في فقه الجماعة في مشروع العدل والاحسان-الحلقة4- كتب هذا قبل رحيل الامام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله



في فقه الجماعة في مشروع العدل والإحسان

"جماعة المسلمين ورابطتها" وبناء القوة المجتمعية

 
1.تذكير

كنت بدأت نشر حلقات في الموضوع على مدونتي وصفحتي على الفايسبوك لما شعرت بأن الضرورة العلمية والعملية ملحة للحديث عن الموضوع؛ سواء من جهة حركة مشروع العدل والإحسان أو من جهة ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي من أحداث.

وقد كنت واكبت ما سمي بالربيع العربي بمطلب بناء القيادة المجتمعية كشرط ضروري لتحقيق أهدف الثورات والحفاظ عليها، وهو ما دفعني إلى بحث معنى الجماعة في مشروع العدل والإحسان لعلمي بأهميته وبما يقترحه من قواعد متعلمة في مدرسة المنهاج النبوي.

إلا أنه حصل لي سرور كبير لما وافق ذلك صدور كتاب "جماعة المسلمين ورابطتها" للأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، فتوقفت عن نشر الحلقات على أن أحاول عرض مضمون الكتاب في أخرى راجيا من المولى الكريم أن يوفقني في ذلك مستشعرا حجم المسؤولية، خاصة لما ينتبه المرء إلى ما تعانيه أمة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليس من فعل أعدائها وخصومها بل من بني جلدتها.
2.حتمية الولادة التاريخية.

حينما ينظر المرء إلى ما يعتمل داخل المجتمعات العربية من عمليات صراعية وتدافعية صدامية حادة، ويكتشف في نفس الوقت عجز أدوات التحليل السائدة؛ من مناهج علم السياسة وعلوم الاجتماع وما أشبه، عن استكناه ما يجري وتحصيل الإحاطة العميقة والشاملة بتفاصيله وجزئياته، يدرك أننا بحاجة تنزل منزلة الضرورة لاكتشاف أدوات جديدة للوقوف على معنى الأحداث ودلالاتها وعلاقاتها ومآلاتها وإمكانيات التأثير فيها وإعادة بنائها من حيث مضمونها ووجهتها، ذلك أن لحظة الحيرة عند مراحل تاريخية دقيقة غالبا ما تكون مؤشرا هاما على ولادة تاريخية لحدث تاريخي يكون له الأثر الحاسم في تغيير وجه العالم.

وما ينبغي التذكير به هنا أن العمليات التاريخية الكبرى ليست لحظة منفصلة، بل هي ثمرة مراحل تعتمل داخل أعماق المجتمعات ونخبها الراجحة العقل والفكر وتختلف درجات الوعي بها، ذلك أن حركة التاريخ ودورته متوافقة تماما مع حركة الكون ومقاصدها، ولذلك لا يفلح ولاينج من دوس عجلات التاريخ، التي لا يستطيع أحد أن يتصور حجمها ووزنها وقوتها، إلا إذا اكتمل نظره واستقامت حركته وانسجمت أو اقترب من الانسجام مع حركة التاريخ.

هنا ندرك أهمية الاتباع للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والحرص على أن نكون امتدادا طبيعيا لحركتهم في الوجود التاريخي والانساني، ومن ثمة العلم بقواعدهم في الفهم والعلم للسلوك ضمن حركة الكون على استقامة وعدل لنكون في صلب حركة التاريخ، بل جوهرها، وفي موقع التأثير في مجرى العالم، وهو معنى الجهاد قصدا وغاية الذي قد يصير اضطرارا في لحظة زمنية ضيقة على صورة قتال حاد بالسيف.

ولذلك إذا أخطأ المرء في تقدير لحظة رفعه واستعماله السيف يكون قد خرج عن سنة قدرية حتمية لا ينتصر فيها أبدا، وقد يتكبد فيها خسائر فادحة، أو ينتهي دوره، ولو كان مؤمنا حقا فردا أو جماعة. ومعناه أنه إذا لم يكن التقدير في حمل السيف أي السلاح حكمة بالغة مبنية على مصلحة محققة فعدم الرفع أولى من الرفع مع الخطأ.

فالجهاد أبواب متكاملة ليس القتال منها إلا إذا كان ضروريا، ومن هنا يتحدد معنى القوة على أنه يستند إلى أساس معنوي ابتداء مضمونه مقتضى الآية الكريمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ثم يتكئ على معنى الانسجام الحركي الميداني مع حركة التاريخ حيث يفرض موقف القوة هذا امتلاك كل الوسائل المادية بالحكمة اللازمة بمقتضى الآية الكريمة (وأعدوا لهم ما استطعتم) للحفاظ على هذا الانسجام أو العمل على تحقيقه.

من هنا يختلف مفهوم حركة الحزب عن حركة المشروع تماما، ولاشك أنه يخطئ من يؤسس لحركة حزب سياسي أو مؤسسة مجتمعية جزئية فقط ويعتقد أنه يحمل مشروعا أويدعي أنه صاحب مشروع مجتمعي متكامل؛ فحويصلة حزب أو مؤسسة مجتمعية لا تمكن من ذلك مهما كانت نقاوتها ونظافتها وسلامتها وسعتها.

ما نريد قوله هنا والتأكيد عليه أنه حينما يتحرك الجسد أو الجسم، سواء كان إنسانا فردا أو تنظيما، وهو مسجون ضمن حركة التاريخ وجزئياتها اليومية، لايمكن أن يصنع اللحظة التاريخية ولا يمكن أن يؤثر فيها ولا يمكن أن يعطيها مضمونا إيجابيا كاملا إلا إذا تحرر جملة فنظر من أعالي حركة التاريخ وهو منغرس تماما في تفاصيلها مستوعبا لأفقها الصحيح وما يطلبه البناء مسيرا إلى هذا الأفق.

هنا تكمن أهمية الوحي وأهمية التربية الإيمانية الإحسانية عند القيادة المتصدية لمواجهة قضايا التدافع في كل تفاصيلها؛ فليس الوحي آيات معزولة ولا سنن مجزأة مبتورة، الوحي هنا حقيقة كلية يؤسس لحركة كلية متكاملة تبني جزئياتها على أرض الواقع، وهو مقتضى الوراثة النبوية.

بهذا نفهم معنى معارضة مشروع مجتمعي متكامل ومعنى معارضة حزب سياسي أو تنظيم سياسي مهما كان مطلبه وأفقه.

ونفهم، كذلك، ما معنى الصمود والصبر على تحمل تبعات اختيار موقف القوة من خلال اتخاذ موقع المعارضة الجذرية البانية من خارج قواعد اللعبة السائدة؛ فهناك فرق بين من يجر المجتمع نحو هدف سياسي جزئي، مهما كانت مفاهيم القيم التي تؤطره، وبين من يدفع في اتجاه تغيير وجهة حركة المجتمع عبر إنجاز لحظة تاريخية تتم فيها ولادة جديدة للأمة عبر تتطابق معنى وجودها مع معنى حركة التاريخ الكلي المتوافقة مع حقيقة حركة الوحي والكون، إذ هنا تكون الأمة في حالة يقظة وجهاد وعطاء ومحاربة الاستكبار الذي يتجلى في قيم الاستبداد والمسخ والانحراف والفساد.

2.شرط القيادة.

ولاشك أن هذا الأمر تتصدى له الحركات الكبرى ولو بقيت وحدها في ميدان الاختيار القوي الذي قد يفرض عليها إنجاز المهمات التاريخية ولو دون مساندة من أحد عند التحام إرادتها مع إرادة الأمة (نموذج حركة المقاومة حماس في فلسطين).

عند هذه اللحظة، لحظة الالتحام الميداني بين إرادة قيادة كبيرة وجامعة وثابتة في الميدان وبين إرادة الأمة الواعية والعالمة بقضيتها، يحصل الانتصار الكبير الذي تسبقه انتصارات جزئية مقتضاها عمليات كبرى تقرب حركة الأمة من التطابق مع حركة التاريخ لتصحيح وجه العالم ووجهة حركته (نموذج بعض نتائج الربيع العربي وانتصارات المقاومة في فلسطين ولبنان).

إن هذا ليس تنظيرا حالما بل علما راسخا أصله الكلي الوحي، ومن ثمة فليس المنهاج النبوي نظرية بل علم يفضي إلى عمل مباشرة وينزل مقتضياته بناء على نور الحكمة، ومن ثمة يمكن توليد نظريات عدة مبنية على هذا العلم.

ألح على هذا وأؤكد عليه نظرا لأهميته وخطورته على حركة المنهاج النبوي في أفق الخلافة الثانية على منهاج النبوة، وعلى بناء نظام التفكير والحركة لدى رجال المنهاج النبوي وجنوده وعلى واقع الصراع والتدافع وبناء القوة المجتمعية من حيث تحديد وسائلها الكلية ومواقعها الجهادية ومواقفها الميدانية.

لذلك اقتضى المقام الوقوف مع آخر كتاب صدر للأستاذ عبد السلام ياسين "جماعة المسلمين ورابطتها" عسى نحصل بعضا من علمه في الباب حيث يفتح لنا أفقا اجتهاديا وجهاديا واضحا نخوض به غمار الانتقال من واقع الفتنة إلى واقع الوضوح والحرية والاستقلال والقوة عبر مراحل معلومة المضمون والوسائل. ذلك أن الخطأ في قراءة المرحلة التاريخية وفي تحديد مطالبها الكلية والفرعية يحتم الدخول في معارك هامشية وسفسطة نضالية لا تورث إلا الوهم الحراكي والوهن السلوكي وليس العلم والعمل على قواعد علم المنهاج النبوي.

ما يحويه الكتاب الذي بين أيدينا متضمن تماما في كل كتب الرجل ، ولكن تخصيصه لموضوع القيادة بالبحث يدلل على أهميته وجدواه وقيمته العلمية والعملية. فالجواب عن أسئلة المرحلة ليس من موقع المعارضة السياسية الجزئية، بل من موقع حركة مشروع يغطي الجغرافيا كما يغطي التاريخ ويؤسس للمستقبل منه على قواعد الوحي والنبوة التي تجعل الإنسان موضوعا لها في حركته نحو الموت والآخرة وما يمر به من تعب وراحة وشقاء وسعادة وصراع وتحالف وصدام وتآلف وهكذا.

هنا ستجد الحركة الإسلامية، خصوصا، وحركة القيم عموما، مصدرا هاما في بناء استراتيجياتها الحركية وفي تقييم وتقويم منجزاتها الميدانية.

وقبل الدخول في تفاصيل الكتاب أعرض هنا بتركيز عناوين فصوله باعتبار هذا العرض تقديما عاما لموضوع الكتاب.

الفصل الأول: الدعوة والدولة

الفصل الثاني: وَلاية الله ورسوله والمؤمنين

الفصل الثالث: جماعة المسلمين

الفصل الرابع: القيادة.

يستطيع الخبراء في كل مجال أن يجدوا ما يهمهم في هذا الكتاب فيستنبطوا فقها سياسيا ودستوريا وقانونيا واجتماعيا واقتصاديا وهكذا، ولهذا أهميته وأوانه ولابد أن يشتغل عليه أهل التخصص ويؤسسوا فيه تجربة استنباطية تبني صرحا متجددا من العلوم الشرعية والكونية، لكن نحن في مرحلة تقتضي ابتداء الحرص على العلم بترتيب أصول البناء واتخاذ الموقع المناسب لهذا البناء والمواقف المناسبة لهذا الموقع بما يتقدم بالحركة السياسية والمجتمعية نحو إنجاز الأهداف المباشرة لتحقيق واقع الحرية الذي يمكن من التحام إرادة القيادة المجتمعية الحقيقية وإرادة الأمة فتغلق منافذ الاستبداد والفساد وينهض الجميع على وضوح وبينة سعيا نحو مستقبل منشود واضح المعالم محدد المضمون: الحرية والكرامة والعدل.

لذلك كان الفصل الأول باحثا في العلاقة بين الدعوة والدولة بما هما المؤسستان الكبيرتان اللتان تكونان "جماعة المسلمين" ضمن حركة المجتمع الإسلامي. فأسس بهذا البحث للكشف عن الأساس المعنوي الذي ينبغي أن يكون قاعدة الجماعة والمجتمع.

أما الفصل الثاني فقد بحث في الأساس البشري من حيث معنى الشخصية ومعنى العلاقة بين اشخاص الجماعة ومكوناتها بما يحقق الامتداد العميق في الوجود الإنساني على خط النبوة والرسالة والرحم الإنساني الكوني.

إنها ولاية خاصة وولاية عامة ينتظم بها المجتمع ويحصل ضمن حركته تصنيف دقيق لا يستند على عوامل ثانوية؛ قومية أو غيرها، بل على معاني وقيم سامية منفتحة على كل معاني الوحدة الإنسانية الإيجابية.

أما الفصل الثالث فقد بحث في معنى الجماعة وهيكلتها وتنظيمها والنواظم الضابطة لجهادها.

وأما الفصل الرابع فقد بحث في معنى القيادة التي تتصدى لبناء الجماعة والحفاظ عليها والسير معها وبها نحو تحقيق الأهداف. وهنا وقف على دقائق مهمة في بناء الجماعة وتنظيمها وقيادتها ومواصفات هذه القيادة وصورها.

وهو ما سنفصل فيه العرض، إن شاء الله تعالى في ما هو آت والله الموفق للصواب سبحانه.