في هذه الحلاقات ننشر بحول الله تعالى كتاب
"في فقه الدعوة إلى الله جل جلاله"

العلم بالله تعالى يأخذ معنيين:


المعنى الأول: أن يتنور القلب بنور الوحي ونور النبوة، فيدرك ما شاء الله تعالى من حقائق التوحيد والربوبية والألوهية وحقائق الصفات الإلهية وأنوارها وتجلي كل ذلك في حال وسلوكات الداعي إلى الله حيث يبعثه ذلك على الشعور بالواجب الإلهي في الدعوة إليه، لا إلى فهمه هو للدين والعقيدة. وبهذا يصير عقل الداعي حكمة ونورا موافقا لقدر الله ومقاصده من شرعه وكونه وهو يتعامل مع قضايا الناس ومستجداتها الخاصة والعامة ويرجح بين المصالح والمصالح، وبين المصالح والمفاسد، وبين المفاسد والمفاسد، وما إلى ذلك مما يحتاج إلى نور الحكمة التي وصفها الإمام مالك بأنها مسحة ملك على قلب المؤمن. وهو ما يجعل النظر في آيات الله النفسية والكونية تعبدا واعتبارا واستدلالا على الله الحكيم الخبير العليم سبحانه.

المعنى الثاني: وهو من المعاني المتضمنة في قوله تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ فاطر الآية 2]). حيث الله تبارك وتعالى يتفضل على عباده بسابق عنايته بما شاء من معرفته والعلم به سبحانه فيغمرهم بمعارفه وأنواره لاستجابتهم الكاملة لسيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كانوا ممن (إِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة الآية 83]).

ثانيا: العلم بالإنسان

إذا أضيف العلم بالإنسان إلى العلم بالله تعالى حصل الجمع في الفهم والعمل المراد تحقيقهما لدى رجال الدعوة إلى الله تعالى من حيث هم أفراد ومن حيث هم جماعات لها مشاريع دعوية، وإن كان الأصل أن العلم بالله تعالى حق العلم يفضي بالتلقائية إلى العلم بالإنسان. لكن هنا نفصل قليلا حتى تكتمل صورة الفقه المطلوب، ذلك أن الطوارئ على طريقة فهم الدين كانت مصدرا لفهومات غير مستقيمة، خاصة في عصرنا الحديث خلاف رجال العلم والتربية الأولين الذين كانت الصورة واضحة لديهم حول الإنسان وعلاقته بالشريعة والدين، فعندهم: أن الدين ماجاء إلا لمصلحة العباد عاجلا وآجلا. ويبقى السؤال الكبير يتعلق بمصدر معرفة الإنسان لأن الجهل به يؤدي إلى سوء التعامل معه بسوء تقديره.

ولتقريب الصورة أكثر نضرب مثالا، ولله المثل الأعلى، إذ ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى؛ فإذا اخترع رجل اختراعا فلن يكون أحد من الناس أعلم به منه سواء من حيث ماهيته أو من حيث طرق استعماله وكيفية الاستعمال. والله سبحانه، تعالى علوا كبيرا، هو الخالق الصانع لهذا المخلوق الإنسان؛ فهو سبحانه أعلم به من نفسه كما هو سبحانه أعلم بحاجاته ومطالبه، ولذلك بعث الأنبياء والرسل: يامحمد صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً، رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً)[النساء: 163-166] ، بعث سبحانه الرسل والأنبياء ليبنوا لهذا المخلوق حقيقة وجوده ومعنى مصيره وكيف المسير إلى المصير، لذلك لما فكر الناس في أمر الإنسان بعيدين عن قاعدة الوحي حصل الانحراف والفساد والظلم، وكل ذلك عائد على الإنسان نفسه بمفاسد لا تعد ولا تحصى وإن حاول ما يسمى بالضمير الإنساني، في لغة البعض، أن يكتشف وسائل تمكن من كرامة الإنسان إذ ظهر لهذا فوائد على الناس في تنظيم حياتهم وتسهيلها ماديا ولو آثار المعاناة نتيجة الانحراف الكلي في عملية التفكير تغطي الواقع الإنساني في عمومه. فالحروب والدمار الذي لحق الإنسانية جراء التظالم خلفا جراحا كبيرة في الفكر والنفس والواقع السياسي والاجتماعي، وغير ذلك من المجالات.

وبناء على هذا، فإننا سنستنطق الوحي لمعرفة الإنسان وحصول العلم به، إذ سبحانه وتعالى ما بعث الرسل والأنبياء وأنزل الكتب إلا لمصلحة هذا الذي يريده أن يكون له تبارك وتعالى عبدا اختيارا كما هو عبد له اضطرارا. قال جل ثناؤه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد: الآية 25].

يصف القرآن الكريم بأسلوب بديع معجز خلق الإنسان من حيث هو مادة عضوية، ويخبر سبحانه أنه خرج من الجنة نتيجة مكر إبليس فلم يمتثل لأمر ربه؛ فقد غاظ إبليس خلق آدم واستكبر فاعترض على أمر الله تعالى له بالسجود للمخلوق الجديد بقوله: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً )[الإسراء:الآية 61]. لكن هذا المخلوق من الطين وضع فيه سبحانه عجائب خلقه، وقد صوره على أحسن صورة وجعل فيه قوة بدنية تبتلى بالأمراض والأدواء، وأنزله إلى الأرض وأخبره أن فيها سيبتلى ويختبر ويمتحن وما هي إلا سنين وعقود ثم الموت والبعث والحشر والنشر والحساب؛ فإما ثواب وإما عقاب جزاء على نوع العمل الذي قام به خلال عمره القصير على وجه الأرض.

أما على مستوى الصفات المعنوية التي أخبر بها الوحي، وهي تكون قوة عجيبة مازال الإنسان لم يعرف قدرها حقا وتحقيقا؛ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )[ فصلت: الآية 53] ). فقد صورها القرآن الكريم بعبارات إلهية وعالجتها السنة النبوية المطهرة علاج الخبير العليم علاجا أحوج ما تحتاج إلى تمثله الدعوة اليوم وغدا، إذ هو حاجة الإنسانية؛ فكل كون الله يصرخ مناديا طالبا لعرض هذا النموذج النبوي لتنعم الدنيا بفضائله وإكرامه.
نجد في القرآن الكريم الوصف القرآني يقف على الصفات المعنوية السلبية ويرسم طريق الخلاص من قبضتها من خلال السيرة النبوية حتى لا يحصل تحالفها مع إبليس فيعشش في النفس ويحرف الإنسان والمجتمع ويخرب. فقد أقسم على الله بعزته: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[ص: الأية: 82-83] اعترافا منه لما قرر الله تعالى حيث قال: (إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا)[الإسراء: الآية 65]. الغواية الإبليسية مصاحبة للحياة الإنسية في الحياة الدنيا، لذلك أخبر سبحانه وأمر ابتداء باتخاذ إبليس عدوا:( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[فاطر:الآية 6]، وإن إبليس يجري من الإنسان مجرى الدم، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

جاء في القرآن الكريم أن الإنسان هلوع، وجزوع، وكفور، ويحب الدنيا والمال حبا جما، ويتظالم ويعتدي، حيت يعم الاضطراب وعدم الأمن والاستقرار، ويعم الفساد والإفساد. وهذه خصال تنمو فيه بعامل التربية السلبية حتى تحجب ضدها فيه، وتتضاءل وتختفي، كذلك، بعامل التربية الإيجابية التي تنمي الصفات العلية والسنية، التربية التي جاء لأجلها الأنبياء والرسل. ففي دعاء سيدنا إبراهيم، عليه السلام، لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)[البقرة: الأية: 126]. وبمقتضى أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث رحمة للعالمين فدعاء سيدنا إبراهيم دعاء لهذه الإنسانية المغذبة بجهلها بالله تعالى وبحقيقة الإنسان.

التربية النبوية تزيل الحجب عن فطرة الإنسان وتخرج كوامن القوة العجيبة التي وضع الله تعالى فيه، فيقتحم العقبات ويصير عبدا لله خرج من معاناة التدافع والصراع مع نفسه والطبيعة المحيطة به بعجائبها ومع أخيه الإنسان وقد تعلم أن معنى الوجود كامن في البحث عن معاني الاستقامة والامتثال لأمر ربه العالم به وبحقيقته فدله على اقتحام العقبة إليه، قال تعالى: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ، أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً، أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ، أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ).

وقبل الحديث عن منهاج اقتحام العقبة إلى الله تعالى نعرج على المعاني القرآنية النبوية المبرزة لما جعل الله تعالى الإنسان عليه من إكرام ونعم سبحانه وتعالى، وذلك لنفقه أن الدعوة إلى الله جل جلاله دائرة على أمر عظيم موضوعه هذا الإنسان صنع الله لتدله على الله، وكفى بها مهنة، وكفى بها مسؤولية.