيخ المربي، تركيزا على وظيفتها التسليكية، وأهميتها في السلوك إلى الله تعالى، كما في تعليقه على المحدثين الحنابلة، حيث قال: "وسبحان الله كيف أخذ المحدثون الحنابلة عن الإمام عبد القادر كل شيء إلا مسألة الصحبة التي لا يكادون يعيرونها اهتماما، ففاتهم الاستفتاح بالصحبة الشخصية، وفاتهم بفواتها البداية الصحيحة"[5].
خذ هذه العبارة وقوفا على معناها في بداية مسيرة السلوك إلى الله تعالى: "فاتهم الاستفتاح بالصحبة الشخصية، وفاتهم بفواتها البداية الصحيحة".
أما "الصحبة" فهي أعم من عبارة "الشيخ" وهو وسيلتها الأولى حيا في التربية، ولذلك كان من المهام التجديدية التي قام بها الإمام، رحمه الله، أن حرص على تجديد معنى الصحبة ومواقع حركتها في الوجود، لأنها الأصل في كل شيء؛ أصل العلم النافع وأصل العمل الباني، وهو، رحمه الله، لم يأت من حيث معناها الكامل عند أكابر التربية الإيمانية الإحسانية بجديد، كالإمام عبد القادر الجيلاني، والإمام الرفاعي، والإمام الشاذلي، رحمهم الله، إلا أنه لما أبان وكشف، بكل ما أتاه الله من علم وما وفقه إليه، سبحانه وتعالى، من عمل، عن محوريتها ومكانتها في السلوك إلى الله تعالى، كان أعظم تجديد قام به في الباب أن حقق الوصال بين الصحبة والجماعة وليس بين الشيخ والجماعة، لأن علاقة الشيخ تكون مع المريد وجه الله، بل أكثر من ذلك جعل الصحبة لحمة الجماعة ومضمونها الجامع وروحها الممتدة عبر الأجيال بعد أن جدد مفهوم الجماعة وخلصه تماما من كل آثار الانكسار التاريخي علميا، وعمل على بناء نموذجه عمليا، إذ صار المعنى أن لا جماعة من دون صحبة. وهو ما يعني أن التفريط في الصحبة أو السماح بفك الوصال بينها وبين الجماعة على أي صورة من صور الغموض أو الارتباك في الفهم وفي بناء الهياكل وترتيب صيرورتها وعلاقاتها العمودية والأفقية يعني ضياع الجماعة، ولاشك أن ضياع الجماعة يعني ضياع الجهاد البنائي الذي ليس هو الجهاد الدفاعي، وليس هو الجهاد القتالي، سواء كان فرديا أو جماعيا منظما، ومن ثمة تتمزق الأمة وينهار دورها التاريخي. وهنا ارتبط مصير الأمة بالصحبة، ذلك أن الفعالية الشاملة في التاريخ رهينة بتحقق الاندماج الكمالي للجماعة في الصحبة.
لذلك، فالحفاظ على الصحبة في مشروع الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، حفاظ على الجماعة، والحفاظ على الجماعة عمل على امتداد الصحبة عبر الأجيال بالانتقال من مرحلة الوصال إلى مرحلة الاندماج، حيث هذه المرحلة الأخيرة هي الضامنة لسياق السلوك العفوي الجهادي الجماعي.
فالانتقال من مرحلة وصال الصحبة والجماعة إلى مرحلة اندماج الجماعة في الصحبة كما اندمجت الصحبة في الذكر فيصير الواقع "الصحبة في الجماعة" تعريفا لا نكرة، اي ليس "صحبة في جماعة" لأن هذه حالة جزئية لا كلية إذ تعني وظيفة التسليك باعتبارها من وسائل امتداد الصحبة الكاملة عبر الأجيال، يعني انتقالا من مرحلة سلوكية إلى مرحلة سلوكية أخرى في مسيرة الفرد، ويعني مرحلة بنائية في مسيرة الجماعة لما يُحَصل المجموع العام مكتملا وشاملا للخصال العشر وشعبها، والمرحلية هنا سلوكية قلبية فهمية لا مرحلة مرتبة في الزمان، إذ كلما كان عدد من اندمجت عندهم الجماعة في الصحبة كبيرا وسط الأمة وتنظيماتها كلما كانت القوة وسيادة روح الوحدة واكتمل بناء سياق التجديد الكامل والعمران الشامل.
والحفاظ هنا على الصحبة والجماعة يعني التمسك العملي بهما بعد العلم بهما، أما باعتبارهما، أي الصحبة والجماعة، أصلا من أصول الدين فبهذا محفوظان من جناب الذي تكفل بحفظ أصول وفورع الملة سبحانه، وهو مقتضى قوله تعالى في سورة الحجر آية 9: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، ليبقى الاجتهاد في معرفة هذه الأصول وتحريرها ثم التمسك بها مطلب تربوي إيماني إحساني اجتهادي جهادي بنائي لكل واحد من عباد الله الصادقين حظه ورزقه الذي كتبه الله له سبحانه وسيصله لا محالة.
ب- الصحبة عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله.
تأخذ الصحبة عند الإمام معنيين متكاملين يشكلان المعنى التجديدي الجامع الذي ارتبط به وجود الجماعة وقيامها بوظيفتها التغييرية لبناء الأمة لتقوم هذه الأخيرة بوظيفتها التاريخية، وكلا المعنيين مذكورين في وصية الوداع في قوله، رحمه الله، إخبارا ودعاء:
 "مرمى وصيتي هذه وغايتها أن يقف عليها مومن وتقف عليها مومنة يسمعانها بصوتي مسجلة أو يقرآنها مسطورة فيترحمان علي ويترحمان على ثاوٍ في قبره أسير لذنبه راج عفو ربه. تلك أولى المقاصد. رحم الله عبداً لله وأمة لله دعا الله بقلب خاشع لمن انقطع عمله إلا من الثلاث المرجوة. عسى الله أن يلحقنا فضل دعائكم جزاكم الله خيرا.
والقصد الثاني أن يتذكر متذكر خلاصة ما إليه دعونا لما كنا من سكان أرض الدنيا عابرين إلى دار البقاء. وصية ليتذكر متذكر ويدعوَ داع فتلتئم أواصر الصلة ويتحقق التزاور في الله والتحاب في الله عبر الأزمان. لاتحبس الصلة برازخ الموت".
اجمعِ القصدين معنى ومبنى واكتشفْ معنى امتداد الصحبة في مشروع العدل والإحسان، الذي سيحاول هذا المقال المتواضع أن يفتح بعض آفاقه المعرفية والسلوكية.
وقال دعاء، وقد تبين أنه رحمه الله لما يريد التعبير عن أمر تجديدي عظيم فإنه يلتجئ إلى عرضه عبر الدعاء؛ قال: "أوصي أن العدل قرين الإحسان في كتاب ربِّنا وفي اسم جماعتنا، فلا يُلهنا الجهاد المتواصل لإقامة دولة العدل في أمتنا عن الجهاد الحثيث لِبلوغ مراتب الإحسان. الإحسان أن تعبد الله كأنك تراهُ، ولا مدخل لك في هذا يا أخي، ولا مدخل لكِ يا أختي في هذا المضمار إلا بصحبة تفتح أمامك وأمامكِ المغالق وتحدو بركبك إلى عالم النور والرقائق.
لذا أوصي بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة.
أوصي بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة.
أوصي بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة.
لا تستغرب هذا التكرار، فالأمر جلل، وافهم أن الجماعة التحقت بالصحبة وصالا ثم اندمجت كمالا للعبودية.
وقال رحمه الله: "كان من قبلنَا رحمهم الله، ورفع درجاتهم يتفرد منهم الطالب الراغب السائر تأخذ بيده يدُ فرد نوَّر الله قلبه من العارفين بالله مشايخ التربية.
ولمستقبل دعوتنا نرجو من الله نور السماوات والأرض سبحانه أن يفيض رحمته على أفراد أوليائه وأن يلهمهم التعاون على البر والتقوى، برِّ هداية الخلق بصحبة تُؤلف القلوب، لا يضيرها أن كان حُبُّ زيد لعمرو أرجحَ من حبه لخالد. الرجاء من الملك الوهاب أن تكون الصحبة والجماعة متلازمين تلازم العدل والإحسان، نرجو من الله عز وجل الملك الوهاب أن تكون الصحبة والجماعة متلازمين في جماعة العدل والإحسان تلازم العدل والإحسان في كتاب الله عز وجل وفي شعارنا، لا تطغ جذبة سابح في الأنوار على شريعة قول الله عز وجل: ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ﴾.
أوصي أن يدعوَ أحبابي إخواني ربّنا عز وجل أن يمسك وحدة الصحبة والجماعة كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا.
أوصي أن يدعوَ أحبابي، إخواني وأخواتي من جماعة العدل والإحسان ربنا عز وجل أن يمسك وحدة الصحبة والجماعة في جماعتنا كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا.
أوصي أن يدعوَ أحبابي، إخواني وأخواتي في جماعة العدل والإحسان ربنا عز وجل أن يمسك الله عز وجل وحدة الصحبة والجماعة في جماعتنا كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا".
ما هذا التكرار المؤكد؟ ما هذا المعنى العظيم الذي يحتاج هذا التأكيد دعاء ورجاء من المولى الكريم الوهاب وأن بسطر في وصية الوداع؟
وانطلاقا من هذا، ومما سنرجع لبعضه بعد تبيانا للموضوع، يتبين أنه رحمه الله يميز بين معنيين متكاملين للصحبة، وهما معنى الصحبة المجددة للدين كاملا ومعنى الصحبة المسلكة؛ إذ الأولى أعم من الثانية لأنها تتضمنها ومنتجة لها، والثانية خادمة للأولى عبر الأجيال، وهما مجتمعتان في الشخص الواحد هو المجدد الكامل الذي ينهض فتلتئم حوله الجماعة.
وهذا التمييز هو ما جعله لا يعير اهتماما إلى الإشكال الذي عرض على التجربة الصوفية في أمر تعدد الصحبة في نفس الزمان أو في نفس المكان، أو في أمر الشيخ المربي حيا أو ميتا.
لأن ذلك الإشكال مناسب لكون تجزئة التربية كانت في سياق نتائج الانكسار التاريخي وآثاره، ثم إن أكابر المجددين من أوليائه يعلمون أمرا مهامهم التجديدية فلا يتجاوزنها قدرا وأمرا.
وقد لخص الإمام، رحمه الله، المعنين المتكاملين في وصية الوداع وفصلهما في موقعين مناسبين لكل واحد منهما.
ففي كتاب المنهاج النبوي، غلّب معنى الصحبة المسلكة، لأن من وظائفها المباشرة تجديد الإيمان الذي يبلى في القلوب، وهو أرضية بناء جماعة المؤمنين التي جدد، رحمه الله، في معناها ومبناها وفي مهامها ووظائفها الجهادية التغييرية البنائية العمرانية، وهي وسيلة كلية في تجديد دين الأمة، كما وقف عندها في فصل (خصلة) الصحبة والجماعة في كتاب الإحسان الجزء الأول.
أما الصحبة المجددة فقد عرضها في سياق فصل (خصلة) الجهاد في كتاب الإحسان الجزء الثاني عند حديثه عن التمييز بين طريقة المجاهدة وبين طريقة الشكر وبين حركة المنهاج النبوي الراعية البانية لحركة أجيال الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
ولذلك، فالصحبة المجددة ممتدة عبر الأجيال بما هي أصل كلي في الدين تكفل الله بحفظه، والدليل عليه امتداد محبة رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم القلبية من قلب إلى قلب في الأمة، ومن وسائل امتدادها عند الأفراد الصحبة المسلكة، لأن جوهر الصحبة تحقيق الوصال القلبي الروحي بسيد البرية سيدنا رسول الله عليه صلاة الله وسلامه، والصحبة المجدد يظهر أثرها الكبير ليس فقط في تجديد الإيمان في القلوب بل في تجديد معنى الدين وإعادة علاقة الأمة بجوهر دينها حيث تسترجع الفاعلية في التاريخ من جديد.
ولذلك لما خلط الكثير بين الصحبتين وجعل إحداهما في موقع مقام الأخرى ارتبك عنده السير الخاص أو العام أو كلاهما، وصعبت عليه قراءة تاريخ المسلمين وتفكيك واقعهم واستشراف مستقبلهم، وغالبا ما يقع هذا الإشكال عند الأجيال التي عاصرت رجل الصحبة الكاملة، ولما كان الإمام واعيا بقضية تعدد الصحبة المسلكة في الزمان والمكان، بل عنده ضرورة ونعمة إلهية، فقد ربط هذا بمعنى الصحبة المجددة التي تكون في رجل يقوم بمهمة تاريخية جذرية مؤثرة جوهريا في مسار تاريخ الأمة ومضمونه وترتبط حركة التربية الإيمانية الإحسانية بعده بماهية المهمة التجديدية التي أنجزها وقام لأجلها مأمورا لا مختارا. وسنلحظ هذا في التحقيب الذي اعتمده في مراحل التجديد الكلية.
الصحبة المسلكة[6](الصحبة المجددة للإيمان).
الصحبة المسلكة بالطبيعة تقبل التعدد الزماني والمكاني وفق ضوابط فصلها أهل التربية. وعند الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، ضوابط الضوابط أن يكون هذا التعدد مفضيا إلى تنوع في استيعاب قابليات الأفراد وموافقة أقدار الله تعالى وسابقته في العلاقات القلبية بين رجال التربية ومريدي السلوك إلى الله تعالى في كل زمان، وأن يكون خادما للوحدة والقوة التي قاعدتها المحبة القلبية الصافية الناظمة لحركة الجماعة، والتي عليها يبنى نظام الشورى في تدبير أمر الجماعة والأمة في كل مراحل الدعوة والبناء في إطار النواظم الثالث: المحبة في الله، ثم النصيحة والشورى، ثم الطاعة.
ولعل الضابط العظيم الذي ذكره في وصية الوداع أن لا يضر بالسير والعلاقات القلبية رجحان حب فلان في قلب فلان عن حب فلان، وأن لا يكون صراع رئاسات بما هو كاسر التربية وهادم السير الإيماني الإحساني الجهادي، لأن الأمر في أصله قدر إلهي ينبغي أن يكون التعامل معه وسيلة بناء.
فاندماج الجماعة في الصحبة كما  اندمجت الصحبة في الذكر، يورث فقها لم يكن موجودا في عالم التربية الإيمانية الإحسانية قبل الإمام عبد السلام ياسين، وهو عند كثير من رجالات الجماعة يُكَوّن فهما منتشرة قواعده الدقيقة في ثنايا مؤلفات ومسموعات ومرئيات وسيرة الإمام رحمه الله، وقد آن الأوان أن تُقَعّد هذه القواعد نظرا لأهميتها في مستقبل حركة مشروع العدل والإحسان، ومن ثمة في مستقبل الأمة.
ولعل من الفقه التجديدي في الباب أن السير الفردي لا ينبغي أن يغيب فيه السير الجماعي؛ أي أن مصلحة الفرد في السلوك إلى الله تعالى تنتبه قصدا ووجوبا إلى مصلحة الجماعة في كل مراحل بنائها وزحفها، وفي نفس الوقت أن البناء الجماعي ينبغي أن يكون وسيلة تعميق معاني الصحبة الكاملة عبر الأجيال.
إن الصحبة المسلكة بعد عملية التجديد الشاملة التي قام بها الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، على تعددها وتنوعها مكانا وزمانا (أي الصحبة المسلكة) لن تكون إلا جنديا على رأس الصف الأول من جنود الصحبة الكاملة على مر الأجيال، وهو من مقتضى "الصلة" التي لا تحجبها برازخ الموت كما ذكر الإمام في وصية الوداع، لذلك من العبث طرح هذا إشكال من المصحوب زمن من عاصر الإمام حيا، لكن البداية ذلك القلب المندمج نبضا وحركة في قيم الجماعة ومعانيها بعدُ اجتهادا وجهادا لمن لم يعاصر الإمام حيا. إنها ضرورة الأفق العمراني البنائي الذي لن يكون من دون جماعة، وهنا نفهم لماذا اشترط الإمام في المجتهد في قضايا المسلمين أن يكون من المحسنين وعضوا في جماعة المسلمين.
فلا نخلط بين معنين الصحية فنخلط بين مواقعهما ووظائفهما، فيرتبك السير جملة وتفصيلا، لذلك كان دائما الانحراف ذات اليمين في السلوك إلى الله تعالى من أخطر أنواع الانحرافات.
ولذلك فقضية الصحبة المسلكة تطرح إشكالا وهميا في حقيقته عند البعض من الأجيال التي عاصرت رجل الصحبة الكاملة، ولعل هذا ما جعل من هذه الأجيال، عبر تاريخ التربية، من يتشبث بصحبة الشيخ المتوفى في التربية تسليكا، الأمر الذي جعل الإمام، رحمه الله، يحذر من منزلق بالغ الخطورة، وهو منزلق التبرك، لأنه إقبار للتربية من أصلها وهادم لروح الجماعة كليا ومعطل لامتداد ونمو قيم الشورى والعدل في المجتمع، حيث قال: "ومسألة أخذ العهد تعطيها بعضُ المدارس الصوفية صِبغةً احتفالية لها طقوسها. تجد هذا غالبا عند شيوخ التبرك الذين لم يبق لديهم من السلوك إلا الذكريات والشكليات. أما المشايخ المربون فحالهم تنهض بالصاحب الصادق، قلوبهم مغناطيس جلاب جذاب"[7].
فالصحبة المسلكة حياة سلوكية، لأن السالك في حاجة دائمة إلى مصحوب ينهض به حاله، لذلك لايُعرض المشكل السلوكي من خلال سؤال من المصحوب بعد انتقال المصحوب الكامل إلى دار البقاء على من عاصره، بل على الأجيال التي لم تعاصره، ولذلك بعض التجارب تنطوي على حالة التبرك، فتتحول إلى طقوس حاجبة للتربية الإيمانية الإحسانية في صفائها ثم يتوقف مع هذا معنى الاجتهاد والجهاد، ولعل إخراج الناس من هذه الورطة واجب دعوي تجديدي مصيري.
فقد كان أدق انتقاد على غاية من اللطف وجهه الإمام لتجربة جماعة "الإخوان المسلمون" لما اكتفوا بعلاقة التبرك مع الإمام حسن البنا بعد وفاته رحمه الله، حيث دعاهم الإمام عبد السلام ياسين إلى البحث عن مصحوب ولو من خارج الجماعة لتستمد قوة الدفع الحقيقية، ولاشك أنه لو حصل هذا لكان أمر الدعوة في العالم قد تغير جذريا[8]؛  ذلك أن حصر السلوك والتربية في التبرك يخرجها عن وضوح مهام التغيير المطلوبة، ويكون الخطب أعظم في سياق الجهاد وبناء قواعده العلمية والفكرية والعملية، ومنها معاني الجماعة وتنظيمها، لان التبرك غير السلوك.
واقرأ هاذين النصين قبل العبور إلى معنى الصحبة المجددة:
"إن وُجد أصل إيماني في القلوب، وهذا الأصل لا إمكان لاكتسابه إلا بالتربية وهي إيقاظ الفطرة وتقويمها، يفعل الأبوان في ذلك والمصحوب والجماعة الفعل الأول بعد هداية الله تعالى وشرحه صدر من شاء للإسلام، فإن بالإمكان تقوية ذلك الأصل وتزكيته وترقيته في معارج العقبة الإحسانية إلى أن يبلغ العبد المرتبة التي سبقت له بها الحسنى عند الله عز وجل"[9].
"وهي شروط عالية، من يَفِ بها لا شك يكن من المتقين. من بينها مسألة واحدة لا يفيد فيها إسرار ولا "إعلان" ولا يخبر عنها بَوْحٌ ولا كتمان، ولا هي من شأن دون شأن، ألا وهي مسألة "قطع مراحل السلوك إلى رضوان الله" هذا لا يجيء إلا بصحبة. والمصحوب رجل حي سلك المراحل إلى الله وتقرب حتى أحبه الله وجعل قلبه مشكاة ونبراسا وسراجا وَهّاجا. ما يحصل ذلك بإجازة تبركية، ولا بالانضواء تحت جناح عظيم من عظماء الأمة، عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم، قبلةِ القلوب، رحمة العالمين، محبوبِ الرب جل وعلا"[10].
أفق الصحبة انضواء العبد تحت جناح المعصوم، صلى الله عليه وسلم، قبلة القلوب لا غيره، والصحبة المسلكة وسيلة ذلك والصحبة المجددة مراث الكمال المحمدي المتجلي واقعا في الزحف الدائم لإقامة العدل وخدمة المستضعفين التي يسميها الإمام ب"العروة الثقى".
الصحبة المجددة (الصحبة المجددة للدين).
 في الوقت الذي ذكر الإمام عبارة "صحبة المسلّْك" تُستفاد عبارة "الصحبة المجددة" من ثلاثة أمور؛ الأول من خلال حديثه عن معاني التجديد الشامل الذي دعا إليه وقام بإنجازه علميا وعمليا، والثاني من خلال حديثه عن مراحل حركة الصحبة المجددة في تاريخ المسلمين التي قسمها إلى أربع مراحل باعتماد معيار موقع الصحبة في واقع السلوك الفردي وفي واقع الأمة، والثالث أنه يقرن الصحبة بمعاني تجديد الدين والسلوك على مراتب الاسلام والإيمان والاحسان، سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة أو الأمة، أي من خلال تدقيق معنى الدين.
لقد سبق أن عالجت هذا في مقالات سابقة، وألخصه هنا للمناسبة.
-التجديد الشامل.
إن شمولية التجديد عند الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، تستمد من كون حركة المنهاج النبوي بما هو علم وآلة للعمل متجهة إلى أفق جهادي إنساني جامع، وهو أفق الخلافة الثانية على منهاج النبوة باعتماد حديث الخلافة ضوء كاشفا وموجها لحركة مشروع العدل والإحسان، وأن هذه الحركة مبنية على تجديد الإيمان في القلوب بناء على حديث تجديد الإيمان، الذي يشكل قاعدة تجديد دين الأمة الوارد في حديث جبريل المشهور الذي بين أن مراتب الدين: إسلام ثم إيمان ثم إحسان.
إنه تجديد كامل وشامل لجمعه بين هذه المعاني كلها المذكورة في هذه الأحاديث النبوية الشريفة.
وللإجابة عن كل قضايا هذا التجديد الكامل والشامل اكتشف الإمام المنهاج النبوي وعرضه باعتباره علما قائدا لعملية التجديد هذه.
وهنا لابد من التمييز بين مستويين في الباب؛ مستوى العلم الذي تقعدت قواعده وفصلت في كل مؤلفات الإمام، ومستوى الفكر الذي يشكل نتاج إعمال هذه القواعد العلمية عند الحاجة الاجتهادية، وفي هذا المستوى يحذر الإمام من الجمود على المنتوج الاجتهادي لما يصبح غير مناسب للزمان والمكان؛ إذ يدعو إلى تحقيق الاجتهاد من حيث هو مطلب منهاجي مستمر الوجود والأثر ومصاحب لحركة مشروع العدل والإحسان دون توقف من خلال إعمال قواعد علم المنهاج النبوي، كما يعتبر الشورى مسألة حياة أو موت في حركة هذا المشروع، فهي عنده نظام في الفكر وتنظيم له قبل أن تكون نظاما للواقع المجتمعي والسياسي والعلائقي العام والخاص وتنظيما له.
فقواعد علم المنهاج النبوي، باعتبارها قائدا لعميلة التجديد الشامل والكامل، من وسائل امتداد الصحبة المجددة عبر الأجيال إلى أفق الخلافة الثانية على منهاج النبوة، ولذلك كان من محاور وصية الوداع وصيته رحمه الله بالمنهاج النبوي لما أوصى بالخصال العشر التي أطال أكثر في تفصيل أمها؛ وهي خصلة "الصحبة والجماعة" في الوصية.
إن الخلط بين المستوى العلمي والمستوى الفكري الاجتهادي في بناء المنهاج النبوي وفي تفعيل مضامينه عامل إرباك شديد في العمل، والأخطر على معاني امتداد الصحبة المجددة وعلى أدوار ووظائف الصحبة المسلكة بعدُ في حركة المشروع، التي من المفروض أن ترعاها القواعد العلمية الدقيقة التي سهر الإمام طيلة حياته الجهادية على صياغتها وترتيبها ترتيبا منهاجيا دقيقا يضمن لها الامتداد في المستقبل إلى الأفق الجهادي الكبير.
-مراحل التجديد عبر تاريخ المسلمين[11].
لكن هذا الامتداد في الزمان إلى الأفق الجهادي الكبير يظهر أكثر لما نقف على التحقيب الذي قرأ من خلاله الإمام مراحل حركة الصحبة المجددة عبر تاريخ المسلمين، وهو تحقيب ينم عن درجة الوعي والعلم بتاريخ المسلمين وبالمستقبل الذي ينتظرهم وبالوسائل الكلية العاملة في كل هذه المراحل وبدور الصحبة والجماعة في كل ذلك.
لم يقف الإمام مع حالات التجديد الجزئية عبر هذا التاريخ، وإن أشار إلى بعضها كلما اقتضت المناسبة ذلك؛ كفترة عمر بن عبد العزيز، وفترة بعض الملوك والأمراء؛ كصلاح الدين الأيوبي ويوسف بن تاشفين، وفي التاريخ المعاصر كتجربة الإمام حسن البنا، رحم الله الجميع، لكنه اعتمد أمر الصحبة وموقعها في حركة الأمة وعلاقتها بالجماعة في رسم مراحل التجديد بما يفتح أفقا جديدا لهذه الحركة، ذلك أنه لا يمكن تجاهل فعل الصحبة وأثرها الجوهري في تاريخ الأمة الحقيقي؛ فكان المعيار عنده في الباب موقع الصحبة وعلاقتها بالجماعة والجهاد البنائي العمراني.
المرحلة الأولى: مرحلة المجاهدة:
عرض، رحمه الله، هذه المراحل في كتاب الإحسان، بجزئيه، وفي سياق عرض دقائق السلوك القلبي والجوارحي العملي الجهادي، حرصا منه على بيان المعنى التجديدي لحركة الصحبة ضمن حركة الخصال العشر انطلاقا من شعب الإيمان، ولرجوع هذه الخصال والشعب إلى الخصلة الأم: الصحبة والجماعة.
هذه المرحلة تغطي ما قبل الإمام عبد القادر الجيلاني، رحمه الله، بعد الانكسار التاريخي، حيث كان المجتمع مشبعا بالإيمان، فكان مريد المقامات السنية العلية في السلوك إلى الله تعال يبحث عنها في مجاهدة نفسه، وبذلك احتل أمر المجاهدة المكانة الأولى عوض الصحبة، فترتبت عليه انزلاقات سلوكية غاية في الخطورة ليس فقط على الفرد بل على الأمة لما توسعت الحياة فيها وتشعبت العلاقات الداخلية والخارجية، ولعل أبرز نماذجها قضية الحلاج الذي قال فيه الشيخ عبد القادر الجيلاني: "لو أدركت الحلاج لأخذت بيده".
لقد كان من الضرورة أن يظهر مجدد جامع يعيد الأمر إلى أصله النبوي في الباب.
  المرحلة الثانية: مرحلة الصحبة والمجاهدة: الإمام عبد القادر الجيلاني.
هذه المرحلة تأسست على التي سبقتها، لذلك ما كان من الإمام عبد القادر الجيلاني، رحمه الله، إلا أن يسهر على تصحيح هذا الاختلال الجوهري بحيث أعاد الصحبة إلى مكانها الأصلي لما أصبح المجتمع يعج بظواهر مرتبطة بمعنى السلوك مربكة لحركته ولعلاقاته.
فالصحبة قبل المجاهدة، ذلك أن القيام بهذه الوظيفة كان الأساس الأكبر الذي سيبنى عليه السلوك إلى الله تعالى، ومن يقف مع كتاب الإمام عبد القادر الجيلاني: "الفتح الرباني"، يكتشف أن هم الرجل كان الدلالة على الله عبر الدليل الحي ومعه مجاهدة النفس.
المرحلة الثالثة: مرحلة الصحبة والشكر: الإمام أبو الحسن الشاذلي.
بعد حوالي قرن من الزمن، سيظهر الإمام أبو الحسن الشاذلي ليقوم بعمل عظيم في تجديد السلوك إلى الله تعالى، ذلك أنه لم يعتبر المجاهدة، كما سادت خلال القرون الستة الأولى وبعد الإمام عبد القادر الجيلاني، أصلا في السلوك؛ بل الأصل هو الصحبة والشكر، حيث يكون قلب المصحوب كسفينة نوح يوصل المريد دون السقوط في فخاخ المجاهدة، ولذلك كان هذا التجديد أساسا عظيما أثر جذريا في مسار الأمة لما تحولت بعده، بالتدريج، جل طرق التربية إلى الطريقة الشاذلية، بل كل الطرق الصحيحة اليوم هي شاذلية الطريقة.
ما ينبغي ملاحظته هنا أن هذا التجديد الكبير الذي كان من أعظم مهام الإمام أبو الحسن الشاذلي، الذي يصفه الإمام المجدد عبد السلام ياسين في كتابه الإحسان ب"شيخ مشايخنا"، الأرضية التي جعلت جل أهل الطرق الصحيحة يشاركون في مقاومة المستعمر بعد.
المرحلة الرابعة: مرحلة الصحبة والجماعة: الإمام عبد السلام ياسين.
من المجاهدة الفردية إلى الصحبة والمجاهدة، ومن هذه إلى الصحبة والشكر، ومن هذه إلى الصحبة والجماعة.
هذه المسيرة المباركة العظيمة في تاريخ الأمة هي قلبها النابض وقطبها الكبير الجامع وعماد حياتها الأصلي الذي تكمله باقي مجهودات الأمة واجتهاداتها في باقي المجالات العلمية والعملية.
نعم، يحتاج بيان هذا إلى بحث موسع وشامل نظرا لأهميته في تاريخ الأمة ومستقبلها، لكن، وبما أن موضوعنا هو امتداد الصحبة في مشروع العدل والإحسان كما جدد ذلك الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، فإن المقام يقتضي التركيز على قضية "الصحبة والجماعة".
أ.من الانفصام إلى الوصال.
اشتغل الرجل بحزم وقوة علمية وعملية على إنجاز الوصال بين الصحبة والجماعة باعتبار الأفق الجهادي الشامل؛ وهو تحرير الأمة وتحرير الإنسانية حتى تتوفر الشروط النفسية والمادية والاجتماعية والسياسية الضرورية لبناء أرضية العبودية لله عبر توفير ظروف الاختيار الحر لكل إنسان في كل مكان.
هذه العملية الوصالية، بين ما افترق منذ ذهاب الخلافة وانتقاض عروة الحكم وتمزق الجماعة وهروب أهل الله إلى الجبال والخلوة ليحافظوا على جوهر الدين، تحتاج إلى اجتهاد علمي كبير ومجهود عملي رصين لن يكون من اليسير على أي عقل لم يتخلص من ثقل الفتنة التاريخي وأثر الاستعمار الشامل الأجنبي إدراكه في صفائه ووضحه.
فالاجتهاد العلمي تجلى في اكتشاف المنهاج النبوي وبناء نظام الخصال العشر من حيث هي خطوات عملية سلوكية تنظم سلوك الفرد والجماعة وأفق بناء الأمة وخدمة الإنسانية، ومن حيث هي المجموع القرآني النبوي؛ أي تجلي الوحي، قرآنا ونبوة، في كليته الجامعة.
وقد كان هذا هم الإمام عبد السلام ياسين في جميع إنتاجاته العلمية وفي كل أنواعها.
أما المجهود العملي فقد تجلى في التجربة التنظيمية التي سهر على قيامها في شخص "جماعة العدل والإحسان" حيث شكلت جميع مراحل تأسيسها انعكاسا جليا لتصوره لعلاقة الصحبة بالجماعة ولوظائف الجماعة المندمجة تماما في الصحبة، فلذلك من اندمج في سلك صحبة الإمام لا يستطيع الانفكاك عن هذا التراث العملي المتجلي في جماعة العدل والإحسان معنى ومبنى وفق قيم المحبة والنصيحة والشورى والطاعة البنائية.
لقد سبقت جماعة العدل والإحسان تنظيمات دعوية كثيرة إلى الوجود، لكن الجديد عند الإمام عبد السلام ياسين هو إنجازه للوصال بين الصحبة والجماعة، فتغير تماما معنى التنظيم إلى وعاء بشري يعكس قيم ومعاني الجماعة النبوية.
ولعلمه التام بأن الصحبة من حيث السلوك الفردي إلى الله تعالى هي صحبة رجل حي، كان لابد أن يؤسس لمعنى عميق ودقيق جسده في وصية الوداع وهي معنى الصحبة في الجماعة.
ذلك أن الجماعة لا وجود لها من دون الصحبة، لأن هذه الأخيرة هي ما يعمرها بحقيقة الإيمان ومعاني الإحسان النبوي، وهو ما يحمي الجماعة من التحول إلى مجرد تنظيم بشري يتبنى أفكارا إسلامية في هذا المجال أو ذاك مهما كانت قوتها وأهميتها، وفي نفس الوقت يعطي للصحبة مجالها الطبيعي لتفعل فعلها الشامل في حياة الأمة والعلاقات الإنسانية.
ب. من الوصال إلى الاندماج.
وبهذا تندمج الجماعة في الصحبة كما اندمجت الصحبة في الذكر؛ فيبدأ التحول التاريخي الذي يعني إعادة بناء الأمة وبعثها من جديد؛ أي بناء الحركة الكلية والشاملة لمشروع العدل والإحسان.
وهذا الاندماج، ونظرا لأهميته في مستقبل حركة مشروع العدل والإحسان بما هو مشروع الأمة، هو ما جعله الإمام مضمون وصية الوداع.
ومن يقف على دقائق عبارات الإمام في الباب الواردة في الوصية، يحصل أن هذا الاندماج يحمل معنيين:
الأول: أن الصحبة المجددة الكاملة ممتدة في الجماعة إلى يوم القيامة بما أن هذه الجماعة هي مشروع الأمة للقيام بوظيفتها التاريخية، وأنه لافكاك بين الصحبة والجماعة.
وهنا يتحمل تنظيم جماعة العدل والإحسان، وأبناء وبنات جماعة العدل والإحسان المسؤولية العظمى في تجسيد هذا المفتاح للتحرر والحرية.
الثاني: أن الصحبة المسلكة لا خيار لها إلا أن تكون ضمن الجماعة المشروع وبانية لها ومقوية لها. لذلك من أعظم وظائف أهل التربية في جماعة العدل والإحسان تحريك كل التنظيم دوما، ومهما كان شكله، ليكون أعظم وسيلة لقيام قيم الصحبة والجماعة على أرض الواقع.
ولذلك، لا مناص لجماعة العدل والإحسان من صناعة هؤلاء الرجال في هذه الفترة العصيبة من حركة الأمة، بل الله يصنع ما يشاء ويفعل ما يريد سبحانه، في انتظار أن يكتمل الوعي بالذات لدى الحركة الإسلامية حتى تدرك أنه لا مستقبل للأمة دون أن يتصدى للتربية والقيادة العامة الربانيون أرباب القلوب على المنهاج النبوي، وساعتها تكون جماعة المسلمين المحتضنة للسلوك العفوي النبوي الجهادي الجماعي على نموذج التجربة الصحابية.
وهنا وليطمئن الجميع، ولأن الله تعالى كاف عبده؛ فكما بالتدرج انتقلت أغلب الطرق من الطريقة القادرية إلى الطريقة الشاذلية، ومع مرور الزمن، ستنتقل أغلب الطرق من الطريقة الشاذلية إلى المنهاج النبوي، إلى الصحبة والجماعة، إلى الصحبة في الجماعة لما تندمج في فهم ووعي وسلوك المؤمنين والمؤمنات الجماعة في الصحبة، وساعتها ستبدأ المرحلة الكبرى في بناء الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
إن مشروع الجماعة في مدرسة المنهاج النبوي يحتاج دوما إلى البحث العميق والدوق الرفيع، وإن الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، قد جعل له أساسا علميا هو المنهاج النبوي، دون أن ننسى أن المنهاج النبوي "هو ذاك الصراط الذي تضع فيه قدميك على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو الصراط المستقيم الذي يلحقك بالذين أنعم الله عليهم، وقص عليك في كتابه نعمته عليهم، وتفضيله إياهم، ونصره دعوتهم. ثم حسن لك رفقتهم"[12]، وهو "السنة التطبيقية العملية النموذجية، التاريخيةُ بعدُ البشرية المتجددة في الزمان والمكان باجتهاد أجيال الإيمان"[13].
هذه محاولة للمساهمة في جمع نقاش عميق تتناثر أطرافه هنا وهناك، ولاشك أن هذا تنبني عليه قواعد عملية، سنرجع إلى كثير منها، بحول الله وقوته، لمعاجلة كثير من الظواهر العلمية والفهمية والسلوكية الخاصة والعامة فتحا لأفق جامع خادم لفعالية الأساس التربوي في مشروع العدل والإحسان للجواب عن أسئلة الدعوة والأمة في حركتها التاريخية وفعاليتها الوجودية.


الموافقات، أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي،  تحقيق عبد الله دراز، ، ص:42، ج1، دار الكتب العلمية،  بيروت، د ت. [1]
[2]  ينظر مجلة قوت القلوب، عدد مزدوج: 5-6، غشت، 2015، ص: 181-182.
[3] تراجع خصلة الصحبة والجماعة في المنهاج النبوي.
[4] يراجع فصل الصحية والجماعة في كتاب الإحسان، ج1.
[5] الإحسان، ج2، ص: 415.
[6] يراجع في الباب فصل (خصلة) الصدق في كتاب الاحسان ج1. ووردت عبارة "صحبة المسلك" في نفس الفصل ص: 347، وقال رحمه الله: "والمصحوب رجل حي سلك المراحل إلى الله وتقرب حتى أحبه الله وجعل قلبه مشكاة ونبراسا وسراجا وَهّاجا. ما يحصل ذلك بإجازة تبركية، ولا بالانضواء تحت جناح عظيم من عظماء الأمة، عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم، قبلةِ القلوب، رحمة العالمين، محبوبِ الرب جل وعلا". (الاحسان، ج1، ص: 247).
[7] الإحسان، ج2، ص: 417.
[8] ينظر الاحسان، ج1، ص: 241-246.
[9] (الاحسان، ج1 ، ص: 116).
[10] (الاحسان ج1 ، ص:247).
[11]  أدعو القارئ الكريم أن يعيد قراءة كتاب الإحسان جاعلا بين عيني بحثه أن هذا الكتاب إنما هو تفصيل لأمر السلوك عبر الخصال العشر بما هو سلوك نبوي جهادي شامل.
[12] ( المنهاج النبوي، ص: 460-461)
[13] (العدل:27)