الخيار الثالث للعمل الاسلامي


الخيار الثالث للعمل الاسلامي
محورية التؤدة في بناء التفكير والفكر السياسيين 
والحركيين في مشروع العدل والإحسان


1.تقديم

تعد التجربة الإسلامية في العمل السياسي خلال القرن الخامس عشر هجري من أبرز مواضيع وقضايا الفكر والمؤسسات البحثية والدراسات الأمنية والاستراتيجية في العالم الإسلامي والغربي، وذلك راجع إلى الموقع الذي احتلته في الحياة اليومية الخاصة والعامة في المجتمعات المسلمة، وإلى حجم التأثير الذي أوجدته في الواقع والعلاقات الدوليين، وقد اشتغل أبناء الحركة الإسلامية، ممارسة ودراسة، على رصيد هذه التجربة، لكن منتوج الحركة في الجانب السياسي العملي لا يرقى إلى تاريخها الطويل في العمل الميداني، ولا إلى رصيدها من التضحيات، ولا إلى ماهية الرسالة التي وجدت لأجلها، بل في بعض الحالات كان عكس مرادها ومقاصدها، مع استثناء المقاومة الإسلامية ضد الكيان الصهيوني في فلسطين.

فهل ذلك راجع إلى كون الحركة الإسلامية، تصوريا وعمليا، لم تتخلص من الثنائية المهيمنة على الفعل السياسي؛ إما ثورية أو إصلاحية، ومن ثنائية النظام السياسي؛ لبرالية أو اشتراكية، وهو ما لم يجعلها تنفتح بشكل دقيق على خيار ثالث في العمل السياسي والمجتمعي يناسب المجتمعات المسلمة التي جُربت فيها هذه الثنائيات بطريقة أو بأخرى؟

لكن لاينكر المرء تصدي كثير من الباحثين والمفكرين والعلماء لقضية النهضة في عالمنا العربي والإسلامي، فعرضوا تصورات تشترك كلها في بحث ماهية العلاقة مع تراث الأمة وماهية التراث نفسه ومناهج التعامل والتفاعل معه، لكن السؤال يبقى معروضا لكون اللحظة المعيشة بعد هذه الاجتهادات لحظة الانهيار الكبير؛ سياسيا ومجتمعيا، وسيادة العنف الشامل في العلاقات الخاصة والعامة، وسيادة التمزق المعرفي والعلمي الذي أذهب قيمة التنوع وأهميتها في إبداع المخرج الجامع وتفعيل الحياة المجتمعية والسياسية إيجابيا بما يمكن من تطورها ونموها وازدهارها، خاصة بعد هيمنة القتال العنيف والمقيت بين أبناء الأمة الواحدة وداخل المجتمع الواحد.

فهل أخفق المسلمون بعد الخروج من فترة الاستعمار المباشر في اكتشاف الخط السياسي الذي يفضي بهم إلى النهوض الحقيقي والقيام الشامل وبناء أنظمة سياسية حرة وقوية ومستقلة وعادلة؟

2.في نقد الخيار الثوري.

كان الخيار الثوري رد فعل مباشر على الدولة الاستبدادية التي عوضت مقيمي الاستعمار، وقد تغولت إلى صورة أخطبوطية متحكمة في كل مفاصل الحياة الفردية والجماعية،  وإذا تم استثناء الثورة الإيرانية عام 1979 لاعتبارات خاصة بسياقها التاريخي، لم يصل الإسلاميون إلى الحكم مع ضمان استقراره، لكن ما يمكن تأكيده أن هذه الثورة التي تدحرجت إلى العنف العسكري في معالجة قضاياها الداخلية والخارجية، خاصة بعد أن أفرز ما سمي بالربيع العربي قيادة الحركة الإسلامية السنية للعمل السياسي والدولة في كثير من المجتمعات (مصر وسوريا وغيرهما)، لم تقدم النموذج المتكامل للخيار الثوري المناسب للواقع الإسلامي، عموما، الذي يخلص الأمة من الاستبداد القروني والوراثي، بل إن نزعتها التأرية العميقة في نفس أغلب الإنسان الشيعي لم تسمح بأن تكون هذه الثورة للجميع كما كان شعارها الذي تفاعلت معه بالإيجاب أغلب قيادات العمل الإسلامي السني حينها، على الرغم مما تعرض له العلماء السنة من اضطهاد منذ بدايات الثورة.

ومازاد هذه الثورة انتكاسا كونها سقطت بعد ما سمي بالربيع العربي في مستنقع حرب من جهة مدافعة عن استبداد نظام قهر شعبه قهرا فظيعا، ومن جهة اعتمادها على طائفية ثأرية ظهرت سلبيتها في اليمن وسوريا والعراق على صورة بشعة.

لقد ارتبط الخيار الثوري في عالمنا العربي والإسلامي بالنزعة الثأرية الانتقامية سواء مع اليسار أو غيره، لذلك لم يستطع أن يتخلص من العنف كوسيلة لتحقيق الأهداف الثورية، ومن منطق الحسم الثوري العنيف مع الخصوم السياسيين والمعارضين، ومن تصور الأداة السياسية والمجتمعية لإنجاز الثورة (مفهوم الحزب الثوري أوالتنظيم الثوري)، وهو ما نتج عنه سيادة العنف في الممارسة السياسية، حيث أصبحت العملية السياسية في هذه الحالة بين عنف السلطة الشامل وعنف الخيار الثوري في الفهم والممارسة، مما أدى إلى تقهقر هذه العملية وانحصارها الكامل، الأمر الذي دفع كثيرا من أقطاب الخيار الثوري إلى التحول إلى أقطاب للخيار الإصلاحي عبر ما سمي بالنضال الديموقراطي في كثير من البلاد العربية والإسلامية.

ونفس هذه القاعدة انطبقت على جل التجربة الإسلامية، إذ إما سجنت نفسها في استراتيجيات الخيار الثوري على صورة غامضة أدت إلى انحصار عملها السياسي وحتى الميداني في كثير من المواقع، وإما تحولت كليا إلى تبني الخيار الإصلاحي هروبا من دائرة العنف والعنف المضاد، وخروجا من نفق الغموض والخوف، وهو ما تبين مع مرور السنوات أنه مجرد وهم مضاف إلى الوهم الثوري بمعناه التقليدي.

فالشاهد عندنا هنا أن ارتباط الخيار الثوري بالعنف، طوعا أو كرها، لم يجعل منه وسيلة تحرير الشعوب ودفع الاقتتال الداخلي والخارجي عنها، الأمر الذي جعل من أول فرصة تاريخية (المسماة بالربيع العربي منذ سنة 2011 ميلادية) فرصة الانتكاس إلى الغموض الكثيف والعنف الشامل، ومن ثمة الخوف البالغ من مجرد هواجس التغيير، خاصة أن هذه الفرصة كانت مناسبة تعبير جدية عن الإرادة الحية لدى الشعوب على الرغم من عقود القمع الاستبدادي والمسخ القروني والاستعماري، إذ ظهرت معها حقيقة أن الإرادة الشعبية وحدها الكفيلة بإحباط المخططات الاستخبارية الخارجية والداخلية، وأنها وحدها القاعدة الصلبة لإنجاز أهم مراحل التغيير.

لذلك السؤال: هل لم يبق أمامنا إلا الخيار الإصلاحي، ومن ثمة الاستسلام الكبير لقواعد النظام السياسي الكلية والعمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه في ظلها خوفا من السقوط في مستنقع العنف الذي لا ينفصل عن الثورة وخياراتها وسوابقها ولواحقها؟

3. في نقد الخيار الإصلاحي.

الخيار الإصلاحي في مجمل ممارسته عمل وفق القواعد المهيمنة على الحياة السياسية والمجتمعية ضمن استراتيجية إصلاحية تراهن على إصلاح ما يمكن إصلاحه من البنية المجتمعية والسياسية والفكرية والثقافية.

ودون الدخول في متاهات التجارب الإصلاحية التي عرفها عالمنا العربي والإسلامي، فما يمكن تأكيده أننا لم نجد أنفسنا أمام تجربة متكاملة تستحق أن تكون أنموذجا، بل العكس أن أغلب التجارب لما تعرضت لهزات داخلية أو خارجية تبينت هشاشتها، ذلك أن الليبراليين واليساريين والوسط يعانون من الضعف الجماهيري، في حين أن الإسلاميين، على العموم، يفتقرون إلى تصورات وبرامج واضحة ومكتملة تتعلق بالأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والمالية، فضلا عن القصور الكبير في مستوى النظرية السياسية التي تؤطر أعمالهم اليومية بعد الاستراتيجية، وهو ما كشفته يوميات تعاملهم مع الحكم ومعارضته سواء قبل ما سمي بالربيع العربي أو بعده.

لقد شكلت التجربة الإصلاحية في عالمنا العربي والإسلامي مبادرات جزئية أمام كلية أنظمة سياسية استبدادية؛ سواء كانت جمهورية أو وراثية، وهو ما جعل هذه المبادرات مجرد محاولات يائسة غالبا ما تنشق على نفسها بعامل الغموض في استراتيجياتها أو بعامل ضغط الأنظمة السياسية التي تتوفر على خبرة طويلة في الترويض والاحتواء والاختراق والتدجين، كما أن رهان الخيار الإصلاحي على الحزب محورا في عمله قوض من وظيفته المجتمعية، ذلك أن التجربة الحزبية صنعت نخبا ضيقة الأفق، تجلى ذلك في فقدها، مع مرور الزمن، أطرها المفكرة والعالمة والمثقفة، مما حرمها من أداة كلية في العمل السياسي والمجتمعي، وحولها إلى مجرد نخب محترفة للساسة تتصارع، وقد تتقاتل، على الكراسي والمناصب، وقد تتحالف تحالفات هشة تنكسر شوكتها عند أول منعرج مهما كانت درجة تعقده متدنية.

ثم إن الخيار الإصلاحي لم يستطع أن يصنع ما يسمى بالمجتمع المدني المؤهل للقيام بدوره الريادي في استراتيجيات الإصلاح، حيث نجده عبارة عن فسيفساء متشظية فاقدة لأي عنصر من عناصر القوة على الرغم مما تحويه من إرادات بشرية صادقة في كثير من الأحيان.

فنخلص، إذا، إلى أن التجارب الإصلاحية التي عرفها عالمنا العربي والإسلامي لم تحقق مراد الشعوب في التحرر وإصلاح وضعها الفاسد بعامل الاستبداد والاستعمار، ذلك أننا تحكمنا، في الغالب، أنظمة سياسية غير قابلة، بحكم بنيتها المغلقة والمعقدة، لأي إصلاح، ومن ثمة غير قابلة لأن تتحول إلى أنظمة ديموقراطية تسمح بوجود الإرادة الشعبية في السلطة.