في هذه الحلقات ننشر بحول الله تعالى كتاب:
"في فقه الدعوة إلى الله جل جلاله"
الحلقة4
الفصل الثاني: فقه الدين وطرق تحصيله وتجديده


أولا: فقه الدين
سبق معنا حديث جبريل المشهور الذي أخبر من خلاله المعلم المربي المزكي القدوة الإمام، صلى الله عليه وآله وسلم، الصحابة أن من حضر مجلسهم بين يدي رسول الله هو الأمين على الوحي جبريل عليه السلام؛ جاءهم ليعلمهم دينهم وفي رواة معالم دينهم.
ويفهم من هذا الحديث، من بين ما يفهم منه، أن الله تعالى شاء أن يكون هذا التعليم بين يدي الملك الكريم والرسول صلوات الله عليه وسلامه، وهو مايدل على عظمة موضوع التعليم وعظمة معلميه وعظمة سياق ذلك التعلم.
فهذه رعاية ربانية عظيمة لمجلس عظيم مهيب. إذ حصل تعليم الدين كله فيه. وهوما جعل مثل الإمام البخاري يقول معلقا على ما دار في المجلس: فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا. أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال رحمه الله: باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِىَّ، صلى الله عليه وسلم، عَنِ الإِيمَانِ وَالإِسْلاَمِ وَالإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ ، وَبَيَانِ النَّبِىِّ ، صلى الله عليه وسلم، لَهُ، ثُمَّ قَالَ: « جَاءَ جِبْرِيلُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ » . فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا ، وَمَا بَيَّنَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم، لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنَ الإِيمَانِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ).
فمن المعلوم أن تبويب الإمام البخاري تبويب فقه للدين وفقه للأحكام، وقد يكون تبويبه ترجيحا وتقريرا لمعنى أو حكم من خلال وضع ما رجح وقرر عنوانا للباب.
وهنا اعتبر رحمه الله تعالى سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي له، عليهما الصلاة والسلام، كله دينا، مستنبطا ذلك من إخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة بأن جبريل جاءهم ليعلمهم دينهم بعد اكتمال زمن المجلس ومضمونه.
نعم، ليس المقصود هنا أن نعرض لتفاصيل معاني الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة، فذلك يحتاج إلى مصنفات، وقد بلغ في ذلك علماؤنا، رحم الله الجميع، الوسع، جزاهم الله عن الإسلام المسلمين خيرا، لكن نقف على بعض المعاني الكلية الجامعة التي تحتاج إليها الدعوة وأهلها في زماننا، حيث كان المجتمع في زمنهم، رحمهم الله، مشبعا بروح الإيمان ومعاني الإحسان، أما في أيامنا فقد انتقضت عرى الإسلام حتى صار القليل من شبابنا من يعرف للمساجد طريقا وللصلاة مناديا، هدانا الله آمين وما يسر هو هذه العودة المباركة للشباب لعمارة بيوت الله تعالى.
فكيف تتم عملية تعلم الدين وفقهه من خلال النظر في عظمة هذا المجلس وأمثاله؟
أمن تحت ركام الواقع البعيد عن المعاني العظمى للدين نجلس باحثين عن تلك المعاني؟ أم نبحث عنها في فضاء الصفاء المجرد عن الواقع حتى يكتمل تعلمنا إياها ثم نعود إلى واقع قد لا نفقهه الفقه المناسب لتنزيل تلك المعاني التنزيل المناسب والباني؟ أم نترك العنان لأفكار صغرى ترد بالفعل غير المحسوب عن واقع مكفهر محقر فيه الدين مهان جهلا أو عنادا؟
أم المطلوب هو البحث عن مثل هذا المجلس الرباني الملائكي النبوي وصناعته في خضم واقع عنيد وبعيد اختلط فيه الحق بالباطل، وما هي الوسائل لذلك؟
كان صلى الله عليه وسلم في الواقع يغير دلالة على الله والصحابة يتعلمون دينهم منه ويفقهونه عنه، صلوات الله وسلامه عليه. وإن اقتضى الأمر أن ينزل أمين الوحي نزل، لكن ما كانوا يجلسون الأعوام الطوال حتى يتعلمون الدين ثم يعودوا إلى واقعهم ليعلموا الناس ويجاهدوا في سبيل الله، كما أن ضغط الواقع لم يكن مصدر العلم و الفهم إلا من حيث هو مجال يختبر فيه العلم والفهم لمعاجلة قضايا الناس الخاصة والعامة رحمة ورفقا وحلما بهم.
وكما نزل الأمين على الوحي لإظهار معنى الدين والصحابة جلوس مع رسول الله الكريم على الله لما اقتضت الضرورة ذلك بعلم الله المطلق، نزل الملائكة في الجهاد كذلك لما اقتضت الضرورة. فكما أن هناك علوما تؤخذ من نوع هذا المجلس وآدابا عظمى، فهناك علوم وآداب تؤخذ من مواطن الجهاد تستقر في القلب وتزيده يقينا بالله وبما عنده سبحانه ويدخره لبعاده الصالحين.
إن ذلك المجلس الرباني الملائكي النبوي هو عين العلم النافع للإنسان والإنسانية، وياله من مجلس عظيم !
فياأيها الدعاة إلى الله من لنا بمثله، وهو مجلس رسول الله؟
يا أيها الدعاة إلى الله، يا بناة الأمة وحماة الملة، يارحماء بالإنسانية، لا تمكين لدعوتنا إلى الله ما لم يخرج علمها من هنا، من هذه العين الصافية والوافية، من مثل هذا المجلس العظيم الرباني الملائكي النبوي.
فقد تأكلنا الهياكل والتخطيط والمبادرة والبحث عن الحلول التفصيلية لقضايانا ومشالكنا، وهو أمر لا بد منه، وقد يجرنا سوء تربيتها إلى التعصب الأعمى فيعادي بعضنا بعضا ويقاتل بعضا بعضا، لكن ما لم تفقه الدعوة والدعاة والتنظيم الإسلامي أنه لابد من بناء مثل هذا المجلس العظيم والبحث عن وسائله ورجاله، فإنما نحن حركة من الحركات الإنسانية لا غير لا نأخذ الصفة الإسلامية إلا من حيث تبنينا لأفكار الإسلامية في هذا المجال أو ذاك.
ولذلك نستنبط من هذا الحديث/المجلس أن المجالس الكلية لتعلم الدين هي الجامعة لهذه الدلالة الربانية الملائكية النبوية. كما نفهم أن مثل هذه المجالس العظمى هي التي تشكل أصل الفهم والعلم لخلاص الإنسان والإنسانية حيث فيها تكتمل صورة تعليم الدين وفقهه وتحديد مصادر ذلك كله ووسائله.
ولذلك جاء في الحديث عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ( من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه . ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنَّة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطَّأ به عمله لم يُسْرِعْ به نسبه). رواه مسلم.
في هذا الحديث ندرك الجسم المنجمع الذي يأتي في سياق حركته الواقعية المجالسة الربانية الملائكية النبوية لفقه الدين وتعلمه، وموضوعها القرآن الكريم تلاوة ومدارسته:
1-تنفيس الكرب.
2-التيسير على المعسر.
3-ستر المسلم.
4-إعانة عباد الله في قضاء حوائج الدنيا والآخرة.
5-سلوك طريق التماس العلم.
6-الاجتماع في بيوت الله لتلاوة كتاب الله ومدارسته.
7-تدرك المراتب والدرجات بالعمل الصالح لا بالنسب.
وهي وظائف كلها ناتجة عن إرادة العبد بتوفيق من الله تعالى.
فالوظيفة السادسة تبين لنا أن الاجتماع في بيوت الله على القرآن الكريم تلاوة ومدارسة هو مصدر العلم، والوظيفة الخامسة تبين لنا أن هناك سلوك طريق لالتماس هذا العلم ومدى العناية الإلهية لسالكي طريق العلم، والوظيفة السابعة تبين لنا أن الدرجات والمراتب تنال بالعمل الصالح الذي إمامه العلم النافع. أما الوظائف الأخرى فهي تبين لنا نوع العلاقة بين الأفراد الناتجة عن تحقق الوظائف الأخرى.
وإذا انتقلنا من المعنى الفردي ونقلنا هذه الوظائف إلى المعنى الجماعي الذي أقامه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والصحابة ورعوه، علمنا أن العلم المطلوب هو العلم الذي يجمع بين حاجات الفرد وحاجات الأمة، وتكون وظيفة الجماعة، جماعة المؤمنين كما بناها رسول الله، هي الواسطة لتنظيم هذه العلاقة والسهر عليها.
فإذا تكلم علماؤنا على أن هذا الحديث/المجلس يبين أن الدين إسلام ثم إيمان ثم إحسان، فإن قليلا منهم من أدرك واكتشف الوسائل التي تبين وتحقق أن تعلم هذا الدين الذي هو: إسلام ثم إيمان ثم إحسان، ينبغي أن يراعي هذه المراتب ودرجاتها وكيفيات السلوك عبرها، وقليل من ذلك القليل من اجتمع له الفهم من أن هذا التعلم وذلك السلوك لا يعني الفرد وحده، وإنما يعني الفرد والجماعة والأمة. وقليل من هذا القليل من جمع له العلم والعمل بما يحقق ذلك كله واقعا على استقامة كلية جمعا لهمة الفرد ليقتحم العقبة إلى الله تعالى وهم الجماعة والأمة والإنسانية.
وإذا تحقق هذا الفهم والعلم الأخير الذي يشكل نموذجه الصحابة الكرام في مجالسهم وجهادهم وفهمهم وعلمهم وعملهم، فإنه يفتح به الله على العبد والجماعة والأمة ما فتح به على ذلك الجيل الذي فتح الله له من كنوز الأرض ومغاليق القلوب وعظائم العلوم ما أخرج الإنسانية من الظلمات إلى النور.
وها قد حصلنا الحلقة الكبرى في حركة الدعوة إلى الله وما ينى عليه مصيرها؛ إنها المجالس التي يتعلم فيها فقه الدين الصحيح وعلمه المستقيم. وعلمنا أن هذه المجالس ربانية ملائكية نبوية يتخرج منها الرجال، ذكورا وإناثا، مقتحمين عقبات الجهاد فتتنزل الملائكة عليهم في ساحات الجهاد كما نزلت في مجالس تعلم أصول الدين ومعناه الجامع.
فعمر رضي الله عنه، الذي سأله رسول الله في حديث جبريل عن الزائر، هو من سيرى فيه هذا الرسول الكريم رؤيا، ففي حديث من صحيح البخاري، نلاحظ كيف أن الله تعالى يحتفل إكراما لنبيه صلى الله عليه وسلم بما يكسي به صحابته وأمته من تجليات ما تلقوه من علوم وما تنعم الله عليهم به من قبول وهم سادة المجاهدين والمعلمين، رضي الله عنهم. فهذا عمر ابن الخظاب، رضي الله عنه، الذي أخبره الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن من حضر مجلسهم معه عو جبريل، يراه في رؤيا وقد غطاه الإيمان: عَنْ أَبِى أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَقُول:ُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: « بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَىَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِىَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَىَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ ». قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَال:«الدِّينَ».
فالدين درجات بنص هذا الحديث، وما يكون عليه العبد منه ما يبلغ الثدي وما دون ذلك، ومنه ما تفيض أنواره وعوالمه عليه حتى يتجاوزه إلى غيره.
لنأخذ هذه الصورة العمرية المخبور بعا عن طريق الغيب عن طريق رسول الله صلى عليه وآله وسلم: عمر الفاروق، عمر العدل، عمر الذي وافق رأيه الوحي في كثير من آيات القرآن الكريم، عمر الذي نصر به الله الدين وجمع المسلمين حتى سجل التاريخ أن العراق لم تأمن ولم تعرف استقرارا إلا زمن عدله وحكمه. وبنفس الطريقة نقرأ مناقب الصحابة الكرام الذين جلسوا مع رسول الله ونزلت عليهم الملائكة وهم في مجالس تعلم الدين وفي مواطن الجهاد حتى نعلم ما هو النموذج الذي تريده الدعوة، أي ما هو النموذج الذي ينبغي أن يسعى الدعاة اليوم الاقتداء به والبحث عن وسائل صناعته.
وكل ذلك لنعلم أن ما الدين التيهان بين الأوراق المنسوخة والصحائف المأثورة والقنوات التلفزية الجائلة ومواقع الشبكة العنكبوتية المعاصرة ولا بين كلام ينثر أو ينظرم هنا وهناك، بل هذه كلها وسائل ينبغي أن توضع في مكانها المناسب بعد تحديد الأصل الأصيل الذي هو منبع فقه الدين وتعلمه.
لذلك فالتنظيمات الإسلامية والدعاة إلى الإسلام يفرض عليهم فرضا، لتخرج الأمة والإنسانية من واقع الكراهية والتقاتل والتباغض، أن تكتشف هذه المجالس وتدقق في وسائلها ومضامينها وتحدد مواقعها ضمن سير الحركات وبناء الرجال وإعدادهم لخوض غمار واقع عنيد ومعقد احتار معه العقلاء.
في قصة واقعقية حكاها لي شاب من الشباب الإسلامي الذي يفيض غيرة على الدين. ليس المقصود رواية القصة ذاتها بقدر ما أن المقصود العبرة الكبرى في مسألة البحث عن مصادر فهم الدين وتعلمه.
قال الشاب: جالست بعض الرجال وكانت لي همة عالية في طلب العلم، وبمجالستهم وصحبتهم دلوني على العكوف على كتب العقيدة، وجلست الأيام واللايالي الطوال أقرأ وأحفظ وأجمع المادة، وأحطت بكل ما وجدت من كتب؛ فقرأت عن القدرية والمرجئة والجهمية والمعتزلة، وما عرفت الأمة من فرق في العقيدة، فلما حصلت ذلك شاء الله أن أنتقل إلى الجامعة حيث وجدت الساحة تعج بالأفكار والنقاشات وصرت أرقب القريب والبعيد وكل من تكلم، فما وجدت شيئا مما قرأت وحفظت، فعلمت أني ضيعت وقتا كثيرا وأن ما قرأت وحفظت لا علاقة له بحقيقة المراد، فتركته جانبا ثم رجعت لأبحث عما يمكن أن يفيد ويليق للدعوة إلى الله فما وجدت مرجئا ولا جهميا واحدا قال: إني أنا معتزلي لأجادله. وقد رجعت لأبحث عما هو العلم المطلوب للدين حيث أكتشفت أن ما حصلت ليس هو حقيقة الدين، وأني أعدتت نفسي لمعركة لا وجود لها في الواقع.
فقلت له أسألك مجرد سؤال: هل قرأت يوما أو أخبرك عالما أن الصحابة جلسوا مع رسول الله وطلبوا منه الحديث عما ضيعت الوقت في تحصيله؟ أجاب لا. فقلت إذن ما تعلم به الصحابة فقه الدين وعلمه طريق آخر، وهو ما يجب البحث عنه.