القومة العلمية

معنى القومة العلمية و مظاهرها الأساسية في مدرسة المنهاج النبوي (1/3)

""و ستأتي بقية الحلقات تباعا إن شاء الله""

الفهرس

1. بين العلم و العمل في مدرسة المنهاج النبوي

أ- معنى القومة العلمية

* التحرر من ثقل التقليد

* التحرر من ثقل البعية

* التحرر من الاستبداد

1. بين العلم والعمل في مدرسة المنهاج النبوي

أ- معنى القومة العلمية

يعتبر فهم العلاقة بين العلم والعمل مفتاحا علميا ومنهجيا لإدراك التصورات والإنجازات وحجمها ونوعيتها ومناسباتها ومغزاها ومداها في هذه المدرسة الفتية.

فعلم المنهاج النبوي يحدد العلاقة بين العلم والعمل من خلال محورين:

-العلم يفضي إلى العمل مباشرة.

-العلم إمام العمل والعمل ينمي العلم.

ولنقم بعرض بعض مضامين هذين المحورين لنصل إلى نتيجة مناسبة لموضوعنا مفادها أن الحديث عن القومة في بعدها العملي إنما هو نتيجة للأساس الأول؛ وهو العلم بالقومة من حيث مؤداها العلمي وتجلياته في صناعة نظام التفكير وصياغة قواعده وبيان أصوله وتدقيق أهدافه ومقاصده والغاية منه، وهو ما يعني إعادة بناء ماهيته بناء كليا، ذلك أن أساس الأساس في العملية برمتها تحول جوهري تربوي سلوكي في عمق الإنسان المتصدي بكليته لهذا الإنجاز من حيث هو قيم أخلاقية وسلوكية ومستوى فكري وحقيقة واقعية، لأنه تحول يحقق الحرية الداخلية المطلقة لهذا الإنسان مهما كانت ظروف القمع والكبت والحصار المحيطة به والمزاولة عليه من طرف الفئة المناهضة له ولتطلعاته. وهو ما يعني أن هناك علاقة مباشرة وشرطية بين العلم والإرادة في مدرسة المنهاج النبوي؛ إذ لا تزود هذه المدرسة المرء بالمعلومات الذهنية والفكرية على جمود و سكونية، بل تزاوج بتكامل وتوازن هائلين بين صناعة الوعي والإرادة وتحققهما على أرض الواقع.

إن هذه النتيجة قاعدة هذه المقالة، ولا ينبغي أن يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أن هذا نوع ترف فكري وزيادة لا قيمة علمية و منهاجية لها، ذلك أن رسم الاستراتيجيات العملية لاختراق الواقع المفتون والمعقد في كل أبعاده النفسية والعلمية والتاريخية والفكرية والعقدية، وغيرها، لن يتم إلا من خلال إحداث عملية فكرية كبرى توفر لنفسها كفاءة عظمى في نقد الواقع وتفكيكه تفكيكا كليا وشاملا من كل جوانبه وصناعة واقع آخر ذهني وفكري ونفسي يؤسس لواقع سياسي واجتماعي ومجتمعي يضمن كل عناصر الحرية ويقوض كل موانعها في كل المجالات ويكنسها مزيحا لها.

إننا هاهنا لا نتحدث عن ثورة فكرية بالمعنى المتداول في الفكر السائد حيث جوهرها العنف الشامل على الإنسان، كما لا نتحدث عن هدوء الفكر اللبرالي المتوحش الذي يدمر الإنسان بهدوئه القاتل الماكر غالبا، بقدر ما نحاول رسم معالم مدرسة متجددة في إعادة تنظيم الفكر الإسلامي وترتيب كلياته عند مواجهته ومعالجته للقضايا الواقعية ماضيا وحاضرا ومستقبلا و على أي مستوى كانت من التفصيل والمتابعة، وكل ذلك على أساس ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ ؛ إذ هو مضمون القومة العلمية حيث تتم صناعة نظام تفكير متكامل ومستقل ومستوعب يوفر كل الوسائل العلمية والعملية لاخترق الواقع وتفكيكه وإعادة بنائه من جديد وفق قواعد الرحمة والرفق والقوة لا العنف. لذلك يقتضي المقام بيان معنى القومة العلمية قبل الخوض في كشف بعض مضامين المحورين المشار إليهما نظرا لعلاقتها ببناء استراتيجيات العمل في أي مجال وفي أي مستوى وعلى أي صورة من التفاصيل.

إن القومة العلمية حالة فكرية ذهنية جامعة للعلم وآخذة بناصيته في صورة كلية متكونة من معنى الحق ورافضة لكل نوع ظلم كان كبيرا أو صغيرا، وقادرة على تصور الاستقامة ومبنية على إرادة حرة؛ فهي نهضة فكرية شاملة تقطع مع كل عوائق التفكير الحر والمستقيم وتبني كل أصوله وقواعده وتعرضها عرضا كليا وتوفر الكفاءة على نقد الواقع نقدا جذريا وتؤسس لتغييره تغييرا شاملا وجذريا؛ فهي فضلا عن قدرتها الهائلة على النقد والتفكيك والعرض تتوفر على القدرة الكافية والكفاية المناسبة لتصور المستقبل وبناء عناصره من حيث هو مراحل بنائية ومن حيث هو معنى إنساني ونظام كوني قائم على العدل والحرية.

ولذلك فالقومة العلمية تتمظهر في التحرر من حيث صناعة نظام التفكير واستراتيجياته من أثقال ثلاثة:

- ثقل التقليد.

- ثقل التبعية.

- ثقل الاستبداد.

وبذلك يتحقق تحرير العقل وتحرير الإرادة في بعدهما الفردي، كما يتحقق تحرير العقل الجماعي والإرادة الجماعية فيُصنع تفكير متحرر ومنفتح ومستوعب وقاصد، وتُصنع حركة عامة قوية ومقتحمة بوعي دقيق وخطة محكمة وحكيمة.

* التحرر من ثقل التقليد

إن التحرر هنا ليس رفضا أعمى ولا خطوة ثورية، وليس التقليد اعتماد كل سلوك أو معلومة لها جذورها في الماضي البعيد أو القريب وتنتمي للفكر الإسلامي، بقدر ما التقليد هنا هو الحفاظ على قبضة الأفكار والمواقف و السلوكات الصادرة في الماضي و المظروفة بظروفها النفسية و الفهمية والتاريخية والسياسية والاجتماعية على نمط التفكير الحالي التي تصبح خطورتها حادة لما يصبح مفروضا على هذا التفكير النظر إلى المستقبل البعيد بمعيار المنافسة على إمامة المستضعفين لأجل قيام قواعد العدل والحرية الحقيقية، إذ هناك تعارض جوهري بين قبضة الماضي الاجتهادي المظروف بظروفه وبين عمق النظرة إلى مستقبل من هذا الحجم. ولذلك لا مستقبل للحركة الإسلامية كقوة عميقة في إعادة بناء الواقع الإنساني على قواعد الوحي ما لم تملك المنهاج العلمي الذي يخلصها ويخلص نظام تفكيرها من تلك القبضة ليقف بها مباشرة على الوحي وكلياته وعلمه إذ يزودها بالآليات المهمة لنقد التراث وغربلته والاستفادة منه بمعيار كلي جامع.

وهنا تبرز أهمية المحور التربوي السلوكي في بناء الشخصية والجماعة والمجتمع المتصدين لقضايا الأمة والوجود البشري وتفاصيلهما، إذ لا يتعلق الأمر بقضية الأخلاق فقط وإنما بتغيير جوهري يحدث في قلب الإنسان لتبنى عليه عملية تفكير تكون مستقيمة وتنتج أفكارا حكيمة وعادلة تشيع معاني العدل والحرية والكرامة في الواقع الإنساني.

ومن ثمة وجب على الحركة الإسلامية أن تتخلص من واقع الانشطار على مستوى الفهم والسلوك الذي حصل بين الخط التربوي والخط الفكري التفكيري الذي أصاب المجتمع الإسلامي ونخبه باكرا، كما يجب عليها أن تتخلص من واقع التلفيق والصراع بين الخطين حاليا.

فقد حاول بعض أكابر الأمة الجمع، كما فعل الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله تعالى عنه، وقد كانت محاولة مناسبة للظرف التاريخي والفقهي والسلوكي في زمانه، لكن زماننا يحتاج إلى عملية جمع من نوع خاص ومناسبة للحظة التاريخية التي تعيشها الأمة والإنسانية وفي مستوى المستقبل الذي ينتظر الحركة الإسلامية وعليها الانتباه إلى علاقته بحقيقة الدعوة إلى الله تعالى والتجديد في معناها بما يفتح الأفق الكبير والعريض لعملية بناء هذا المستقبل.

إننا اليوم لسنا في حاجة إلى سجن نظام تفكيرنا، وإراداتنا كذلك، بين مخلفات التراث، بقدر ما نحن في حاجة إلى الوقوف بعقولنا وقلوبنا وإراداتنا بين يدي الوحي مباشرة لنتمكن من الاستفادة منه عوض رهن حركة الأمة بين يديه بتكرار تجارب غير مناسبة للحظتنا وللمستقبل الذي ينتظرنا.

وبغير هذا سنجد أنفسنا أمام تكرار التجربة الغربية في علاقتها بالدين. أو على الأقل ستضطر الحركة الإسلامية إلى تنازلات جوهرية ومصيرية مع مرور الزمن تنهي وجودها من حيث هي قوة دعوية تؤسس لوجود المؤسسات الساهرة على سيادة معاني الدعوة والنبوة.

إن التحرر السليم والسالم من ثقل التقليد خطوة أولى نحو بناء الوعي والإرادة الكفيلين باقتحام الواقع وإنجاز العمل التاريخي الكبير لخدمة الإنسانية.

ولاشك أن السعي نحو هذا التحرر له منهاجه الذي ينبغي أن يشمل كل مجالات الحياة وكل العلوم: الفقه والأصول والتفسير والسلوك وغيرها من العلوم الشرعية التي يجب إعادة بنائها وبناء مناهجها وفقا لهذه الروح الجامعة والمقتحمة، كما أن الضرورة تقتضي إنشاء علوم جديدة تتعلق بمجالات الشأن العام والعلاقات الدولية والنظام العالمي والكوني.

إن من يقرأ العلوم أو ينشئها تحت قبضة الاستبداد الوراثي ليس كمن يقرؤها وينشئها وهو ينظر من خلال مستقبل الحرية الكاملة للأمة والإنسانية وفق نظام كوني قائم على قواعد العدل والحرية والكرامة.

* التحرر من ثقل التبعية

العقل الإسلامي الحديث، في الغالب، يخضع لمعضلة مركبة؛ إذ يعاني من ثقلين؛ ثقل التقليد الذي منعه من الانطلاقة القوية والبانية كليا بتحرره من تراث ضخم وغني وغزير المعلومة والموقف، وثقل التبعية التي جثمت عليه بتراثها الكبير والفعال والنشط والمبتكر.

هنا وقع التيهان المهول والمحير، فلا أصالة ولا معاصرة؛ إذ ذهب الكثيرون إلى عملية تلفيق كبرى من خلال مفهوم "الأصالة والمعاصرة". كما اختار فريق آخر القطيعة الكلية مع كل ما هو ماض ودعا إلا الانتقال الكامل لتبني المفاهيم المركزية التي تعبر عن النهضة والحداثة الغربية لسلوك طريقها. كما اختار فريق آخر الوقوف الجامد مع نصوص التراث حريصا على تفعيلها في غير سياقها الصحيح فصنع معارك وهمية وظن أنها الحقيقية في الدفاع عن الكتاب والسنة والمنافحة عنهما، ولما كان العجز خرج من صلبه من ظن أن العالم سيتغير بطلق رصاص هنا أو هناك وبتفجير هنا أو هناك.

إن الفتنة تأخذ المعنى النبوي حين يصل اختلاط الحق بالباطل درجة الحيرة الشديدة، وهو ما عليه نظام التفكير الحالي، في الغالب، لدى النخبة في العالم الإسلامي.

إنها معضلة حادة وخطيرة لن تخرج الأمة من التمزق المرتب عليها إلا بقوة علمية جامعة ملتحمة ميدانيا مع قوة اقتحامية جامعة لأطراف المجتمع والمجتمعات الإسلامية.

لقد وجد العقل الإسلامي، في الغالب، نفسه عاجزا أمام قوة الغرب المستعمر لما عاناه من الجمود والخمول طيلة قرون من الزمن، حيث شل الاستبداد الوراثي قدراته وألجأه إلى التبرير على الرغم من العبقرية التي عرف بها طيلة تاريخه.

لذلك فالعقل الإسلامي الذي يروم بناء فكر قوي ومتحرر لن ينهض ما لم يملك القدرة على التحرر من الانبهار والعجز أمام النتاج الفكري و العلومي الغربي ليقف أمامه ناقدا نقدا جذريا ومستفيدا منه بما هو تجربة إنسانية عميقة. والمدخل لذلك، فضلا عن ضرورة امتلاكه المنهاج الذي يخول له إنجاز هذه العملية، أن يتحرر من قبضة الاستبداد القروني.

* التحرر من الاستبداد

من أخطر الأثقال التي قهرت العقل العربي خصوصا والإسلامي عموما معضلة الاستبداد، إذ لم يكن استبداد مرحلة من التاريخ، بل صار استبدادا وراثيا ضمن لنفسه التموقع المناسب والتطور المطرد ضمن حركة المجتمع الفكرية والفقهية والأصولية والحركية والسياسية، وغيرها.

ولذلك لا مستقبل للحركة الإسلامية ما لم تجد لنفسها خطا فكريا يستطيع أن يخلص عملية التفكير وبناء الأفكار والمواقف من قبضة الاستبداد الوراثية القرونية. ولاشك أن هذه مهمة شاقة ومعقدة، إذ لا يكفي فيها توليد فكرة ثورية مهما كانت درجة عنفها وسخطها وغضبها على الظلم والظالمين، لكن المطلوب التخلص من النفس التبريري الذي يأخذ الصفة الشرعية في الفكر السياسي الإسلامي السائد، ثم امتلاك الكفاءة العلمية على تفكيك بنى الأنظمة القائمة والعمل ميدانيا لأجل تقويضها وإزاحتها عن كاهل الأمة لتنطلق حرة نحو مستقل الحرية والقوة والعزة والاستقلال.

فحين يحصل التحرر من ثقل التقليد وثقل التبعية وثقل الاستبداد ساعتها تجد بين يديك الأرضية العلمية والفكرية والإرادية الصلبة التي تدفع بك إلى الانطلاق القوي نحو مستقبل خدمة الإنسانية وإمامة المستضعفين.

ولذلك فإن أي نوع من مهادنة الاستبداد الوراثي أو المصالحة معه بأي مبرر إنما هو ضياع لجهد الأمة ومزيد حرمان للإنسانية من أن تطل عليها من جديد رحمة الإسلام وعدله، إذ لا يلتقي منطق الاستبداد مع مقتضى ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾