نهاية النقابية التقليدية

نهاية النقابية التقليدية

من الفعل النقابي إلى النهوض المجتمعي

مبارك الموساوي


1.مقدمة

يفرض الرصيد التاريخي، خلال القرون الثلاثة الأخيرة، على النقابة ضغطا شديدا يحول بينها وبين إبداع مخرج حقيقي من الأزمة التي يعيشها العمل النقابي بين يدي تحولات عميقة في عالم الاتصال والتواصل، وفي نظام العمل، وفي بنياته المادية والقانونية والإنسانية وفي ومهامه الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى تقوقع الفعل النقابي إلى حد العجز عن اتخاذ المبادرة في كثير من المناسبات، بل في إعادة السؤال حول ماهية وجوده.

لقد كان من أهم نتائج ما سمي بالربيع العربي خلا العشرية الثانية من القرن  الواحد والعشرين الكشف عن العجز الرهيب الضارب في جسم النقابة، ومن ثمة في مفهوم النقابية الذي تستند عليه في وجودها، وفي حركتها، وفي تحديد أساليب عملها واستراتيجياته، وفي بنائها التنظيمي والهيكلي، وفي تحديد ماهية القيادة النقابية.

هذا العجز الممتد إلى حد إرباك العلاقة مع باقي الأطراف المعنية بمجال اشتغال النقابة (الدولة – الأحزاب- أرباب العمل – المكونات المجتمعية....) فقدت معه، النقابة، القدرة على القيام بمهامها المنوطة بها في المرحلة، بل ظهر ارتباك شديد في تحديد هذه المهام؛ هل يحظى فيها الاجتماعي بالأولوية أم السياسي أم الاقتصادي أم ماذا، بل ماهو الجواب عن سؤال الذات النقابية؟

لذلك تدعو المرحلة بكل معطياتها عدم التفريط في مكتسب النقابة، باعتبارها قوة مجتمعية، مع ضرورة اكتشاف معنى جديد مناسب للنقابية يضمن تفعيلها (النقابة) في سياق التحولات العميقة في مجالات المعرفة والتواصل والتنظيم والإدارة.

2.أهم عوامل عجز النقابة التقليدية ومظاهره.

يشكل انحصار النقابة اليوم في سياق تاريخي، كان محكوما بعوامل ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية وديموغرافية بشرية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ميلاديين، أهم عوامل انكماشها ثم تقوقعها ثم فقد توازن حركتها في سياق التغيرات الجوهرية والمتسارعة التي عرفها القرن الواحد والعشرين، كما كان عامل ارتهانها (النقابة) إلى بنية تنظيمية مسنودة إلى مفهوم طبقي فئوي، وإلى تصورات غلب عليها في عالمنا العربي والإسلامي المفاهيم الثورية اليسارية المسجونة في متاهات الصراع الطبقي، فضيعت فرص انسجام تموقعها مع مراحل التطور التاريخي والمجتمعي.

لقد ساهمت هذه العوامل في تكريس بناء تنظيمي هيمن على توجيه الفعل النقابي دون أن يفتح له آفاق الإبداع لتحقيق التكامل المجتمعي بين قواه، الأمر الذي كرس وعيا تنظيميا منغلقا كانت من أخطر نتائجه فرض نظام قيادة مركزي، في الغالب الأعم، أدى إلى تفتت الإرادة العامة للقاعدة النقابية، مما أفقد النقابة مصدر قوتها الحقيقي؛ وهو وحدة القاعدة وإن تعددت بنياتها الهيكلية افقيا وعموديا.

لذلك، ففقد قوة التنظيم القاعدي وتجسيد إرادته على مستوى القيادة أدى إلى ضعف النقابة وجلب حالة التمرد عليها، التي برزت خلال أواخر العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين على شكل تنظيمات فئوية فاقدة لأي شكل من أشكال التنسيق الضامن للقوة التنوع وتنوع القوة.

أما أهم مظاهر عجز النقابة التقليدية فتجلت خلال ما سمي بالربيع العربي؛ إذ لم يكن لها الدور الهام المنوط بها في تفعيل مضامين الحراك، والمساهمة في تصحيح أهدافه في الوقت المناسب وتدقيق آفاقه الاجتماعية، وكذا المساهمة القوية في تمريض المراحل الانتقالية تفاديا للانهيارات الاجتماعية التي ضربت عددا من المجتمعات ولا زال العديد منها يرزح تحت آلامها ومعاناتها الشاملة.

لا يمكن تحميل النقابة أكثر من واجبها، لكن الواضح أنها كانت غاية في التخلف عن اللحظة التاريخية التي عاشتها المجتمعات في هذه المرحلة، وقد كان أكبر مظهر يتجلى في غياب الجواب الاجتماعي عن السؤال الاجتماعي الذي كان هو مجال اشتغال النقابة خلال العقود الثلاثة السابقة وكان السؤال الملح بعد الحراك، مما أدى إلى فشل الإدارة السياسية لمرحلة ما بعد حراك ماسمي بالربيع العربي، إذ كان الاجتماعي هو الامتحان العويص والمعقد في هذه الرمحلة.

فبعد حوالي عقد من الزمن على هذا الحراك ظهر العجز المطلق للنقابة القائمة، ليس فقط في أبعادها التنظيمية وكفاءتها القيادية في إدارة المرحلة من موقعها، وإنما في عجز مفهوم النقابية الذي يؤطرها عن توفير المضامين المعرفية القادرة على استيعاب المضمون التاريخي لهذه المرحلة وفتح آفاق حركية شاملة للتحرر، لذلك لا يتعلق السؤال اليوم بالنقابة فقط بقدر ما يتعلق بالنقابية باعتبارها إطارا مرجعيا يستمد مضامينه من ماهية المشروع المجتمعي كأساس معرفي وليس فقط برنامجا سياسيا قد يهتم بالجانب الاجتماعي أو لا يهتم.

3.من الفعل النقابي إلى النهوض المجتمعي

لا تعني الحاجة الملحة للنهوض المجتمعي اليوم على أساس اللحمة الاجتماعية نفيا لدور النقابة، وإنما لتأكيده وإعادة بناء فعلها في سياق تجديدي يرفع من أهمية النهوض المجتمعي الشامل في تحديد ذلك الدور مضمونا وأهدافا ووسائل؛ أي اكتشاف المشروع المجتمعي وبناء أرضيته الاجتماعية التي ينطلق منها الفعل النقابي وتتأسس عليها النقابة باعتبارها أرضية صلبة، وهو ما يفرض وعيا تنظيميا مناسبا للمرحلة تكون أهم معالمه استثمار الثورة التواصلية بما يضمن الفاعلية عموديا وأفقيا، ويساهم في تقوية التنظيم القاعدي وفاعلية القيادة المجسدة حقيقة لإرادة القاعدة.

فالنهوض المجتمعي هو أهم مهام القوة المجتمعية التي تفرز قيادتها الحقيقية وفق صيورة حراكية لا تؤمن بتزاحم المطالب الاجتماعية والسياسية، لكنها تتحرك وفق أولويات تطلبها المرحلة خارج تزاحم الإرادات، إردات الأطراف المجتمعية والسياسية،  بل بتكاملها على وضوح يستثمر اللحمة الاجتماعية، التي تحتل الأولوية القصوى في البناء، لتدقيق المطالب والأهداف السياسة المرحلية والاستراتيجية وتمريض المراحل الانتقالية التي يجب أن تكون النقابة بهذا المعنى التجديدي قطب رحى القيادة المجتمعية.

ومن مقتضيات هذا التجديد العمل على إعادة تعريف مفاهيم العمل النقابي وإعادة بناء مدلولاته القانونية في سياق تفرضه القوة المجتمعية التي تقوم بإعادة ترتيب مواقع القوى المجتمعية والسياسية وفق مهامها الطبيعية.

فقد كان من أخطاء الماضي جعل النقابة في موقع مجتمعي وسياسي لم يعد مناسبا للمرحلة القائمة اليوم تماما، لذلك يقتضي اعتبار المشروع المجتمعي كأساس معرفي إعادة النظر في مفهوم القوة العاملة نظرا للتحولات الجذرية والعميقة والسريعة التي تحدث في بنيات المجتمعات، ومنه إعادة النظر في ساعات العمل، حيث تم تحديد ثمان ساعات في ظروف القرن الثامن عشر وإنسان القرن الثامن عشر، وفي مواقع العمل الفاعلة والمنتجة، وفي الأنظمة الاجتماعية، وفي علاقة كل ذلك بالتنمية الشاملة التي تحقق القوة والتحرر والعدل السياسي والاجتماعي.

إن المشروع المجتمعي الكفيل بتحقيق هذه الأهداف هو الذي يجعل من السياسي خادما للمجتمعي، ومن الاجتماعي لحمة تحمي من الانهيارات المتنوعة وتضمن التنمية واستمرارها، وهو ما يعني أن النقابة ليست مجرد وعاء مطلبي لفئة أو فئات، وإنما تنظم هذا في سياق القيام بالواجب المجتمعي لتحقيق تلك الأهداف: القوة والتحرر والعدل السياسي والاجتماعي.

أما المشروع المجتمعي فيفقد صفة الأساس المعرفي إذا لم يصدر عن منظومة أخلاقية وقيمية جامعة لأطراف المجتمع ومنظمة لعلاقاتهم الداخلية والخارجية، وهو بذلك يمنح النقابة الصادرة عنه شرعية الوجود وشرعية الفعل، ويخرجها من الدور التقليدي المحدد في مفاهيم "النضال" التقليدية إلى سعة المشاركة والمساهمة المجتمعيين للقيام بالمهام الحاسمة لصالح  تحقيق العدل الاجتماعي والتحرر السياسي، وبذلك لا يكون الاحتفال بعيد العمال مجرد رفع مطالب فئوية خاصة هي مضمون العقد النقابي بين القاعدة النقابية والقيادة النقابية، وإنما يكون لحظة الاحتفال بدرجة النهوض المجتمعي المحقق والتأسيس لأرضية هذا النهوض على المدى القريب والبعيد وفق روح نقدية صارمة لا تتهاون في تفكيك الواقع والعمل على إعادة تركيبه بما يخدم تحقيق أهداف: القوة والتحرر والعدل السياسي والاجتماعي.

وفي الختام إن بناء مفهوم جديد للنقابية، يحقق فاعلية جديدة للنقابة اليوم، يقتضي تجاوزا حتميا لمفاهيم القيادة القابضة على النقابة، كما يقتضي وعيا تنظيميا جديدا يستثمر واقع التحولات في مجالات المعرفة والتواصل ويتجه إلى نقل إرادة القاعدة النقابية نقلا حاسما في تحديد ماهية ونوع القيادة المؤهلة لإدارة المرحلة في بعدها السياسي والتاريخي من موقعها الطبيعي في حركة المجتمع، وبذلك يمكن أن تنبعث النقابة من بين ركام حالة العجز الذي تعيشه إلى مواقع القوة التي تمكنها من القيام بمهامها المنوطة بها اتجاه العامل ومنظومة العمل واتجاه المجتمع ولحكمته الاجتماعية التي تشكل الأرضية الصلبة للفعل السياسي الجامع.

مراكش في 25 رمضان 1443هـ الموافق ل27 ابريل 2022.