تفكيك مفهوم التنظيم لصالح معنى الجماعة

تفكيك مفهوم التنظيم لصالح معنى الجماعة
أو مستقبل الحركة الإسلامية من الفكرة الى العلم



تقديم

لايمكن الحديث عن تحول تاريخي أو اي تغيير سياسي دون "ثورة علمية" كاملة، وذلك نجد أن كثيرا من الأحداث ذات القيمة التاريخية لا تستوعب ولا تستثمر في اتجاه ذلك التحول لكون النخبة في المرحلة لا تعيش وضع "الثورة العلمية" (القومة العلمية).
نجد هذه القاعدة متجلية تماما في وضع غالب الحركة الإسلامية اليوم، لذلك كانت من النهايات التي أكدها ما سمي بالربيع العربي نهاية الحركة الإسلامية على صورتها المعاصرة، إذ يمكن القول بأنها صارت (أي الصورة)، في غالبها، مظهرا من مظاهر المجتمع التقليدي، والتي استغرقت حوالي قرن من الزمن عُرف بتحولات جذرية في مجالات الاتصال والتواصل، لذلك يأتي هذا المقال محاولة لفتح آفاق جديدة من الوعي التنظيمي الذي يجب أن تنتقل إليه هذه الحركة وهي تعرض مشاريع التجديد والإصلاح والتغيير.
فحينما نفكك مفهوم التنظيم لصالح معنى الجماعة، فإننا نقترح على الباحثين والممارسين، على السواء، الانتباه الى نتائج علمية وعملية واعدة ضمن استراتيجيات التجديد الشامل، لأن هذا المنحى، فضلا عن أنه سيفتح آفاقا حركية ووعيا تنظيميا لدى العاملين في مجال العمل الاسلامي بكل صوره، وفي مجال العمل المجتمعي والسياسي عموما، فإنه سيقدم أرضية مناسبة لاستثماره في الخروج من المأزق الاجتماعي والسياسي الذي يكبل حركة المجتمعات المسلمة لتقوقعها ضمن صراع وهمي بين التقليد وبين الحداثة وبين أطرهما المرجعية، صراع صنع رموزه الفكرية والإعلامية المتنوعة، وهو خروج عبر تحرر شامل من التقليد والحداثة على السواء دون السقوط في فخ التلفيق والترقيع بينهما لكونه تكريسا للمأزق وتعميقا لتعقيداته التي تُترجم في مجالات عدة إلى صراعات دموية أو انهيارات مجتمعية تبدأ مقدماتها على صور ناعمة في انهيار منظومات القيم والتربية والتعليم والعلاقات والسلوكات الاجتماعية، وفي التمزقات السياسية والفسيفسائية المجتمعية.
والباب لهذا تفعيل معنى الجماعة من حيث هو قيم كلية حاكمة وتنظيم جامع ونظام عمراني أخوي متكامل.
إن معنى الجماعة يقدم اتجاها نقديا جديدا للتجربة الاسلامية المعاصرة التي قدمت مجهودات فكرية كبرى وتضحيات جسيمة لابد من الاستفادة منها، إذ استنفدت هذه التجربة رصيدها التأسيسي الذي غطى حوالي قرن من الزمن، خاصة أن هذه الحركات كان يحمل بعضها، وما زال بعضها الآخر، عبارة "الجماعة" في تسمياتها الرسمية وخطاباتها الداخلية والخارجية، وهو ما يدلل على أنه مفهوم مركزي لكن مع كثافة شديدة من الغموض أفرزت ارتباكات تصورية وعملية في لحظات دقيقة من مسارها، كما أترث على مردوديتها العملية وعلى فاعليتها في الواقع والتاريخ نظرا للقصور العلمي والمعرفي الذي خلفه ذلك الغموض.
فمعنى الجماعة أداة تحليلية وتفسيرية لكل الوقائع التنظيمية في المجتمع المسلم، وفي نفس الوقت كلية بنائية جذرية لإعادة تركيبه وفق استراتيجية إصلاحية تغييرية منتبهة إلى المضمون التاريخي للمرحلة المعيشة ومؤسسة للمضمون السياسي الذي يناسبها استنادا إلى قيمها الجامعة والمجموعة في كلية الوحي باعتباره وحدة موحدة.
فهذا المقال يريد أن يقدم تصورا يقتضي أن تحريك التنظيم وهياكله، أي تنظيم، عبر معنى الجماعة هو الحل الجذري لإعادة بناء واقع الأمة لتحقيق مطالب الحرية والاستقلال والقوة عبر عملية نقدية شاملة لبنيات المجتمع القائم وللعوامل الكبرى المهيمنة عليه، كما يروم هدفا من الأهداف؛ وهو جر النخبة العالمة والمثقفة والقيادة في الحركة الإسلامية إلى نقاش علمي رصين يخرج من دائرة الانطباعية والأحكام والتمتلات المسبقة والساذجة والاعتماد على التقارير الرسمية فقط إلى بناء الخطوات على علم راسخ تُفكك من خلاله فعلها اليومي في البناء الذي تقوقع زمنا طويلا ضمن سيرورة وعي تنظيمي لم يتجاوز صوره التأسيسية التي غلب أفكارا جامدة وهياكل تنظيمية جعلت النظرة جملة في قبضة حركتها اليومية فتحولت بهذا التقوقع إلى عادات حركية وتنظيمية، وإلى مهام ذات سقف سياسي محدود أو مهام ذات صبغة اجتماعية تضامنية دفع الكل التنظيمي إلى الانكماش إلى مجرد كيان اجتماعي ينشط داخل المجتمع بأهداف سياسية محدودة، ومستسلما عن وعي أو من دونه لسلطة تحالف التقليد والاستبداد والتبعية، وهو تحالف تراهن اليوم عناصره على بعضها البعض في المحافظة على نفسها وسلطتها.
لهذا يكون معنى الجماعة قوة علمية دافعة وصانعة ومجددة للفعل اليومي من خلال هياكل التنظيم الذي يجب أن يعكس جملة وتفصيلا قيم الجماعة، إذ لا جهاد عمراني إلا عبر التنظيم في مرحلة  كبرى أولى وعبر نظام في مرحلة كبرى ثانية، تلك القيم التي سمحت بساطة المجتمع زمن النبوة والخلافة الراشدة وعدم تعقد واقعها الهيكلي والتنظيمي بوضوحها الكامل وبسرعة هيمنتها على كل تفاصيل الفكر والنفس والمشاعر والأعمال اليومية والعلاقات الخاصة والعامة، ولاشك أن تلك القيم التي استطاعت تفكيك نظام الولاء العنيف والحاد، الذي كان مترجما في حروب دموية ضارية ودائمة وفي تقوقع قبلي مقيت، ستكون لها القدرة بالأحرى على تفكيك هذا التحالف الثلاثي، تحالف التقليد والاستبداد والتبعية، مهما كانت قوته المعنوية والمادية، ذلك أن مستقبل الحرية رهن بالتحرر الكامل منه ومن عناصره.
ويلاحظ أنه على الرغم من قصر فترة النبوة والخلافة الأولى فقد امتد أثر رصيد معنى الجماعة وقيمها في حياة الأمة قرونا من الزمن حتى اكتشف الغرب "الرجل المريض" فاتجه بسرعة قياسية إلى تمزيقه والعمل على اختراقه في كل ميادين حياته لما وصل غياب تنظيم قيم الجماعة في بنياته ذروته، إذ كان عبارة عن مجتمع تقليدي ساكن إلا من بعض النبضات العلمية والعملية الضامنة له الحياة فقط دون الفاعلية المطلوبة التي ظهرت أهميتها مع مقاومات الاستعمار التي لم تتطور بعامل تغرب النخبة الحاكمة والمهيمنة على دواليب الدولة ومصادر التأثير التربوية والتعليمية والثقافية وغيرها بعد "الاستقلال السياسي" وإقصاء التوجه الإسلامي باكرا بعد هذا الاستقلال.
إن الصراعات الهامشية، وكذلك الوهمية، التي تغطي حركة المجتمعات المسلمة اليوم لا تخرج عن دائرة العجز في تفعيل معنى الجماعة الذي حافظ على كيان هذه المجتمعات رغم الأزمات الكبرى التي تعرضت لها قروننا من الزمن، لذلك فالصمود الذي أظهره معنى الجماعة وقيمها، رغم الانقلاب الأموي المبكر عليه والذي فتح الباب لقيم متعارضة مع ماهية الجماعة في صور كل العصبيات المذهبية والطائفية والإثنية وغيرها، يدلل على عظمة هذا المعنى وهذه القيم التي تصلح، بهذا الاعتبار على الأقل، أن تكون أرض النهضة الجديدة والدورة التاريخية الكبرى لهذه المجتمعات ولأمتها.
وقصد بيان هذا نعرض لمعنى الجماعة ولقيمته النقدية والبنائية الجذرية من خلال المحاور التالية:
الأول: معنى الجماعة وبنية التنظيم.
الثاني: معنى الجماعة والحرية والتعدد التنظيمي.
الثالث: الصحبة والجماعة.
الرابع: معنى الجماعة وبنية المجتمع التقليدي.
الخامس: معنى الجماعة ونظريات علم الاجتماع الغربي.

1.معنى الجماعة وبنية التنظيم

تشكل تنظيمات الحركة الإسلامية اليوم مقدمة فكرية وحركية لمعنى الجماعة الذي يتوج في مرحلة التحرر بالتأسيس لنظام مجتمعي متكامل، ولذلك، فكلما اضمحلت معاني الجماعة في التنظيم كلما اضمحل جسمه وضاق بأهله وانحدرت آفاقه وسقوف مطالبه، وتصير هذه الحالة المرضية خطيرة لما يصبح معها التنظيم في حاجة الى خارجه ليزود بشراب الدواء وحقن العلاج قبل فوات الأوان، وهو الوضع الذي نبه إليه الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، جماعة "الاخوان المسلمون" لما ذكرها بضرورة البحث عن رجل مصحوب ولو من خارج الجماعة لما جعلت إرث الامام حسن البنا، رحمه الله، مجدد القرن الهجري الرابع عشر، موضوع تبرك فقط، وهذه الحالة المرضية تكون مميتة لجسم التنظيم لما لا يتوفر ابتداء لدى رجاله هذا الوعي حيث تصبح حركته مجرد استهلاك للرصيد المتبقي من رصيد التأسيس عوض اعتماد عوامل التجديد وضمان تفعيلها المستمر، وهو وضع أغلب الحركات الاسلامية المعاصرة اليوم، لذلك نجد الإمام عبد السلام ياسين من خلال تجربة العلمية والعملية أسس لكل عوامل التجديد والتجدد بواسطة حركة الخصال العشر الصاعدة، والتي سنعرج عليها في فقرة "معنى الجماعة والحرية والتعدد التنظيمي"، كما تجسد في ما يمكن تسميته تجاوزا ب"الفلسفة التنظيمية" في بناء التنظيم وعلاقات هياكله وفي تفعيلها.
إن معنى الجماعة يفرض على العضو بشكل عفوي، ومن ثمة على كل المؤسسة التنظيمية التي ينتمي إليها، تجاوز منطق الأداء البسيط للمهام المرحلية حتى لا تسقط في فخ العادة التنظيمية ومتاهة المنطق السياسي الحاكم للمرحلة، إلى معنى العبادة الضامن وحده منع التنظيم من الانكماش والتقوقع وتعقد أوضاعه الهيكلية والحركية؛ وبذلك يُزوَّد الفعل التنظيمي بقوة هائلة تمكن من اختراق الواقع وفتح آفاق عريضة وواضحة، حيث تصير ماهية الفعل وجوهره ثمرة المصير المندمج الذي لا يتحصل إلا عبر التربية الإيمانية الإحسانية الجامع اندماجا بين مصير الفرد العامل عند الله تعالى وبين مصير أمته التاريخي الذي ارتبط به مصير الإنسانية، الأمر الذي يجعل الفعل التنظيمي، مهما كان حجمه صغيرا، لبنة عمرانية تستمد عظمتها من هذا المعنى الغائي الموجه للفاعل التنظيمي، وهو ما يجعل، كذلك، التراتبية التنظيمية، سواء داخل التنظيم الواحد أو داخل بنية المجتمع الهيكلية، وظيفية بنائية وتحمل في بنيتها كل عوامل التجديد والتجدد، وليست غاية حركية عند الأعضاء، لأنها إن صارت كذلك انقلبت حركة التنظيم رأسا على عقب فتفقد قيمتها التاريخية العمرانية، ذلك أن الأداة التي يتضمنها معنى الجماعة في تحريك مواقع التراتبية والمسؤولية داخل التنظيمات وفي بنية المجتمع هي قيمة الشورى والتنافس على الخيرات والتسابق في الخيرات لا منطق التنازع والصراع على المواقع والتآمر على المنكر والتوافق على المصالح الضيقة وجعل المجتمع عبارة عن فضاء تزاحم هذه المصالح وليس خدمة عامة للمصالح العامة.
فالتنظيم عبارة عن تفاعلات حركية يومية ذات أبعاد داخلية وخارجية، أفقيا وعموديا، ومعنى الجماعة هو من يزوده بالقيم الضامنة لاستمرار حركته واستمرار تجددها وإعطاء تلك التفاعلات معنى ممتدا في الزمن ومستغرقا لتفاصيل السلوك فيه ولمستجداته، إذ الجماعة هي الأداة الوحيدة القادرة على تقديم الوحي، قرآنا ونبوة، كلية واحدة موحَّدة وموحِّدة لتحريك كل بنيات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من البنيات الكبرى والصغرى،  في تناسق وتناغم وتكامل يضمن مشاركة الجميع في الحياة العامة بإرادة لا تروم النفع الشخصي الأناني الاستكباري، بل تنشد النفع العام الذي لاشك له عائد مباشر على الأفراد الذين يجعلهم معنى الجماعة متميزين بسمو الغاية ووضوحها وتعلق القلب بالله لا بالعائد المباشر، وهو ما يجعل نظام الجماعة، لما ينظم حركة المجتمع، في خدمة الكل الإنساني من خلال خدمة المستضعفين.
أما حينما يصبح التنظيم بنية هيكلية مغلقة يفقد مع مرور الزمن فاعلية أهم محركين جامعين، هما أهل القلوب العامرة بعلم الرحمة، وأهل العقول المتحركة بنور الحكمة التي يجعلها نظام الجماعة مجرد تجل فاعل لعلم الرحمة، وبذلك يفقد مصدر القيم العظمى والأفكار الكبرى التي تفتح آفاق الفعل والعمل وتخترق الحجب الموضوعية الراهنة لتصور ماهية العقبات المانعة من العمران وماهية الوسائل العلمية والعملية الكلية والفرعية المنجزة لمهامه ومراحله على وضوح شامل، وهي الظاهرة، أي فقد مصدر القيم العظمى والأفكار الكبرى، التي حافظ عليها المجتمع التقليدي وكرسها الاستبداد القروني وعمقها الاستعمار وتوابعه.
فاعتماد "تفكيك مفهوم التنظيم" لدى الحركة الإسلامية هنا لا يعني الاستغناء عن التنظيم، إذ لا عمل بنائي دون تنظيم ونظام، لكن المقصود إزاحة هيمنته على المشاعر والأفكار والأفعال والسلوكات الفردية والعامة حتى لايصبح هو سقفها ومرجعها الأصلي وغايتها والحاكم عليها. فيكون التفكيك، بهذا المضمون، كشف محدودية التنظيم ومرحليته من خلال إخضاع بنياته كليا لمعنى الجماعة حتى يضمن القدرة والقوة على الفعل والحركة التي تكون مجهدة لما تكون صاعدة مما يجعلها دوما في حاجة إلى قوة الدفع.
إن التفكيك بهذا المضمون لمفهوم التنظيم يسمح بتجاوز هذا الأخير شعوريا كقوقعة حاجبة للإرادة الكبرى في السلوك الجماعي إلى الانخراط الكلي في معنى الجماعة الذي لا يتحقق إلا عبر التربية الإيمانية الإحسانية المتكاملة، التي صنعت نموذج الصحابة في الإرادة والعلم والفهم والسلوك، وهي قيم إحسانية، بالمعنى القرآني النبوي الشامل للإحسان، لها وحدها القدرة على تحريك التنظيم وهياكله وفق روح تجديدية لا تتوقف عن الإبداع والبذل والعطاء بلا حدود، كما لا تتوقف عن اختراق الواقع بشكل عجيب لا تستطيع رصده المناهج الحديثة المهيمنة اليوم إلا من زوايا محدودة وضيقة، لذلك من ميزات بناء حركة التنظيم على معنى الجماعة وقيمها أنه لا يستند أبدا على العقلية التبريرية في بناء مواقفه وتقييم نتائجه وتفعيل مضامنه؛ بل يصنعها ويعرضها وفق أسس علمية وعقلية ناقدة وإرادة منفذة وصاعدة.
فهذه الصورة من التفكيك تجعل العضو فاعلا في التنظيم من داخل بنياته، لكنه غير مسجون ضمن قوقعته شعوريا وإراديا حتى يكون مالكا للقدرة على الدفع بحركة التنظيم وكأنه من خارجها لكنه مندمج كليا في ببنياتها ومنفتح على محيطه عبر عملية تواصلية تفاعلية بنائية دون تلفيق أو توافقات مغشوشة أو تبادل لمصالح خاصة، ولاشك أن مستويات التحصيل من هذا تختلف من فرد لآخر بحسب رزقه من ثمار التربية الإيمانية الإحسانية على نموذج الصحابة، لذلك فاختزال معنى الجماعة في بنية تنظيمية مرحلية انقلاب كلي على أعظم أداة في تنفيذ المشروع القرآني النبوي، وهي الجماعة، المؤهلة وحدها إلى تحويله إلى أنظمة قائمة على أرض الواقع، إذ مع مرور الأيام يجعل هذا الاختزال التنظيم مزرعة لنخبة من المسؤولين يتواطؤون عبر منطق تبريري على أوضاع متعارضة مع معنى الجماعة ولو بحسن نية، وهو مقتضى رفض معنى الجماعة للقيادة الجماعية لأنها صورة ناعمة من "الديكتاتورية" التي تتعارض معه جوهريا ومرفوضة جملة وتفصيلا من جهته، اي من جهة معنى الجماعة، لذلك نجد الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، في مناسبات عدة ينبه إلى خطورة القيادة الجماعية ويسمح بها فقط في حالة أن تكون الجماعة على صورة رابطة من التنظيمات الإسلامية التي تحافظ على استقلاليتها التنظيمية في مرحلة انتقالية في انتظار وصول الوعي التنظيمي في مرحلة قادمة لدى الجميع على أن نظام الجماعة في حالته الطبيعية لا يقبل إلا قيادة واحدة جامعة في سياق هيمنة قيم الاحسان والشورى على جميع الحركة، وهي وضعية عفوية في مرحلة استقرار نظام الشورى والعدل في واقع الأمة. (يراجع كتاب "جامعة المسلمين ورابطتها" من تأليف الإمام عبد السلام ياسين).
    ومن مقتضيات رفض هذا الاختزال أن هيمنة رجل التنظيم على رعاية معنى الجماعة حجب مباشر لقيمها العليا لكونه محكوما عمليا ويوميا بالمهام التنظيمية وبأهدافها، وبنفس الخطورة لما يهمين على معنى الجماعة الساهر على صناعة الموقف السياسي المناسب للمرحلة والدفاع عنه، إذ يحرص على تحريك الكل ليبقى محكوما بسقف هذا الجزء الذي هو موقف سياسي لحظي، وفي كلتا الحالتين إنما الأمر تكريس لواقع المجتمع التقليدي وهيمنة الاستبداد القائم فيه، لذلك يحتاج التنظيم إلى مأسسة قوية وواضحة لمواقع أهل القلوب الرحيمة وأهل العقول الحكيمة باعتبارهم رعاة وحماة معنى الجماعة والمؤهلون للحفاظ على وضوح آفاقه وسريان قيمه الإحسانية في تفاصيل الهياكل والمواقف والسلوكات الخاصة والعامة، ولهذا فالانغلاق في بنية تنظيمية واعتبارها سقف الولاء الذي يحتضنه معنى الجماعة يفضي حتما إلى ضيق النظرة العامة ومحدودية الأفق خاصة إذا كان الضغط الخارجي شديدا، وقد يؤدي بالبعض إلى ردود فعل عنيفة ماديا أو رمزيا، ليبقى معنى الجماعة وحده القادر على فتح الآفاق العريضة في الفكر والفعل وامتصاص الضغط الخارجي والابتعاد عن ردود الفعل، لأن قيم الجماعة وحدها القادرة على تزويد التنظيم بالقوة التي لا تقهر وبالوضوح في الرؤية الذي لا يخبو والكاشف لتفاصيل أدق المنعرجات في أدق اللحظات، كما أن سيادة قيم الجماعة يجعل معنى الولاء متصاعدا داخل المجتمع ومستوعبا لكل مكوناته، ويجعل من التنظيمات خادمة للمستقبل لتحركها نحو الغاية الجامعة بعامل وضوح اتجاه حركة معنى الجماعة.