المعنى العلمي للتؤدة

الخيار الثالث للعمل الاسلاميمحورية التؤدة في بناء التفكير والفكر السياسيين والحركيين الإسلاميين في مشروع العدل والإحسان


5.المعنى العلمي للتؤدة.

تشكل الخصال العشر في تكاملها المعرفي المستوى العلمي الذي اجتهد الرجل في صياغته، إذ من خلاله نقل المضمون القرآني النبوي من مستوى النص الجزئي إلى مستوى الوحي باعتباره كلية جامعة حاكمة على غيرها من كليات العلم والعمل، ونقل حركة الوحي من مستوى الاجتهاد الفرعي إلى مستوى الاجتهاد الكلي الذي يقدم الوحي عبر وحدة تصورية منظمة للسلوك الجماعي القاصد إلى بناء الأمة وقيامها بوظيفتها الإنسانية والتاريخية، والضابط للعلاقة بينه (أي السلوك الجماعي) في أدق تفاصيلها وبين السلوك الفردي.

أنقل هذه الفقرة من كتاب الإحسان كاملة للتأكيد على أن الترتيب الذي اجتهد الإمام في صياغته، سواء للخصال العشر أو لشعب الإيمان إنما هو عمل مقصود، وأنه من دونه لا تستقيم الحركة؛ أي من دون العلم به حتى ينتظم نظام التفكير به قد يكون الاجتهاد غير مكتمل. يقول الإمام، رحمه الله: "تتراصُّ الأعمال الأحب إلى الله في صرح السلوك الإحساني.
أولها الحب في الله والبغض في الله. "أحب الأعمال إلى الله الحب في الله والبغض في الله". حديث نبوي رواه الإمام أحمد وحسنه السيوطي. وهذه خصلة الصحبة والجماعة، جماعة الأشداء على الكفار الرحماء بينهم، أحبة الله الأذلة على المؤمنين الأعزة على الكافرين.

ثم الذكر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر". رواه مسلم وأحمد عن سمرة بن جندب. وقال: "أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله". رواه ابن حبان في صحيحه وغيره عن معاذ ووافقه السيوطي في تصحيح الحديث.

ثم الصدق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الحديث إليَّ أصدقه". رواه البخاري وأحمد عن المسور بن مخرمة.

ثم البذل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي". رواه أبو يعلى وابن حبان وصححه السيوطي. وقال صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله". رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود. حصر عمل البر بين الصلاة وهي عماد الدين وبين الجهاد وهو ذِرْوَة سنامه. ومن البذل السماحة وبذل المعروف وحسن الخلق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب سَمْحَ البيع سمح الشراء سمح القضاء". رواه الترمذي عن أبي هريرة.

ثم العلم والعمل وفي كل هذه الأحاديث علم بالأحب إلى الله ثم عمل به.

ثم السّمت الحسن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي". الحديث رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص. سَمْتُ المؤمن على نقيض مظهر المختال الفخور المستكبر. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسناد حسن.

ثم التؤدة والصبر. قال حبيب الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الدين ما داوم عليه صاحبُه". أخرجه الشيخان والنسائي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. ومن التؤدة امتلاك اللسان وهو أخف الجوارح حركة. وكفه برهان على قدرة المؤمن على امتلاك زِمامِ نفسه فلا يصدر منها عملٌ أهوج. إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، و"لا يحب الفحش ولا التفحش" من حديث نبوي رواه أبو داود وأحمد عن ابن الحنظلية بإسناد حسن. ومن التؤدة الصبر والرِّفْقُ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الرفق في الأمر كلّه". وفي رواية: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله". الحديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة رضي الله عنها.

ثم الجهاد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الجهاد إلى الله كلمة حق تقال عند سلطان جائر". رواه الإمام أحمد والطبراني عن أبي أمامة وحسنه السيوطي. [الإحسان ج2، ص: 107-109].

وفي نهاية هذه الفقرة يؤكد على ضرورة القراءة الإحسانية لهذا الترتيب وترتيب شعب الإيمان، علما بأنه لم يذكر هنا خصلة الاقتصاد، لأنها من ضرورات خصلة التؤدة حتى لا تصبح التربية على التؤدة وتعلم معانيها مفض إلى السكون والجمود والانتظارية في العمل.

يقول رحمه الله في نهاية الفقرة أعلاه "وبعد، ففي قراءتنا الإحسانية هذه لشعب الإيمان نجد أن أخص الأعمال وأكثرَها بُطونا في قلب العاملين، وهي أعمال القلب في حب الله ورسوله والتحاب في الله، تسيرُ خطا واحدا في طريق محابّ الله، في طريق الأعمال الأحب إليه سبحانه، في طريق الإحسان بكل معاني الإحسان، إلى أن تنتهي إلى أكثر الأعمال ظهورا، وأوسعها شمولا، وأبلغها أثرا في حياة الأمة، ألا وهي أعمال الجهاد وأعمال إقامة العدل، وهو الأمر الإلهي المكرَّرُ في القرآن، المقرَّرُ بمداد الكرامة وإمداد الولاية في قوله تعالى: ﴿إن الله يحب المقسطين﴾ وهم الذين إذا حكموا حكموا بالعدل، وحكموا باجتهاد، وحكموا بصواب، وحكموا حكما يكفل لهم ولعامة الناس وخاصتهم، لدنياهم وآخرتهم، حسنة الدنيا وهي الاستخلاف والتمكين، وحسنة الآخرة وهي سكنى دار النعيم والنظر إلى وجه الله الكريم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلسا إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله تعالى، وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر". رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري وقال حديث حسن غريب. وللحديث شواهد تقويه".

انتظمت خصلة التؤدة في كتاب الإحسان في جزئه الثاني من خلال عشر فقرات هي: الصبر، والحياء من الله عز وجل، والعفو والرفق، وحسن الظن، وعلوم الصمت، والنقد، وتلبيس ابليس، والسماع، والسكر والشطح، ثم الفقرة الحادية عشر وهي شعب الايمان، التي يذكر فيها بشعب الايمان المكونة للخصلة حيث يلخص من خلالها معنى الخصلة بمدلوليها العلمي والعملي.


نقف، إن شاء الله، مع كل فقرة كما صاغها الإمام رحمه الله نحاول استكشاف مضمونها الإحساني عملا على بناء وحدة التصور التي يروم اجتهاد المنهاج النبوي بناءها.