سلسلة في فقه الجماعة في مشروع العدل والإحسان-الحلقة3-


4-إلى أن يرتفع مستوى الفهم لدى الجماعات الإسلامية حول قضية العلاقة النبوية بين الصحبة والجماعة ما العمل؟

تعتبر قضية بناء العلاقة النبوية بين الصحبة والجماعة بما يخرج نموذج الصحابة الكرام في الفهم والعلم والعمل، أي في تحقيق المعنى القرآني النبوي للجهاد، من أخطر القضايا الحاسمة في مصير إعادة بناء الأمة وقيام نظام عالمي يقدم كل خدمات الكرامة والحرية الإنسانيتين، وهي شروط الاختيار الحر.

وهناك صورتان في البناء الصحيح؛ ففي الأولى يبعث الله تعالى المجدد ويوفقه سبحانه لهذه المهمة فتلتف حوله الجماعة حتى تصير الصحبة والجماعة أمرا واحدا كما كان الشأن مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة الكرام، ويكون الهدف المباشر لهذا الركب، الذي يعيش كل معاني الصحبة والجماعة منجمعة في وعلى أمر واحد، هو ولادة أمة قوية موحدة تنظم شأنها الداخلي والخارجي على قواعد الشورى والعدل والإحسان، ونموذجه التجربة النبوية الخلافية (نسبة إلى الخلافة).

وفي الحالة الثانية، توجد جماعات منظمة تحمل هم الإسلام والدعوة إليه وتشتغل ليل نهار على ذلك ولأجل ذلك، لكن لا خبر عندها على قضية أنه لا جماعة تنجز مهمة الإصلاح والتغيير وإقامة نموذج الدعوة إلى الله تعالى من دون صحبة ابتداء الموجودة في كل زمان.

لقد انتبه الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين إلى هذه المعضلة، وبعد إقراره أن الشيخ المربي حاجة ماسة في السلوك الجهادي إلى الله تعالى،وبعد عرضه أسئلة عدة ممهدة منها: " ما الجواب العملي عن حاجة الصادقين في إرادة الله والسلوك إليه وعن حاجة المتطهرين طلاب التقوى والاستقامة؟ هنا جماعة منظمة لها ضوابطها وهياكلها وأجهزتها وبرامجها. وهناك خارجَ الجماعة شيخ رباني فما العمل؟ أن ينخرط الشيخ في الجماعة أم تنخرط الجماعة كما هي في الشيخ؟ أيؤدّي له الأفراد الطالبون له البيعةَ الصوفية أم يؤدي هو للجماعة البيعة الجهادية؟ وإذا تعارضت تعاليم الشيخ مع أوامر الجماعة وبرامجها أنضحي بالتربية ونطرد الطبيب أم نضحي بالجماعة وندعها تتفتت وتندرج في سلك نِقَابَةٍ صوفية أو طرقية مَوصوفة؟" (الإحسان 1:249) ، بعد كل هذا يؤكد أنه لا أجوبة جاهزة، لكن المعول عليه بعد الله تعالى هو  "عندما يرتفع مستوى الفهم لهذه القضية الكبرى في صفوف الجماعات وتُدرَك ضرورة اجتماع الأزِمَّة في يد واحدة لا في أيد متعددة، هناك تنظيم وهناك تربية، تتسع لديها السبيل للجمع بين وظيفتين فلا تجد إلاّ أن يخضع الظاهر للباطن، أن يتبع التنظيم التربية، أن تكون الدعوة أميرة على الإدارة والدولة. لا يزال تصور العاملين في الجماعات لوظيفتهم الدعوية فيما بينهم وفيما يلي الشعب الظامئَ للإسلام تصورا غامضا لا يزال كثير من العاملين يظن أن دواليب الدولة، بعد استخلاصها، تنتظر كل زيد وعمرو من الشباب الملتحي الصادق. تصور يفضي بالذوبان الإرادي للجماعة" (الإحسان1: 250). ذلك أن "جماعة لا تتجاوز قيادتها مستوى عامة المؤمنين جماعة كالجماعة وليست بها، ليست بها حتى يكون اللب الإحساني فقار ظهرها وسر نشأتها، وعماد بنائها، حتى يكون حب الله ورسوله حاديها، والشوق إليه عز وجل رائدها والسير إليه منهاجها.

فإذا أراد الله بجماعة المؤمنين رشدا قيض لها من أوليائه من يشد أواصرها بالصحبة المستمدة قوتها من القلوب، الواقفة على باب الله تطرق، تسترحم، تستفتح، تتضرع، تبكي شوقا ولهفة. كل ذلك والجوارح آخذة في تعبئة الجهود، والعقول منكبة على العلم النافع وإعداد ما أمرنا به من قوة الخبرة والتخطيط.

الجماعة المؤمنة المجاهدة تركيب عضوي كالجسد الواحد. فقيادة تمثل الرأس المفكر دون أن تكون في نفس الوقت قلب الجماعة الحي قيادة لا تجمع الكفاءتين الإيمانيتين: الرحمة القلبية والحكمة العقلية. وقيادة ذات رحمة في القلب ونورانية وكرامات لا تقدر على فهم الواقع والتخطيط للمستقبل والتنفيذ قيادة كسيحة بميزان ما نرى ونحكم، (المنهاج النبوي 134).

وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

هذا الحديث العظيم الذي يعدُّه العلماء ركنا من أركان الدين ينبغي أن نستَعْمله امتحانا لنياتنا وسط الجماعة. فإن تضافرت الأسئلة الصادقة المُلتهبة رغبة في الله من كل جانب في الجماعة، وتكاثرت، وأسمَعت، يوشك أن تتحول روح الجماعة، إن وجدت مصحوبا خليلا كاملا أو مصحوبين، من عدم الاكتراث بالكمال الروحي وطلبه، إلى سماع، إلى اهتمام، إلى إرادة، إلى عزم، إلى همة متلهفة يحيى بها وعليها أهل السابقة الذين يذكرون الله فيذكرهم الله، ويصدقونه فيصدقهم، ويحبونه فيحبهم، ويتقربون إليه بالفرض والنفل مع نية حاضرة، وَارِدَةٍ عليه سبحانه صادِرة. والهجرة إلى الله ورسوله سنة ماضية إلى يوم القيامة. انتهى عهد الهجرة من مكة الأوثان إلى مدينة القرآن، وبقي الجهاد (الاحسان ج1، ص:427)