نحو نظرية سياسية جامعة

تقديم "نظرية الدعوة والدولة" من خلال مأزق النظرية السياسيةلدى الحركة الإسلامية المعاصرة


                                                  مبارك الموساوي


1. تقديم

يروم هذا البحث المركز الوقوف على العامل الرئيس في إخفاق الحركة الإسلامية لحد الآن، مع استثناء التجربة الإيرانية، في بناء نظام سياسي مكتمل الأركان، أو على الأقل أن تكون لها مساهمة دافعة في اتجاه ترسيخ قواعد هذا النظام الذي يضمن واقع الحرية والقوة والاستقلال، على الرغم من زخمها الشعبي الهائل، ومع استنادها إلى مرجعية هي مرجعية غالبية الشعوب التي تتحرك ضمنها، ومع توفرها على كوادر متخصصة ومتنوعة وهائلة العدد.
يستمد هذا السؤال راهنيته ووجاهته من حجم التضحيات التي قدمتها هذه الحركة، ومن حجم الفرص التي صنعتها بفضل هذه التضحيات أو التقت معها في حركة التاريخ، ومن حجم المسؤولية التي تصدت لها.

2. سياق العجز عن بناء النظرية السياسة لدى الحركة الإسلامية

ففي سجل التاريخ الإسلامي، ومنذ الانقلاب الأموي على الخلافة، يقف الباحث أو غيره على حجم مهول من التضحيات، ويكفي ما عاشته هذه الحركة خلال القرن العشرين وما مر عليها من الواحد والعشرين بالتقويم الميلادي.
وقد اجتهد جل مؤسسي هذه الحركة ومنظروها في صناعة الفرص أو التقاط أخرى منذ الحسن البنا، والمودودي، إلى الترابي وراشد الغنوشي، وغيرهم، رحم الله من مات ورحم سبحانه من لا يزال واقفا على ثغر من الثغور، لكن المؤكد أن الحركة الإسلامية لحد الآن لم تجد نفسها لا مؤسسة لنظام سياسي ولا مساهمة فيه ويمكن اعتباره نظاما سياسيا مستقلا وقويا ويضمن الحرية للجميع بديلا عن أنظمة الجمهوريات الوراثية والملكيات الوراثية والإمارات الوراثية والجمهوريات الانقلابية (نسبة إلى الانقلابات العسكرية).
ليس من مقصود هذا البحث المركز أن يقف مع ما كتبه الباحثون حول الفكر السياسي لدى الحركة الإسلامية، وذلك كثير لا تضاهيه إلا الحواشي على حواشي المتون، والتفريع على الفروع وتفريع التفريع عبر تاريخنا العلومي الطويل والغني جدا، دون أن نتجاهل المضمون العلمي المعتبر الذي تصدى له كثير من رجال هذه الأمة، لكن المؤكد هو سعي هذه الحركة إلى إعادة بناء وحدة الأمة وضمان حريات أفرادها وكرامتهم، مع اختلاف في مفاهيم هذه الحرية، والمساهمة في بناء واقع إنساني عادل. ولاشك أنها مقاصد سياسية نبيلة، لكن بأي معنى وبأية وسائل؟
كانت خاتمة تلك الفرص مع ما سمي بالربيع العربي الذي انطلق بدايات 2011م، والذي التحقت به الحركة الإسلامية بعد انطلاقته مباشرة، واستطاعت تنظيمه وتجنيبه في كثير من الدول مزالق العنف والضعف، لكن لم تذهب به إلى مرحلة الاستقرار العادل حيث حصلت الثورة المضادة في مصر وفرضت على الحركة الإسلامية، عموما، تغيير استراتيجية الثورة مع الحفاظ على سلميتها، وهو ما سيتطلب وقتا طويلا قد يفتح الباب على مصراعيه أمام توجه العمل المسلح أو التحاق الشباب بالتنظيمات المسلحة وتعاطف الشعوب معها، وأربكت، أي الثورة المضادة، الوضع تماما في اليمن وليبيا وسوريا (مع خصوصية تتعلق بعلاقة إيران المصيرية مع النظام السوري، وهذا بحث آخر ليس هذا مقامه)، وتراجعت حركة النهضة في تونس من موقع الحكم إلى المركز الثاني بفارق 16 مقعدا مع حزب يحتوي على شخصيات وجمهور من النظام السابق الذي قامت الثورة في تونس على فساده واستبداه حتى أصبح التخوف سائدا من عودة النظام السابق عبر رموز سابقة منه.
ففرصة الربيع العربي خاتمة حيث لن تتكرر فرصة شعبية مثلها في الزمن المنظور، لأن الأمر سيحتاج إلى تضحيات جسام وزمن غير يسير؛ ذلك أن حجم الانشطار، الذي أحدثته الثورة المضادة داخل المجتمعات باعتماد منطق الحرب الضارية والسلاح الفتاك، اخترق المجتمعات عموديا وأفقيا بشكل حاد جدا وخلف جراحا نفسية ومجتمعية وسياسية ليس من السهل تضميضها وعلاجها، فضلا عن انتشار "ثقافة السلاح" التي صارت على الصورة التي لطالما شغلت الطفولة العربية والمسلمة منذ أكثر من نصف قرن من الزمن على شاشات التلفاز حتى صرنا اليوم نرى كل واحد، تقريبا، ببندقيته وربما يعتقد أنها الوسيلة الوحيدة للدفاع عن مصالحه ووجوده (نستثني هنا سلاح المقاومة في فلسطين ولبنان).
فالفكر السياسي، لدى الحركة الإسلامية يجعل من قضية الحكم، غالبا، صلب موضوعه منذ سيادة مفاهيم الحاكمية، مع سيد قطب، رحمه الله، وغيره، ومنذ انتشار فكرة الولاء والبراء عند كثير من فروع الفكر الوهابي سواء جهادية او تكفيرية، إلى مفهوم الخلافة كما تصوره حزب التحرير أو فروع تنظيم القاعدة، وهي فروع من فروع الفكر الوهابي.
لكن المؤكد أن قضية الحكم في أغلب هذه التجارب، إن لم نقل كلها، كانت مسألة موقف وليست مسألة نظرية سياسية متجهة إلى نقد النظريات السياسية القائمة بكل صورها ومدارسها وعرض بديل مستلهم للتجربة النبوية الخلافية (نسبة إلى الخلافة الراشدة) لأجل قيام نظام سياسي يخرج المجتمعات من قبضة الاستبداد والفساد والانقلابات والصراعات الفردانية على الحكم.
إن بناء الموقف السياسي من الأنظمة السياسية القائمة والعمل على تنفيذه مجردا عن نظرية سياسية متكاملة يشكل باب النفق حينما تقترب الحركة الإسلامية من الحكم، ويشكل منصة المشنقة حينما تصل إليه، وهنا تصبح جماهيريتها غير ذات قيمة مصيرية حتى وإن تمكنت من توفير شروط الدفاع عن الموقف أو تحصيل كراسي أو مناصب في هذه المؤسسة أو تلك، وتصبح كوادرها تضخما مهما كان حجم الحراك الذي تقوده، لأنه، ببساطة، صار النفق ضيقا ولا يتحمل هذا الحجم من الكتلة البشرية مهما كان معها من الحق حيث سيحاصرها الفساد القابض على المؤسسات والمتحالف في كثير من المواقع مع رجال أعمال وإعلام وسياسة، وهو ما أدى إلى واقع ترفي حركي وتصوري أدى إلى الانشقاقات والانقسامات.
هنا يكون دور النظرية السياسية المتكاملة مصيريا حيث تكون كالطريق السيار، ولذلك يبقى السؤال جوهريا: لماذا لم تستطع الحركة الإسلامية بلورة نظرية سياسية متكاملة تقودها إلى تحقيق أهدافها التي هي أهداف تحررية؟
فما كشفت عنه فرصة ما سمي بالربيع العربي أنه ليس مطلوبا، فقط، إنجاز المواقف السياسة أو حتى احتلال أجزاء مهمة من المواقع السياسية عبر انتخابات، قد تكون نزيهة، أو عبر عمل مسلح قد يكون مشروعا بمشروعية الثورة المسلحة كما تصورها البعض صوابا، لكن الامتحان الحقيقي هو ما ستقدمه هذه الحركة عند احتلالها لهذه المواقع من أجوبة عن السؤال الاجتماعي وعن سؤال النهضة الاقتصادية الشاملة والتنمية المتحررة، وقبله وبعده عن سؤال المضمون القيمي لهذا الجواب إن كان هناك جواب.
فقد كشفت العمليات السياسية بعد ما سمي بالربيع العربي أن الحركة الإسلامية فقيرة جدا في الباب، ويكفي أن ننظر إلى ما قدمته حركة النهضة في تونس وكيف أجاب حزب العدالة والتنمية في المغرب عن هذا السؤال الهام والحيوي؛ السؤال الاجتماعي، أما الحركة التي لم يستقر لها قرار في الحكم فقلبها لمنهجية الجواب، حيث أخرت أولويات الوضع الاجتماعي، كان عاملا مهما في إتاحة الفرصة الذهبية للثورة المضادة لتكتسح بعنف معاقل الثورة وتعمل على تجفيف منابعها بكل عنف، لتبقى هذه الحركات اليوم أمام سؤال الوجود وكيفيات إعادة بناء قواعد الثورة علميا وعمليا واستراتيجيا ومصيريا.
إن إخفاق الحركة الإسلامية في الجواب عن السؤال الاجتماعي من خلال نظرية سياسية متكاملة لم يمكنها من استثمار قوتها في الباب، كما جعلها في موقع بالغ الخطورة على مستقبلها في الحالات التي تقدمت بالجواب عن الأسئلة الاجتماعية الملحة عبر ما اقترحته مرحلة "النيولبرالية" من طرف صندوق النقد الدولي وأخواته من صناديق الاقتصاد والمال الدوليين؛ نموذج مقترحات الحكومة في المغرب حول حل معضلة صناديق التقاعد، والرهان على نظام التسول المنظم (دعم الأرامل من النساء وما شابه)، ونموذج الرهان في مصر أيام الرئيس مرسي، ومع حكومة النهضة على الاقتراض الخارجي الذي لن يعمق إلا واقع العجز، في ظروف الثورة، في جميع الموازنات وتكريس التبعية التي قامت الثورة لإنهائها ويؤدي إلى كسر رجل الثورة اليمنى حيث تهتز العلاقة مع الشعب الذي ينتظر الخبز، وكسر الرجل اليسرى لما لا يفتح أفق الاستقلال الاقتصادي.

3. لماذا لم تنتج الحركة الإسلامية المعاصرة نظرية سياسية متكاملة؟


من المعلوم تاريخيا، حينما يكون الأمر يعني أمة أو شعبا، فإن النظريات السياسية هي الوسيلة العلمية الأساس لتعبيد طريق بناء أنظمة سياسية كبرى تدور على معنى الحرية والقوة والاستقلال، ولذلك يكون وراء صناعتها وصياغتها عاملان مهمان؛ قوة تصورية (مشروع مجتمعي متكامل) والتحكم في تجميع خبرة تاريخية حركية ذات سياق متكامل عبر قيادة جامعة وعالمة وحكيمة تقود عملية بناء النظام السياسي الكفيل بتحقيق تلك المقاصد (الحرية، القوة، الاستقلال)، وبتوفير عناصره الذاتية القادرة على تقويض امتداد المؤامرات الخارجية والتصدي للأزمات الداخلية في أي مجال وعلى أي حال، ولا يسمح بعودة الاستبداد والفساد مرة أخرى.
ولذلك لا يمكن نسبة انتصار الثورة المضادة أو فشل الحركة الإسلامية في تحقيق مقاصدها السياسية، مهما كانت نبيلة، إلى عامل المؤامرة الخارجية على خطورته، لكن يتحقق الفشل لما لا تتوفر العناصر الذاتية الكفيلة بصناعة عوامل المقاومة والممانعة وضمان الاستمرارية في بناء أركان النظام السياسي مهما كانت الظروف.
ولا شك أن ما يوفر تماسك العناصر الذاتية ونسقيتها الحركية البنائية هو وجود نظرية سياسية متكاملة تكون الوسيط العلمي والمعرفي والعملي الحركي بين مضامين التصور (العلم) وبين مضامين الموقف اللحظي من جهة، وبين هذا الموقف وبين تنفيذه من جهة ثانية، ليكون لبنة في مكانها المناسب وزمانها المناسب ضمن الاستراتيجية العامة لبناء ذلك النظام السياسي وتوفير عناصر الحفاظ عليه وتطويره واستمرارية صلاحه بتحصيل الثقة العامة فيه.
فالأمر لا يتعلق بمواقف فكرية عامة، ولا بمواقف تنفيذية وتنظيمية آنية، بل بخريطة ذهنية تصورية متكاملة ومتماسكة تنظم الحركة اليومية وتفاصيلها وتفعلها بشكل ناجع وفعال ومقتصد في اتجاه تحقيق المقاصد السياسية التي يكون النظام السياسي إطارا لها ووسيلتها المحورية.
ومعنى هذا أن النظرية السياسية، في الوقت الذي تنظم الجانب التصوري وفق نسقية علمية، فإنها تضع المعنى الهيكلي لتنظيم حركة المجتمع؛ سواء في فترة المعارضة أو في فترة الحكم، وبذلك تكون النظرية السياسية مستوعبة لكل سناريوهات التغيير المتوقعة وغير المتوقعة كما مستوعبة لكل الأزمات المحتملة وغير المحتملة لرهانها على القوة المجتمعية الواضحة الأفق السياسي.
ولا شك أن هذا لا يوفره نظام تفكير سياسي ضيق مشتغل كليا على مضمون الموقف السياسي من الحكم القائم، لذلك جنت الحركة الإسلامية مآسي كثيرة، وما زالت تجنيها إلى الآن في كثير من المواقع، لما بنت حركتها السياسية على الموقف من الطاغوت وضرورة كسر شوكة هذا الطاغوت وضرورة الحكم بما أنزل الله، أو على منطق إصلاحي جزئي لا يستند إلى نظرية سياسية تحررية.
إن صياغة الحركة بناء على موقف جزئي مجرد عن نظرية سياسية متكاملة تبني نظاما سياسيا كبيرا ومتكاملا، وقبل ذلك تعطي لهذا الموقف مضمونا علميا بديلا عن مجرد أفكار فرعية أو حتى انفعالات نفسانية أو اجتهادات عفى عنها الزمن وتجاوزتها حركة التاريخ، لن يؤدي إلا إلى ضيق تصوري وهيكلي تنظيمي يفضي إلى الإقصاء التلقائي للكفاءات المؤهلة لبلورة هذه النظرية والعمل على تفصيلها ومتابعة العمل على ضوئها وتقييمه بناء على معاييرها، كما يؤدي إلى معارك هامشية أو جانبية، أو إلى نفق حركي تنظيمي لا يمكنه أن يستوعب المضمون التاريخي لحركة أمة لها مرجعية كبرى جامعة، خاصة لما تكون هذه المرجعية رسالة إلى العالم، ذلك أن الأنظمة السياسية الكبرى ترتبط دائما برسائل حضارية كبرى يجب أن تعكسها وتخدمها.
فالحركة الإسلامية، عموما، لم تقدم نظرية سياسية تؤسس لنظام سياسي في مستوى الرسالة التي تحملها للعالم، ولا شك أن وراء هذا عوامل كثيرة سنجمل أهمها في هذا البحث المركز في محاولة للبحث عن مخرج لهذه الحركة في ظروف سياسية بالغة التعقيد داخليا وخارجيا.

العامل الأول: بناء حركة سياسية على رد فعل

تعتبر الحركة الإسلامية المعاصرة، في غالب تنظيماتها ورجالها، رد فعل عقدي وسياسي على تداعيات سقوط "الخلافة العثمانية" باعتبارها كانت تمثل شوكة الإسلام، ولذلك نجد مواقف الإمام البناء، رحمه الله، السياسية والحركية تستند إلى هذا المبدأ حيث كان الحرص على بيان وتثبيت مضمون شعار: "سياستنا دين وديننا سياسة"، ومن هذا المنطلق يمكن اعتباره مجددا في القرن الرابع عشر هجري حيث قام بجهد عظيم حركي مصحوب بغزارة لا بأس بها من جهة البيان العلمي والخطابي العارض للمواقف العقدية والسياسية العاملة على تصحيح العلاقة بين الدين والسياسة، وتجسد هذا المجهود في بناء "جماعة الإخوان المسلمون" التي ما زالت تشتغل على هذا الرصيد من المواقف في محاولة، دون تجديد كبير فيما قام به البنا في ظروف معقدة، لتفويت الفرصة على ترسيخ مبدأ "اللائكية" الذي تبناه نظام أتاتورك في تناغم تام مع ما تروج له التجربة الغربية ونخبها في البلاد العربية والإسلامية من فصل الدين عن الدولة، الذي ترسخ أكثر بعد خروج المستعمر من البلاد العربية والإسلامية وخلف من ورائه نخبة في الفكر والسياسة والإدارة والتربية والتعليم مقتنعة بهذا المبدأ (فصل الدين عن الدولة)، ولذلك استغرقت مناقشة هذا المبدأ وقتا وجهدا كبيرين لدى القيادات التاريخية وقيادات الفكر دون أن تسنح الفرصة لبلورة نظرية سياسية جامعة، ولذلك عرفت الجماعة انشقاقات قطرية ومن جهة تنظيمها الدولي بسبب مواقف سياسية لا مرجعية.
ومن المعلوم أن جل الكتاب والمفكرين اشتغلوا على هذا النمط مع إضافات لا ترقى إلى بناء النظرية السياسية، الأمر الذي لا ينفي أن كثيرا من المفكرين والباحثين تصدوا لمفهوم النظرية السياسية في الفكر الإسلامي منذ أواسط القرن العشرين الميلادي، لكن الملاحظ أن أغلب هؤلاء بحثوا وكتبوا من خارج حركة التنظيمات الإسلامية، في الغالب، أو كانوا على هوامشها، أومن داخل المجالات الأكاديمية، وهو ما وفر تراثا معرفيا وعلميا قلما استفادت منه الحركة الإسلامية، مما وسع الهوة كثيرا بين هذه النخبة وبين هذه الحركات.
ولعل هذا شكل مؤشرا على ما ندعيه في هذا البحث من كون مفهوم النظرية السياسية، كإطار معرفي وأداة عملية وعملية، غاب عن البناء التصوري لدى الحركات الإسلامية، حيث اتجهت القيادات بشكل شبه كلي إلى تنفيذ المواقف الجزئية والبحث عن مستنداتها الشرعية على أساس منهجية أصولية تقليدية مبنية على معاني التجريد والجزئية دون إعطاء الوقت الكافي لصياغة النظريات الجامعة الكفيلة بنقل الموقف من مستوى النظر الجزئي إلى مستوى البناء العملي المتكامل استراتيجيا ومصيريا، ولعل الغموض الكبير أو الالتباس الذي أحاط بمفهوم الشورى لدى جل الحركات الإسلامية خير دليل على هذا.
ولذلك ففعل الحركة الإسلامية السياسي في ظروف معقدة ومتشابكة لم يكن إلا رد فعل اتجاه ثلاثة قضايا كبرى؛ سقوط "الخلافة العثمانية"، وتوسع قاعدة النخبة المغربة وتغلغلها في دواليب الحكم والإدارة والتربية والتعليم والإعلام المشتغلة على قاعدة مبدأ التجربة الغربي؛ فصل الدين عن الدولة، وقيام أنظمة استبدادية وراثية أو انقلابية عسكرية تتلاعب بالدين وقضاياه وفق هواها ومصالحها وجندت لذلك كثيرا من رجال العلم والمعرفة والأعمال والإعلام.
وما يقتضيه المقام هنا الإشارة إلى أن الفعل السياسي لدى الحركة الإسلامية، لما لم يبن على عملية تجديد شاملة لأنظمة التفكير والاجتهاد في الفكر الإسلامي، وجد نفسه رهينة الرصيد التراثي في الفقه السياسي السلطاني وإن حاول التخلص من هيمنته في محاولات جزئية لا ترقى إلى مستوى توفير إمكانيات التحرر الشامل منه والتأسيس لفقه وتفكير سياسيين إسلاميين مناسبين لحجم الطموحات التي تروم الحركة الإسلامية إنجازها.
فهو لم يتخلص من المنطق المصلحي التبريري، مما جعله ذا مضمون إصلاحي جزئي، الأمر الذي لم يوفر له القدرة العلمية الذاتية لمجابهة التحديات التي تطرحها الأنظمة السياسية القائمة والنظريات السياسية القادمة من التجربة الغربية، مما جعله في اللحظات الحرجة جدا ينتكس وينكمش وربما يتحول إلى ردة فعل عنيفة تزيد من ضعفه وضعف حركته من الناحية الاستراتيجية والمصيرية، وقد يلجأ، في هذه اللحظات الحرجة، إلى تقديم إجابات ليست من صلبه بل مستوردة من خارجه.
لذلك نجد أنه كلما عاشت الحركة الإسلامية صدمة حركية تخرج من جنباتها ردات فعل عنيفة لا تستطيع الصمود أكثر من بضعة شهور أو سنوات ثم تتلاشى أمام نوع وحجم المطلوب تكتيكيا واستراتيجيا.
فغياب النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية، مهما كان رصيد خطابها السياسي وحجمها الجماهيري، جعلها بين خيارين ولم تنفتح على ثالث؛ خيار البحث عن "ثقب ديموقراطي" تحت أنظمة استبدادية ظاهرا وباطنا، وخيار الانقلاب العسكري أو العمل العسكري، وفي كلا الوضعين، لحد الآن لم نر نجاحا كبيرا يحسب إلا تراكم التضحيات والتضحيات وكأن الحركة الإسلامية وجدت لصناعة الموت لا التاريخ.
فسيادة المنطق الإصلاحي التبريري الجزئي في بناء الموقف السياسي كرس تموقعا ناقصا لدى الحركة الإسلامية، وفرض عليها تبني مفاهيم فضفاضة؛ كمفهوم الحضارة والخلافة والتنظيم العالمي، أمام حجم ما يطرحه نظام عالمي قوي يستند إلى أنظمة سياسية كبرى وعريقة وقوية في علاقة مصلحية مع أنظمة محلية قائمة على الاستبداد المطلق لا تتوانى عن اعتماد الوسائل القذرة في مواجهة المد الإسلامي.
إن سيادة هذا المنطق هو نفسه مؤشر على غياب النظرية السياسية التجديدية، حيث من وظائف هذه الأخيرة بناء نظام تفكير متكامل ونسقي يحرك الموقف السياسي ضمن حركة استراتيجية تجديدية تقترح نظاما سياسيا متكاملا بديلا عن أنظمة ظاهر قيامها على الفساد والاستبداد واحتكار السلطة ومصادر الثروة وتسخير كل واحدة منها لخدمة الأخرى، ومتعارضة مع مصالح الدين ومقاصده، إذ لا مصلحة تجنى من داخل مفسدة الحكم الشمولي مهما كانت نعومته، لأنه يسخر حركة الدين لترسيخ وجوده ولا يقبل إلا أن تكون حركة الدين تحت إبطه وسقفه.
فالمنطق المصلحي التبريري، الذي قد يوجد له مبرر في ضرورة الحفاظ على بيضة الإسلام ووحدة المسلمين تحت ظل نظام سياسي غير شرعي وقائم على اغتصاب الحكم وتوريثه، لم يعد له معنى اليوم لما تمزقت هذه الوحدة وتكسرت هذه البيضة وانشطر المجتمع أفقيا وعموديا في كثير من الأقطار لا يتوقف نزيف تجزئتها إلا ليستمر على صور بشعة من القتال والتقاتل وتهيئة أرضية مناسبة لاختراقات المؤامرات الخارجية التي لا تتوقف إلا لتستعد للاقتحام بعنف متجدد.
ولذلك فمستند النظرية السياسية يكمن في وجود تصور علمي متخلص من المواقف الانطباعية أو الجزئية المبنية على روح ردة الفعل التاريخي، ومنطلق من وحدة العلم التي تفضي حركتها الميدانية إلى وحدة رجال العلم ليقودوا من خلال مشروع تغييري مجتمعي النهضة الشاملة لبناء واقع الحرية والقوة والاستقلال.


هناك رصيد علمي غزير خلفته تجربة الإمام ابن تيمية، رحمه الله، عند تعاطيه في ظروف مضطربة مع قضايا مختلفة منها قضية الحكم والموقف منه، وقد تأسست حركة محمد بن عبد الوهاب على رصيد تجربة ابن تيمية في جوانب كثيرة منها كما فهمها محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، دون أن نتجاهل الرصيد الخلافي العقدي الذي يرتبط بالتكفير عبر تاريخ المسلمين الذي تفرع عن الانقسامات المتتالية في الفكر الخوارجي والذي استطاع، بحكم لجوئه إلى منطق ساذج في التكفير وبناء المواقف، اختراق منظومات التفكير والاجتهاد لدى كثير من علماء الحجاز، لذلك لما قام محمد بن عبد الوهاب بحركته الإصلاحية لم تخل تفاصيل تفسير مذهبه من هذا النمط من التفكير والاجتهاد السريع الانقسام لكونه ضيق من مجال إعمال الاجتهاد وبيان العقيدة عبر سيادة منطق التكفير والطائفة الناجية بالارتكاز إلى فهمه للدين والشريعة. وقد اضطر محمد بن عبد الوهاب، في لحظة معينة أن يتحالف مع آل سعود ويقيم دولة قائمة على الوهابية فكرا وفقها، علما بأن آل سعود هم الذين تأبطوا حركة ابن عبد الوهاب وليست هذه الأخيرة هي من جند معها هؤلاء كرجال دولة.
وهنا حصل زواج تاريخي كرس واقعا سلبيا، سواء من جهة تجديد الفكر والفقه، أو من جهة عرض مضمون الدين ومعناه.
فما جرى في التاريخ أن الحركة الإسلامية في الوقت الذي توجهت، على العموم، إلى معارضة أنظمة الحكم القائمة بمناهج مختلفة، كانت المؤامرة الخارجية الغربية ترتكز على حتمية محاربة هذه الحركة، خاصة لما ترسخت دولة الكيان الصهيوني في فلسطين، وقد أدرك رواد هذه المؤامرة، من خلال مكاتب الدراسات وخبرائها واستخباراتها، حجم التعارض الجوهري بين الحركات الإسلامية الأخرى بكل مدارسها وبين الحركة الوهابية، مما دفع بهم إلى تجنيد كل الإمكانات المادية والإعلامية لينتشر هذا الفكر بشكل سريع ومفاجئ وكاسح بحكم وجود أنظمة سياسية تتحالف معه وتبني أنظمة تفكيرها على قواعده ومن خلال رجالاته، وقد تجلت نتيجة هذا الهجوم الكاسح للفكر الوهابي في ثلاثة أمور أساسية:
الأمر الأول: اختراقه بدرجات متفاوتة للحركة الإسلامية عموما، وهو ما أثر على كثير من مواقفها الفكرية والسياسية والحركية والفقهية، وغيرها، إذ لم تنج منه، تقريبا، أية حركة إسلامية. ومن المعلوم أن هذا الاختراق كان من أهم عوامل تكريس وتعميق موقف سلبي من الشيعة خاصة بعد ثورة الإمام الخميني، رحمه الله، أفضى إلى تعميق الهوة بين إيران والعالم العربي وأغلب الحركات الإسلامية بما فيها جماعة "الإخوان المسلمون"؛ حيث ظهر ذلك جليا مع ما سمي بالربيع العربي، دون أن نغفل أخطاء كثير من قيادات الثورة الإيرانية السياسية والتواصلية مع الدول العربية بعد الثورة في إيران.
ولعل تعقد ما سمي بالربيع العربي كان نتيجة هذه العلاقة المتشنجة مع إيران خاصة لما قاد هذه العلاقة امتداد الفكر الوهابي في الفكر السياسي السني، خاصة منه التكفيري.
الأمر الثاني: توجيهه سهام نقده إلى الحركة الإسلامية أكثر من غيرها، مع اعتماده فقها منحبسا تجاه خصومه حيث وظف مفاهيم التكفير وما شابهها، وهو ما عبأ بشكل صراعي حاد وقاس كثيرا من تيارته، وإن عرف مراجعات فكرية وعقدية عند بعض رموزه لا ترقى إلى مستوى التغير الجوهري، إلى أن وصلت هذه التعبئة عنتد كثير من فئاته إلى اعتبار الحركات الإسلامية من صنف المرتدين؛ فتعامل معها بناء على فتوى: محاربة المرتد أولى من محاربة الكافر.
الأمر الثالث: أن حجم التعبئة والاستقطاب الكبيرين أديا به إلى درجة من التضخم الحركي والعلومي لم تعد وضعية الزواج بينه وبين أنظمة سياسية تقليدية جامدة، كالنظام السعودي، قادرة على استيعابه، خاصة لما كشف توالي الأحداث والسنوات ضعف هذه الأنظمة وسقوطها في خدمة استراتيجيات الغرب في المنطقة، بالإضافة إلى فسادها السياسي والمالي والأخلاقي، وهو ما جعله ينقلب عليها تكفيرا، ومن ثمة قتالها بناء على موقف لا على نظرية سياسية متكاملة، كما أدى هذا التضخم إلى واقع ترفي في الفهم والحركة لدى هذا التيار، وهو ما انعكس في صورة انشقاقات لا حصر لها وستستمر بشكل غريب وعنيف تستثمره وتعمقه أجهزة الاستخبارات الرسمية العربية والغربية.
إن وضعية الزواج بين الفكر الوهابي والنظام العائلي الوراثي في غالب دول الخليج، التي أفرزت ردة فعل عنيفة على هذه الأنظمة والشعوب كذلك، شكلت عامل انحراف إضافي إلى عامل سيادة المنطق المصلحي التبريري على المواقف السياسية اتجاه أنظمة سياسية قائمة على الاستبداد وتتحكم في جميع مفاصل الحياة المجتمعية والسياسية وخادمة لاستراتيجيات الهيمنة الغربية على المنطقة، لذلك لا مستقبل للحركة الإسلامية ما لم تفكك علميا وعمليا هذه العلاقة المزورة بين الإسلام وبين أنظمة العائلة، وتخرج من قبضة الموقف السياسي الجزئي إلى موقف النظرية السياسية العارضة والواصفة والكاشفة لحجم المشروع التغييري الذي تشتغل عليه هذه الحركة، ومن هيمنة الفكر الوهابي، خاصة التكفيري منه، حتى ولو كان حاضرا بشكل جزئي في بنائها التصوري لقضايا العقيدة والدين والسياسة والاجتهاد وغيرها، لتعانق المستوى العلمي الجامع وتخاطب من خلاله حاضر ومستقبل الأمة والإنسانية.


نعم، يمكن أن يجد الباحث لدى كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة تصورات سياسية عامة، لكنها لا تنتظم ضمن نظرية سياسية ساهرة، بكل وضوح ويقظة، على بناء المراحل السياسية والحركية، وذلك راجع، أساسا، إلى فقدان القاعدة العلمية الجامعة.
فقد وجدت الحركة الإسلامية المعاصرة نفسها تحت ثلاثة أثقال جسيمة؛ ثقل أنظمة سياسية وراثية واستبدادية أضيفت لها انقلابات عسكرية فتاكة هي نتيجة الانكسار التاريخي بانقلاب بني أمية على الخلافة، وثقل علومي فرضه الهجوم الغربي من خلال الاستعمار وقضايا العلم والعلوم ومناهجه ونظرياته المتطورة والسريعة التغير والمتماسكة السياق والنسق المسندة بقوة عسكرية غازية، وثقل البعثرة العلمية والعلومية الإسلامية الضاربة في أعماق أنظمة التفكير والاجتهاد؛ حيث جعلت العلاقات المجتمعية تتمرتس وراء مواقف فقهية وعقدية جزئية، مما أدى إلى تمزق علمي حاد في الوسط الإسلامي لولا إطلالة أكابر العلماء من خلال معاني ومباحث مقاصد الشريعة التي لم تتحول بعد إلى أداة علمية جامعة بسبب حجم التمزق والتفتت العلمي والعلومي الشائك عبر تاريخ الانكسار وسد أبوب الاجتهاد في مراحل تاريخية متعددة، وبسبب عامل تمزق العلماء، إذ لا مدخل للوحدة والقوة إلا بوحدة العلم ووحدة العلماء وقوتهم ضمن الحد الأدنى الذي يجب أن تقود الحركة الإسلامية، قبل غيرها، مهمة إنجاز هذا الواقع الوحدوي من خلال تكريس البحث العلمي الجامع في الباب، ومن خلال عملية تواصلية قوية وجامعة بين العلماء معهم المفكرين والمثقفين والباحثين الفضلاء.
إن هناك غرابة في أن لا تقود الحركة الإسلامية هذه المعركة المصيرية، إذ نجد، في الغالب، العكس، حيث جل الحركات الإسلامية تخلو من ثقل العلماء إن لم تكن لا تتوفر على قابلية الاستيعاب العلمائي، كما تركز على ما يخدم تصوراتها الخاصة دون البحث عن القواسم والعوامل المشتركة، وهي لا تحصى، بين المسلمين لتفعيلها وتنظيفها من لوثة تاريخ الانكسار والانحراف وتحقيق معانقة هذه المشتركات العلمية مع تصوراتها الجامعة ليكون كل ذلك دفعة قوية نحو وحدة المستقبل كما هي وحدة المصير.
وإن إغفال هذه الواجهة المصيرية لدى حركة الإسلام والأمة جعل من الحركات الإسلامية، في الغالب، تنظيمات محترفة للسياسة أو الفكر أو الفقه أو هذه مجتمعة على درجة من الغموض وغياب النسقية، الأمر الذي جعلها وكأنه ليست هناك فروق جوهرية بينها وبين الأحزاب السياسية بمفهومها التقليدي، ولذلك فلن تكون إلا رقما من الأرقام يتحرك ضمن لعبة التوازنات والمغالبات حول السلطة صعودا وهبوطا، حيث تم اختزال، في الغالب، الحركة الإسلامية في الموقف السياسي الذي قد تجعله متقلبا أحوال السياسة المحلية أو الدولية أو هذه مجتمعة.
نعم، لا يعني هذا عدم وجود علماء ومفكرين ومثقفين في صفوف الحركة الإسلامية أو عدم وعيها بأهمية مهامهم في البناء والاستمرار في التجديد، لأن حديثنا هنا ليس عن العالم أو المفكر أو المثقف العضوي على قلته بالنسبة لحجم العلماء في الأمة، لكن المقصود أن قوة هؤلاء داخل جسم الأمة حينما تنظم عبر جسم الحركة الإسلامية مشروعا كاملا يغطي كل حركة المجتمع؛ فذلك تجل واضح لتحقيق الحد المطلوب من القاعدة العلمية الجامعة، حيث هذه القاعدة الموحدة علما ورجالا ضمن حركة مشروع كامل هي معنى تجديد سياق حركة الأمة التاريخية وتجديد بناء نسقها العلمي والمعرفي المستقل عن التجربة الغربية حيث يحقق منها الاستفادة الحضارية دون تكريس واقع التبعية لها، والمتحرر من ثقل التاريخ والبعثرة العلومية الضاربة في عمق الحركة التاريخية للأمة، والمتجلية اليوم في هذا الحجم الرهيب من التقاتل والعنف، كما يحقق هذا المشروع الكفاءة ونجاعة الاستفادة البنائية من هذا التراث العريق والغني لأمة "اقرأ وارق" .
هنا نقف على مسألة بالغة الخطورة، ولم تأخذ حقها من البحث الكافي للكشف عن حقيقتها ومهمتها، وهي ما يخرج الحركة الإسلامية من دائرة التمزق إلى دائرة العمل الوحدوي، ومن دائرة الشتات العلمي إلى دائرة وحدة العلم، ومن دائرة المعنى الحزبي الضيق لحركتها إلى دائرة المعنى المجتمعي حيث القوة والوحدة والاستقلال، وهي أمر القيادة الربانية التي ليست هي القيادة العلمائية وليست هي القيادة الفقهية وليست هي القيادة الفكرية وليست هي القيادة السياسية، إذ لكل هؤلاء مهام البناء التفصيلي لقواعد العلم التصورية والحركية والاستراتيجية، أما القيادة الربانية فهي وعاء العلم الجامع، علم الغاية، علم المعاملة القلبية مع الله تعالى ومع الخلائق، علم البصيرة حيث الضوء الكاشف للطريق السيار إذ يجتمع فيها نور الوحي ووراثة النبوة وهو ما يحقق المضمون الرسالي في حركة المجتمع ومؤسساته، وبهذا فقط نستطيع أن نقهر كل معاني القسوة والغلظة والأنانية ونفتح آفاق المحبة والرفق والحلم والرحمة والعلم وفق أدوار استراتيجية لكل مكونات الأمة على قاعدةوما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .
إن هناك عجزا واضحا، بعد كل هذه التجارب التي عاشتها الحركة الإسلامية، في تعميق البحث حول نوع وماهية القيادة التي يجب أن تقود الحركة الإسلامية.
هنا، بالضبط، نقف على مدخل النظرية السياسية التي لطالما بحثت عنها هذه الحركة وجربت ما تتيحه الديموقراطية من ثقوب ولم تسلك منها، وما توفره الانقلابات العسكرية من "قوة"، وربما من عنف، ولم تلج منه.
هنا، بالضبط، نقف على مدخل الطريق الأخير إلى نظرية سياسية كبيرة تبني نظاما سياسيا كبيرا على قواعد الحرية والعدل والكرامة، ويحقق واقع الوحدة والقوة والاستقلال.
وبهذا، فالكنز الاحتياطي لدى الأمة، ليس هو البترول والمال، وليس هو القوة العسكرية والمادية، وهو أمر ضروري ومصيري، لكن هو هذا العمق القيمي الجامع، هم أولئك الرجال الذي يحملون في قلوبهم معنى الرسالة، التي هي مسيرة أجيال عبر التاريخ، هم قادة السفينة في هذا البحر الموار والأحداث المحيرة، وعلى الأمة ورجال المروءة من أهل البحث والفكر والثقافة أن يبحثوا عنهم ويجتهدوا في استنباط وظائفهم ومواقعهم في حركة الأمة والتاريخ.

4.نحو نظرية سياسية متكاملة

هنا سنقف على نموذجين، بشكل مركز، في محاولة لاستشراف نظرية سياسية تناسب الحركة الإسلامية، وتفتح أفق إعادة بناء هذه الحركة على قواعد تجديدية تليق بحجم المشروع الذي تحمله وبالغاية التي تعمل لأجلها.
فقد شكل الموقف التاريخي الذي قاده "الإخوان المسلمون" في مصر بعد الانقلاب العسكري على ثورة 25 يناير كأداة مناسبة لإنجاز مؤامرة الثورة المضادة، لحظة فارقة في تاريخ الأمة.
ففي الوقت الذي أدت فيه الحركة الإسلامية في مصر ثمنا باهظا، لعدم توفرها على نظرية سياسية متكاملة وخوضها معركة مصيرية شاملة في لحظة تاريخية حاسمة دون هذه الأداة الضرورية، حقق الموقف الإنساني من الثورة المضادة إنجازا كبيرا، حيث أنهى هذا الموقف هيمنة ثلاث نظريات - متجاوزة منذ مدة لكنها ما زالت هي الفاعلة، بل هي العائق - على التفكير السياسي لدى غالب الحركة الإسلامية السنية، وهي نظرية توريث الحكم، ونظرية المستولي بالسيف، ونظرية الاستلاء على الحكم عبر الانقلاب العسكري.
نعم، هناك اختناق سياسي حاد في المجتمع المصري، لكن ما هو استراتيجي يؤكد أن الحركة الإسلامية حققت مكسبا عظيما على هذا المستوى لا شك ستكون له ارتدادات وآثار على جميع الأقطار العربية والإسلامية، لأن محنة الحركة الإسلامية في مصر ستُخرج منها قيادات واعية جدا بالمدخل الحقيقي للتغيير الإسلامي، خاصة "الإخوان المسلمون" نظرا للرصيد الذي خلفه في بناء الحركة ومعناها الإمام البنا رحمه الله، لأن هذه القيادة ستنفتح ضرورة على آفاق من خارج تجربة الحركة الإسلامية في مصر، وساعتها سنكون أمام تحول جوهري في حركة المجتمعات العربية والإسلامية.
لذلك نعرض هنا بشكل مركز لنموذجين إسلاميين أمام هذا التحول الجوهري والتاريخي الحاصل، حتما، وإن استغرق وقتا طويلا، في صفوف الحركة الإسلامية المعاصرة حيث تظهر اليوم الإخفاقات السياسية الكبيرة بنسبتها للبشر، وما هي إلا عمليات تصحيحية بالقدر.

النموذج الأول: نظرية ولاية الفقيه في تجربة الثورة في إيران

وهي النظرية السياسية التي نظمت المعارضة لنظام الشاه في إيران ثم أقامت نظاما سياسيا حكم وصمد لحد الآن بعد الثورة التي قادها الإمام الخميني على هذا النظام.
فمن الأخطاء الجسيمة التي وقعت فيها غالبية الحركة الإسلامية في العالم العربي أن تفاعلت سلبا مع هذه الثورة، مما أدى إلى غلبة الموقف الوهابي منها في لحظة امتداد آثارها خارج حدود إيران، خاصة مع عمل الغرب على تقويض هذا الامتداد ومحاولة قطع جذوره ابتداء لما دعم وأغلب الدول العربية حرب صدام حسين على إيران لمدة ثماني سنوات، وقد كانت حربا ضارية ومدمرة.
وقد تجلى هذا التفاعل السلبي في صورتين، إما الانبهار ثم محاولة التقليد، وهذه كانت محاولات محدودة لم تؤد إلى نجاح معنى تصدير الثورة كما تبنته بعض القيادات الإيرانية ابتداء، وإما عدم تعميق الحديث والبحث في هذه الثورة كتجربة تاريخية كبيرة لتحصل الاستفادة منها كما يستفاد من جميع التجارب الإنسانية، وهو ما لم يحصل، مما شكل عامل ضعف كبير في ماسمي بالربيع العربي، لأن هذه اللحظة التي نهضت فيها الشعوب كان من المفروض على القيادات التاريخية أن تكون قربت الهوة بين إيران والعالم العربي، واستثمار الزحم الثوري الذي وفرته في العالم العربي والإسلامي، الأمر الذي كان سيقوض الجوانب السلبية في الثورة الإيرانية حيث ستظهر لها مصالح القوة والمنعة في المحيط العربي والإسلامي، خاصة لما حصلت انتصارات تاريخية واستراتيجية للمقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان، وفي نفس الوقت يوفر عامل قوة لنهضة العرب.
إن الزخم الثوري، المغذى شعبيا بنزعة مذهبية حادة وخارجة من كبت تاريخي عميق، لم تتح الفرصة لسماع العقل في تدبير العلاقة بتوازن كبير مع الشق الثاني للأمة، خاصة لما ووجهت الثورة من طرف زعماء العرب، الأمر الذي ترتبت عليه معاملة غير مقبولة اتجاه السنة في الداخل الإيراني، وهو ماعمق الهوة أكثر وكرس فقدان الثقة.
وقد تعقد الأمر أكثر لما تصدر المشهد بعد انحسار الربيع العربي التفكير والموقف الوهابيين، حيث تعلم القيادات الشيعية أن هذا التيار مازال يعمل بفتوى مقاتلة الشيعة أولى من مقاتلة الكفار، وأن امتلاكه لأي موقع القوة سيكون موجه لإيران، مما جمع كل تيارات ومذاهب التشيع لمحاربة هجوم الموقف التكفيري الذي لن يرحم شيعيا.
لقد كنا جميعا، نحن العرب والمسلمون، وفي فترات تاريخية متعددة، ضحايا غياب النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية في العالم العربي لما تصدرت المشهد المجتمعي والسياسي، وهو ما جعلنا لقمة سائغة لمن بنى أنظمته السياسية الكبرى على نظريات سياسية كبرى فوظفنا ضمن استراتيجيات هيمنته الكبيرة على العالم، ومن هنا كانت ثورة إيران فلتة تاريخية سيحرص الغرب على عدم تكرارها، لكن التاريخ يقول: إن الهيمنة على الجغرافيا لا تعني الهيمنة على التاريخ، ومن ثم لا تعني الهيمنة على الإنسان والكون، وهو ما يعني إمكانية تكرار هذه الفلتة في حجم أكثر قوة وتأثيرا في مسار التاريخ والكون، بل يمكن صناعة نهضة مكتملة الأركان وممتدة في الزمان تحرر العالم وتنصف المستضعفين في كل مكان، وهو ما سيكون مدخلا جديدا للعمل على لحمة الأمة وفق رؤية جامعة تكون قد قطعت مع التفكير الانشطاري سواء في الصف الشيعي أو الصف السني، وهذه مسيرة أجيال لا بد أن تمر من معناة وصدمات عديدة حتى تصل إلى هذا المستوى من الوعي المصحوب بإرادة عملية حرة.
فمن الواضح أن الإمام الخميني كان الرجل المحوري في تطوير نظرية ولاية الفقيه وتنزيلها عمليا من خلال استراتيجية معارضته لنظام الشاه واستراتيجية إنجاز الثورة وترسيخ أركان نظام سياسي مستقل قاوم حرب صدام المدعومة من طرف دول عربية وغربية، وقد كانت حربا عاتية وضارية استهدفت قتل الثورة في مهدها مضافة إلى حجم العمل الداخلي الموجه ضد القيادة الجديدة للثورة حيث في ظرف وجيز ثم اغتيال أغلب وأهم قيادات هذه الثورة.
ليس هنا مقام الوقوف على بعض أخطاء الثورة في إيران، ولا مناقشة ما آلت إليه هذه الثورة منذ 1989، لأن فقدان أكثر من 75% من أهم قيادات الثورة في أقل من ثمانية أشهر بعد قيامها يشكل مبررا مضافا إلى حجم التحديات التي واجهتها في مهدها ولا نصير لها في الخارج، لكن المقصود بيان مضمون هذه النظرية لندرك أن إيران الثورة لم تصبح قوة إقليمية في طريقها إلى قوة دولية بمجرد أنها أسقطت حكم الشاه وتخلصت من كل تفاصيله وعبأت الشعب ضد حكمه، لكن لأنها، أي الثورة في إيران، كانت نتيجة تاريخية لمسار تاريخي ممتد في الزمن الإسلامي وعرف تقلبات هامة في البحث العلمي نحو بناء نظرية سياسية تخرج التشيع من نفق أزمة فكرية سيصبح معها الشيعة مجرد كم بشري منتظر ظهور الإمام المهدي كما يتصوره الشيعة، خاصة المذهب الإثني عشري.
تشكل قومة الإمام الحسين، رضي الله عنه، القاعدة النموذجية لحركة الإنسان الشيعي في الوجود الإنساني وسند ثورته ضد الظلم، ولذلك كان موقف الشيعة من الظلم موقفا جوهريا، لكن غيبة الإمام، كما يعتقدها الشيعة، شكلت فراغا فقهيا وسياسيا، خاصة أن للإمام وظائف متعددة؛ منها الفقهي والسياسي والتربوي والمجتمعي والاقتصادي والمالي، وغيرها من الوظائف، الأمر الذي فرض اجتهادات متعددة، قد تكون متعارضة وحتى خرافية في بعض الأحيان، لكن ما يهمنا هنا هو فكرة تولي الفقيه بعض مهام الإمام في انتظار ظهوره، وقد انحصر الأمر ابتداء في بعض الأمور الفقهية وما يدور في معناها، إلى أن طرحت قضية تولي الفقيه مهام الولاية العامة قياما بهذه المهام. وقد تطورت هذه الفكرة إلى أن صارت نظرية اكتمل نضوجها مع الإمام الخميني حيث اشتغل على قاعدتها التي مبتدؤها تصدي فقيه إمام ابتداء لهذا الأمر ليقيم الحكومة الإسلامية ثم يحصل الاستمرار بعده بناء على نظام عام عكسته الثورة من خلال دستورها الأول وما لحقه من تعديلات سواء زمن الخميني أو بعده.
فمقتضى نظرية ولاية الفقيه أن يتولى فقيه الحكم ويكون هو المرجع لكل الشيعة وهو رمز النظام ومرجعه من خلال الدستور وتشتغل في ظل ولايته العامة باقي المؤسسات السيادية والسياسية والمجتمعية.
لكن ما وقع أن ليس كل العلماء سلموا بهذه النظرية، ولذلك عرفت معارضة شديدة ومناقشة حادة من طرف كثير منهم، خاصة لما تم العمل على دسترتها وبناء كل تفاصيل النظام على قاعدتها، إلا أن صرامة الإمام الخميني وزخم الثورة وأفقها السياسي ساهم في تغليب خيار تبني النظرية بعد الثورة حيث استقطبت كما هائلا من علماء وطلاب الحوزات والجامعات، لأن الإمام الخميني تميز بتكثيف الاتصال والتواصل مع العلماء والطلاب وعموم الناس؛ سواء عندما كان مقيما في إيران أو لما نفي إلى العراق ثم إلى فرنسا حتى عاد قائدا لإيران بعد نجاح الثورة.
فقد كانت الأشرطة التي لا حديث للخميني فيها إلا في موضوع الثورة والتعبئة لها، منتشرة في كل مكان في إيران وبعض الدول المجاورة فضلا عن أوربا، وهو ما أسس لقاعدة بشرية متبنية للنظرية وواعية بأهميتها وأفقها والعمل لأجلها.
ومن المعلوم أن الإمام الخميني في مجمل خطاباته وحينما يتحدث عن القضايا السياسية أو الاجتماعية إنما يربطها بمستقبل الإسلام، مما عبأ الناس، خاصة العلماء والطلاب، على قاعدة جامعة تتمثل في أن الشاه خطر على الإسلام، ومن ثم فالثورة على الشاه إنقاذ للإسلام من خطر كبير سلم كل خيرات الشعب إلى الغرب، فضلا عن درجة التفسخ الأخلاقي التي تورط فيها القصر وكثير من رجالاته ومؤسساته.
إن نظرية ولاية الفقيه لما تم إحكامها ضمن سياق الموقف الإيجابي والصارم من الظلم، والوقوف مع المستضعفين ومقاومة المستكبرين وتحت قيادة جعلت قيادة الثورة في إيران في شخص الخميني قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية في لحظات حاسمة، وواعية بالأفق الذي يجب أن يصل مدى الثورة إليه لما توفرت القاعدة المجتمعية والشعبية التي مكنت من السند الضروري للثورة، وهو ما وفر وضوحا كافيا في مراحل الثورة وما بعد الثورة وفي خطوط العمل التي ينبغي أن تتحرك من خلالها.
فنظرية ولاية الفقيه أخرجت الفكر السياسي الشيعي من نفق الغموض والارتباك الذي نتج عن وضعية الغيبة الكبرى، ومن ثمة كانت، في جوهرها، ثورة علمية كبيرة في الوسط الشيعي أثمرت قيام نظام سياسي كامل ومستقل وقوي.
لكن هل هذا يعفي هذه النظرية من السؤال حول مصيرها؟
طبعا لا، ولذلك سأقتصر هنا على بيان ملاحظتين كبيرتين حول هذه النظرية دون السقوط في مستنقع المناقشة المذهبية الطائفية المقيتة، حيث المراد هو البحث عن مخرج من واقع التمزق والتشرذم لا تعميقه.
الملاحظة الأولى
أنها نظرية غير قابلة للتعميم على العالم الإسلامي لكونها متعلقة أصلا وفصلا بمذهب بناء على امتداده التاريخي، وهو واقع انشطاري لا يسمح البتة بالجمع، مما يجعل حركة النظام السياسي الذي أقامته هذه النظرية محدود الأفق السياسي والعملي، وقد يؤدي في لحظة دقيقة من تاريخ الأمة إلى مواجهة عنيفة، وقد شاهدنا مع الثورة السورية حتى مع سلميتها كيف تحدت الإعلام الرسمي الإيراني أو الموالي له عن الحفاظ على النظام في سوريا حتى ولو أدى الأمر إلى انهيار الدولة والمجتمع، وهو ما حدث بالفعل وصعد من تدفق التيارات الوهابية والتكفيرية إلى سوريا والمشاركة في تسليح الثورة بشكل كثيف وحاد، وهو مضمون تصريح السيد خامنئي: "بشار خط أحمر". الأمر الذي عبأ غالبية أهل السنة ضد إيران، بما فيها رد فعل أغلب الحركات الإسلامية، خاصة تيار "الإخوان المسلمون" الذي عانى بقسوة من النظام السوري.
فالدفاع عن شخص مقابل إرادة شعبية عامة في الحرية كان ضربة عميقة لنظرية ولاية الفقيه التي أصبحت اليوم تستند أساسا على القوة العسكرية بدلا من موقفها المعنوي من الظلم والدفاع عن المستضعفين، بل إن تحالف إيران المصيري مع نظام الأسد في سوريا سد الباب نهائيا على التغيير في هذا البلد، وهو ما كان النظام واعيا به فكان شرسا وعنيفا في الرد على الثورة في سوريا حتى أدخلها في دوامة العنف التي تدرك إيران أنه سيستنزف الثورة في مقابل تصعيد عملها الأمني والعسكري في سوريا حتى يصل إلى مناسبة ولحظة الحسم العسكري، مما سيطيل من زمن الوضع السوري إلى أن تحصل توازنات جذرية في المنطقة، وهو ما تحرص إيران على عدم السماح به فقامت بتدخلات مباشرة في الوضع في اليمن والبحرين وبعض المناطق الأخرى فضلا عن لبنان وغيرها، بل هو عامل عدم مساندتها للثورة المصرية لما تصدرها الإخوان المسلمون حيث حارب الإعلام الإيراني بقوة هذه التجربة في مهدها، وساند بوضوح الثورة المضادة في 30 يونيو ضد حكم مرسي الذي لم يستقر بعد، وقد استثمرت هذه الاستراتيجية الإيرانية الموقف الغربي، خاصة الأمريكي، في المنطقة وحرصت على كسب مصالح هامة حيث في هذه الظروف غيرت من استراتيجيتها التفاوضية حول ملفها النووي لفك الحصار الاقتصادي الذي تضررت منه كثيرا.
إن نظرية ولاية الفقيه لما اختزلت حركة الإسلام في المعنى التاريخي الضيق لحركة المذهب الإثني عشري خصوصا والتشيع عموما صنعت لنفسها فضاء التقوقع مهما امتد زخم الثورة في الزمن، ومهما امتلكت من وسائل القوة المادية، دون أن نغفل أن الفكر السياسي الشيعي، عموما، يمتاز بالتماسك لاستناده على موقف الإمام الحسين الذي يتمحور حول الوقوف مع المستضعفين.
لذلك يمكن الرهان على نضوج التجربة السنية وتخلصها من قبضة تفكير وفقه سياسيين تقليديين من جهة، وعلى حصول تطور إيجابي وجوهري في النظرية السياسية الشيعية من جهة ثانية، خاصة أن هناك تجارب هامة لدى علماء شيعة لم يسمح بتطورها زحم الثورة بقيادة الإمام الخميني؛ منها اجتهادات محمد باقر الصدر الذي أعدمه صدام، واجتهادات حسين فضل الله في لبنان وغيرهما، وذلك لفتح أفق القوة والوحدة من خلال بناء نظم سياسية كبيرة وجامعة ولها مؤهلات جمع عناصر القوة داخل المجتمعات الإسلامية وفق قواعد نبذ العنف والإقصاء والتكفير والتخوين وكل ما يؤدي إلى التمزق، ووفق مطالب الوحدة والتعاون على تبليغ رسالة الإسلام إلى العالم والمساهمة القوية في بناء نظام عالمي منصف للمستضعفين.
وهو ما سيكون مرهونا بعاملين كبيرين في المنطقة:
الأول: استمرار، المقاومة الفلسطينية، خاصة حماس وجناحها العسكري كتائب القسام، في اتخاذ زمام المبادرة في مقاومة الكيان الصيهوني، وتفعيل استراتيجية التحرير الشامل الذي يجعل بوصلته القدس.
الثاني: نجاح الثورة بقيادة التحالف الإسلامي بقيادة "الإخوان المسلمون" في مصر، فضلا عن بلاد عربية أخرى، وهو ما سيشكل عامل توازن هام يعيد ترتيب المنطقة وفق معايير جديدة.
نعم، يمكن أن يُفهم الهجوم الاستباقي الذي قام به حلف إيران وحزب الله ونظام الحكم في العراق، وكل الشيعة، ضد التيار التكفيري الهاجم لا محالة على هذا المحور في ظروف تستهدفه القوى الغربية وحليفتها إسرائيل، لكن لا يمكن أن يفهم موقف سلبي لثورة شعبية من انتفاضة شعوب تطالب بالحرية والكرامة والعدل إلا بضيق أفق النظرية السياسية التي تحكم هذا الحلف في أحسن التبريرات. لذلك يمكن أن يشكل الضغط الواقعي على النتائج العملية لهذه النظرية في مجال العلاقة مع حركة الإسلام نحو الحرية إلى مراجعة علمية لنظرة إيران مع العالم العربي بقيادة سنية تضمن حقوق الشيعة، وتؤدي إلى تجديد هذه النظرية أو تجاوزها إلى أخرى بما يفتح أفق التعاون الإسلامي الحقيقي وبناء قوة إسلامية مؤثرة وموجهة لواقع العلاقات الدولية بما يخدم الإسلام والمسلمين وكل المستضعفين.
وهو ما يعني أن عملية تطوير نظرية ولاية الفقيه يجب أن تستهدف تغييرا جوهريا في مفهوم العلاقة مع أهل السنة ضمن الفقه والفكر السياسيين الشيعيين في سياق تعميق مفهوم الشورى العامة والاندماج المجتمعي عوض الاصطفاف والمحاصصة الطائفيتين في بناء الأنظمة السياسية والمجتمعية.
لكن ما يحدث اليوم من اللجوء إلى القوة العسكرية في إنتاج واقع جديد موال لإيران، سواء في سوريا أو اليمن أو العراق أو البحرين، وغيرها من المناطق، وتسخير قوة إعلامية هائلة لهذا الغرض بدعوى الحفاظ على محور المقاومة والممانعة، في الوقت الذي تتجه فيه إيران إلى تسويات مع الغرب في قضايا متعددة، من قبيل ملفها النووي، شكل عامل انشطار إضافي في الواقع الإسلامي وعمق مسافة عدم الثقة، وهو ما سيزيد من تقوقع نظرية ولاية الفقيه حيث ستعجز عن صناعة البديل عن حل الأزمات من دون عمل مسلح. وإذا أضيف هذا إلى منطق العنف الذي يعالج به الفكر التكفيري والوهابي، على العموم، العلاقة مع الشيعة والتشيع سيجعل العالم الإسلامي أمام مرحلة دامية ومدمرة بين المسلمين، خاصة حلف إيران وعرب الشرق الأوسط والخليج، لأن دول هذه الأخيرة ستلجأ إلى استعمال أو دعم العمل المسلح والعسكري لإضعاف الموقف الإيراني، دون أن ننسى أن واقع الإثنيات الذي أرق الثورة في إيران في بداياتها قد تتوفر عوامل تفعيله ونشاطه من جديد مما سيزيد من تأزم الوضع واستدعائه العمل العسكري.
وهذا ما سيؤدي إلى انقلاب جوهري في الثورة الإيرانية؛ إذ سيحولها من ثوة إسلامية ضد الظلم والاستكبار إلى عمل دولة محكومة بنظرية صارت محدودة الأفق وضيقة المجال حيث لاخيار لها إلا توظيف تضخم قوتها العسكرية إلى مدى ينقلها من نهضة مجتمعية إلى نظام فئة تقاتل من أجل أهداف ضيقة مهما كانت نواياها.
الملاحظة الثانية
الفقيه في نظرية ولاية الفقيه شخص يعتبر المرجع الفقهي والسياسي للدولة والمجتمع، وهذا يعد عنصر تقويض للنظرية، لأنها تختزل في شخص مهما كان ورعه وتقواه ونزاهته ويقظته وعلمه، ومهما جند من مؤسسات، ومهما كان حجم مؤسسات الدولة التي تشتغل معه وتحت توجيهاته، حركة المجتمع المعروفة بالتنوع والتعدد.
نعم تعد مؤسسات، من قبيل مؤسسة تشخيص مصلحة النظام، تعويضا عن هذا القصور الذي يمكن أن ينتج عن تولي شخص الفقيه الولاية العامة فقها وسياسة، لكن في الأخير هي مؤسسة من مؤسسات أجهزة الدولة وتحت إشراف الولي الفقيه.
فوضع مقاصد عامة تحدد مهام هذه المؤسسة ومثيلاتها ضمن دستور الدولة في إيران يمكن أن يقلص من حجم القصور الذي تتسبب فيه ولاية الفقيه من حيث هو شخص مرجع، لكن المشكل في كون هذه المؤسسات جزء من الدولة، وهو ما سيجعلها خاضعة لتقلبات الدولة وظروفها، وهوما ظهر جليا مع الثورة السورية؛ إذ تحكم في موقف دولة إيران حالةٌ ظرفية فرضتها ظروف سياسية بالمنطقة لها معنى استراتيجي بمنطق الصراع مع قوى متعددة معادية لإيران وليس بمنطق مستقبل الإسلام وأمة الإسلام. وهذا إشكال كبير ستظهر تجلياته العملية في المستقبل القريب إذ سيختزل كل النظام السياسي في إيران في مؤسسات الدولة التي تجد سندها فقط في حجم السواد الأعظم الذي يؤيدها، وإذا توافرت ظروف وقلصت من هذا السواد الأعظم الذي ما زال مرتبطا بزخم الثورة ستضطر هذه الدولة لوسيلة القمع للحفاظ على نفسها، وهو ما ظهرت مؤشراته بوضوح منذ 1989 ويبرز جليا خلال كل فترة انتخابات رئاسية وبرلمانية، إلا أنه من الواضح أن لا تهديد على المدى المنظور للثورة ونظامها السياسي، ولكنها تحتاج إلى عملية تجديد منفتحة وجامعة تطور نظرية ولاية الفقيه إلى صورة مؤسسات منتظمة بنظام الشورى وفي نفس الوقت تبني مؤسسات قيادية منتبهة لمصالح حركة الإسلام والمسلمين لا إلى مصالح الدولة في إيران وحلفائها فقط. ودون هذا التجديد سيتضخم المعنى القمعي والأمني والعسكري في إدارة القضايا الاستراتيجية والتدبيرية بدلا من نظام الشورى والقوة المجتمعية، وهو ما سيهدد وحدة النظام والمجتمع في إيران، ولا شك أن تفكيك إيران ليس في مصلحة الإسلام، كما ليس في مصلحة الإسلام تفكيك العراق وسوريا واليمن وغيرها من الدولة المهدة بالتفكك.
نعم يحتاج المجتمع إلى رمزية مرجعية في مساره التاريخي، لكن في نفس الوقت هذه الرمزية تصبح عائقا لحركة المجتمع إذا لم ينتظم معها المجتمع عبر مؤسسات قوية السند الشعبي والعلمي ومنظمة، أي حركة المجتمع، عبر نظام الشورى الذي لا ينبغي أن يختزل في لحظة انتخابية مهما كانت نزاهتها ساعتها.
يمكن في المجتمع الإيراني، خصوصا، وفي المجتمع الشيعي، عموما، تعويض هذا عبر واقع الحوزات العلمية والحسينيات الوعظية والتعبوية، لما يتمتع به هذا المجال من استقلالية كبيرة عن الدولة ودواليبها، ولما يخرج من قيادات علمائية لها حضورها المجتمعي بسبب علاقتها العلمية والتربوية والمالية مع الشعب في استقلال عن الدولة، لكن يجب أن ندرك أن هذا الواقع لا تغطيه نظرية ولاية الفقيه تصوريا واعتقادا، ومن المعلوم أن فكرة المرجعية الفقهية والسياسية التي تستند عليها نظرية ولاية الفقيه تصبح لاغية عمليا كنظام للدولة لما تكون مراجع متعدد ومتنوعة لها فئاتها ومقلدوها خارج إيران أو داخلها بين يدي ضعف الدولة مركزيا والتجائها إلى القوة العسكرية والقمعية في مواجهة معاريضها في الداخل والخارج.
وهو ما سيجعل هذه القوة العلمائية المجتمعية المتوفرة الآن والمستندة على قوة عسكرية هائلة قابلة للتمزق لما تصبح نظرية ولاية الفقيه مستندة مباشرة على القمع لفرض نفسها على الجميع، خاصة بعد تواري القيادات التاريخية الموجودة على هرم السلطة اليوم والتي أصبحت تتعرض لانتقادات حادة من طرف رجال علم وسياسة لهم وزنهم في المجتمع الإيراني، الأمر الذي يظهر عند مناسبة كل انتخابات رئاسية في إيران مضافا إلى التأييد الذي تقدمه إيران لشخصيات حتى ولو اتسمت بالديكتاتورية والقمع في حكمها مثل تجربة نوري المالي في العراق وبشار الأسد في سوريا وبعض الأنظمة العسكرية، وهو ما جعل القيادة الإيرانية مضطربة بشكل كبير في تعاملها في ما سمي بالربيع العربي، خاصة في مصر واليمن والعراق وسوريا.
نعم، كل المؤشرات تدلل على أن إيران أقوى من كل الأنظمة السياسية القائمة اليوم في العالم العربي والإسلامي، وأن استراتجياتها في الداخل والخارج أقوى مما تنجزه الأنظمة العربية الحالية، لكنها استراتيجيات غير قادرة على استيعاب المستقبل الإسلامي بحكم الشرخ الذي أصبحت تحدثه الآلة العسكرية الضخمة في الجسم العربي والإسلامي، وهو ما لن يصنع اي امتداد في هذا الجسم لأنه لن تصنع القوة العسكرية يوما الولاء، ولذلك لا خيار في هذا الباب إلا أن تتعامل إيران مع إرادة الشعوب لا مع إرادة من يعلن ولاءه لها من هذه الشعوب، وهم سيكونون دوما قلة مهما وفرت لهم إيران من الإمكانات.
إن نظرية ولاية الفقيه غير قادرة على إنجاز هذا المطلب لدى إيران، لأن الفقيه مرجع تدبيري في آخر المطاف ترتبط حركته المبدانية بالفتوى، ومن ثمة ستنفذ الحركات السياسية والمجتمعية الموالية لإيران حكما فقهيا لا استراتيجية تحررية شاملة.

النموذج الثاني: نظرية الدعوة والدولة عند الإمام عبد السلام ياسين

منذ أول مؤلفات الإمام عبد السلام ياسين بداية السبعينيات من القرن الميلادي الماضي كشف بوضوح عن رؤيته لموقع قضية الحكم في حركة الإسلام وأهميتها، وبنفس درجة الوضوح وبصرامة شديدة كان حريصا على ضبط العلاقة بين الدعوة والدولة فتابع التفصيل في جميع مؤلفاته الأساسية لهذه القضية، نظرا لأهميتها وخطورتها.
فتوفر الإمام على هذا الوضوح وفر له آلة علمية قرأ بها تاريخ المسلمين وحدد سبب الانكسار التاريخي بعد انقلاب بني أمية على الخلافة وفسره تفسيرا علميا متزنا، كما وفر له آلة علمية تصورية لاستشراف المستقبل.
إن تبني الإمام لمفهوم "الدعوة والدولةشكل تجاوزا علميا وعمليا لما بنت عليه الحركة الإسلامية السنية المعاصرة عملها السياسي؛ وهو العمل على إثبات العلاقة بين الدين والسياسة، وبهذا أخرج مشروعه من سياق ردة الفعل إلى سياق العرض البنائي وفق نظرية سياسية جامعة، ذلك أن البحث في علاقة الدين بالسياسية قاصر تماما عن استيعاب واحتضان المشروع التجديدي للحركة الإسلامية المعاصرة، خاصة في أفقه السياسي من حيث تصور النظام السياسي وبناء استراتيجيات إنجاز مراحله وإقامته، ولعل هذا القصور هو ما جعل بعض الحركات الإسلامية حينما تقترب من مواقع الحكم تصطدم بحائط سميك يحجبها عن رؤية واضحة وكاملة للمستقبل القريب فضلا عن البعيد، كما يعقد عملية التعامل المرحلي باعتبار حجم ما تطرح كل مرحلة من مراحل الحركة من إكراهات مختلفة الاتجاهات والجهات.
كما شكلت نظرية الدعوة والدولة تجاوزا كبيرا لنظرية ولاية الفقيه، حيث أخرجت حركة الإسلام من قبضة الفقيه الولي إلى حضن المجتمع عبر مؤسسات مستقلة عن الدولة لكنها راعية لحركة المجتمع وأفقها الغائي. وقد كان الإمام حازما في الدفاع عن ثورة الخميني دون أن يجاملها حيث خصص، في وقت سابق عن كثير من الباحثين والمفكرين والدعاة، بحوثا نقدية بنائية لهذه التجربة منضبطا إلى مطلب وحدة المسلمين الشرعي وما يطلبه هذا المطلب من وضوح علمي متزن في نقد هذه التجربة التاريخية.

أ- نظرية الدعوة والدولة وتحرير الدولة وبناء قوة المجتمع
وقد ترتب على هذا في تصورات الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، مهام الدولة ومهام الدعوة على درجة كبيرة من الوضوح تخرج حركة المجتمعات الإسلامية من تقلبات السياسة اليومية التي يجب أن ترعاها الدولة من خلال مؤسساتها، ومن قبضة أخطبوط الدولة المعاصرة إلى نظام قائم على الفصل، ليس بين الدين والسياسة وليس على الجمع بينهما على درجة من الغموض والالتباس والنظر الجزئي، وإنما قائم على الفصل بين مؤسسات الدعوة ومؤسسات الدولة وجامع بينهما من خلال معنى الوظيفة العامة للأمة، وهي حمل رسالة الإسلام إلى العالمين على قاعدة أن الهيمنة لمؤسسات الدعوة وفق مبدأ الاستقلالية بين المؤسستين (الدعوة والدولة) التي تحقق التكامل بينهما عمليا واستراتيجيا ومصيريا، وتخرج حركة المجتمع والدولة من قبضة الفقيه أو العالم مهما كان.
فوضوح المهمة التاريخية للأمة وثباتها اقتضى وجود مؤسسة الدعوة وهيمنتها على حركة المجتمع هيمنة رعاية وتوجيه واحتضان وتنظيم قاعدي لقضاياه والحفاظ على سيادة معاني التضامن والبذل والتضحية والتكافل والتربية، في حين تهتم مؤسسة الدولة عبر أجهزتها الإدارية والشورية على التدبير اليومي والمتابعة اليومية وصياغة القوانين وإبداع الأشكال التنظيمية والهيكلية المطلوبة وفق قيم ومعاني النصيحة والشورى.
وبهذا تكون الدولة الأداة السياسية المحورية في المجتمع عبر مؤسساتها وسلطها الخادمة بفعالية ونظام تحقيق الأهداف الاستراتيجية نحو أفق المقاصد المصيرية للأمة، وذلك وفق نظام الشورى فيما تقتضيه مواقع المسؤولية من انتخابات ووفق إرادة الأمة عبر سيادة معاني الشورى في حياتها الخاصة والعامة.
فالمعنى السياسي لنظرية الدعوة والدولة يتجه إلى حل الإشكال الذي تغرق فيه التجربة السياسية الحالية، سواء في الدول الديموقراطية أو غيرها، المتعلق بخضوع حركة المجتمع ككل لمنطق الدولة ومؤسساتها، بل في بعض الأنظمة السياسية لمنطق شخص أو أشخاص أو لوبيات، إذ تتعرض العملية السياسية إلى اضطراب حاد ومهدد للجميع حينما يستشري الفساد السياسي والأخلاقي في هذه المؤسسات، أو حينما يشتد الصراع بين المكونات السياسية الساعية إلى تداول السلط عبر انتخابات منضبطة بمدة زمنية محدودة، أو حين تتحرك أطماع خارجية أو داخلية للاستيلاء على السلطة، أو حينما تعرف الظروف المالية والاقتصادية أزمة ما قد تكون، فقط، بسبب تلاعب مؤسسات اقتصادية أو مالية بمصالح الأمة في لحظة حرجة من تاريخها.
لقد أثبتت التجارب السياسية القائمة اليوم أن المجتمعات تتعرض لمخاطر جسيمة بسبب تقلبات السياسة والمال والاقتصاد في ظروف يصعب معها الاحتكام إلى الرأي العام حينها، خاصة أن هذه المجتمعات في ظل هذه التجارب عرفت انشطارات حادة عموديا وأفقيا لم تعد معها القوة المجتمعية موحدة، مما جعل آلة العسكر وأجهزته وأجهزة المخابرات هي القادرة على التوفر على أدوات الضبط والتحكم، وهو ما جعل السلطة معرضة لأطماع عسكريين قد يصبحون طرفا هاما في الصراع أو أدوات لتصريف مؤامرات خارجية.
كما أثبتت هذه التجارب السياسية أنه أصبح من الخطر رهن مصير شعب أو أمة بيد شخص أو حزب أو فئة قد تكون منتخبة بنسبة 50+1 في المائة مهما كانت القوانين والمؤسسات التي تشتغل معها، وهي عملية في مجتمعات متخلفة على الخصوص، جعلت الرأي السياسي في كثير من المنسابات يفضل حكم العسكر أو شخصيات عسكرية في زي مدني لما تملكه من قوة قادرة على الضبط، علما أن هذه النماذج من الحكم كانت أوخم تجربة سياسية عرفتها الأمم الحديثة.
ومن هنا، فإن بناء مؤسسات الدعوة كإطار تنظيمي وهيكلي لحركة المجتمعات المسلمة بعيدا عن تقلبات مؤسسات الدولة وسياساتها اليومية الخاضعة للظروف القائمة ساعتها سياسيا واقتصاديا، محليا وإقليميا ودوليا، يجعل المجتمعات في تماسك قوي وقادرة على احتواء كل أنواع الأزمات وفي كل المستويات والمجالات، كما يجعل مؤسسات الدولة تشتغل في أجواء من الاطمئنان والحرية وفق الإرادة الشعبية واستثمارا لكل كفاءات المجتمع بضمانة القوة المجتمعية.
وبهذا تُخلصنا نظرية الدعوة والدولة من اللوذ إلى الحاكم المستبد أو إلى نظام الحكم الوراثي لحماية العملية السياسية والمجتمعية من الانهيار، في الوقت الذي قد يكون هذا النظام الاستبدادي، مهما كان شكله، هو مصدر هذا الانهيار، الذي قد يكون شاملا في لحظات لم تعد معها مؤسسات الدولة والمجتمع تحت القبضة الاستبدادية قادرة على حماية نفسها من هذه الانهيارات في زمن تواصلي غير متوقع السرعة.
فنظرية الدعوة والدولة في صورتها التفصيلية مبنية أساسا على أن شعوب غالبية المجتمعات مسلمة، حيث هذه النظرية ضامنة لكل حقوق الأقليات؛ دينيا واجتماعيا وسياسيا وماليا واقتصاديا، ولهم الحق في الوجود في كل مؤسسات الدولة باعتبار معيار الكفاءة مثلهم مثل باقي أبناء المجتمع لا باعتبار "الكوطة" التي تشكل نفاقا سياسيا وتلفيقا مجتمعيا، ولأن هذه النظرية مبنية على معنى القوة المجتمعية باعتبار المشاركة الواعية والإرادية للأمة في العملية السياسية برمتها.
وبهذا تخرجنا هذه النظرية من النقاش الفقهي العقيم حول أهل الذمة السائد اليوم لدى أغلب الحركات الإسلامية إلى نقاش نظرية الحقوق والواجبات وفق نظام مجتمعي أصيل وجامع يأخذ المعنى الفقهي فيه معناه الحقيقي ومكانه وحجمه الطبيعيين.
ولذلك تتجه هذه النظرية في معناها التنظيمي الهيكلي من خلال اكتشاف المعنى التجديدي لمفهوم الجماعة كما اجتهد في عرضه وبيانه الإمام عبد السلام ياسين، حيث الجماعة بهذا المعني نظام للمجتمع عموديا وأفقيا وتشكل قاعدة الشورى لا المجتمع المدني كما هو شتيت فسيفسائي وأداة جزئية ضمن التجربة الغربية.
فالجماعة بمعناها العام نظام مجتمعي قائم على قواعد المحبة العامة والبذل والعطاء وسيادة قيم الشورى باعتبارها نظام للتفكير والاجتهاد، وباعتبارها نظام عام للحياة. وهو ما يجعل حركة الجماعة بمعناها التجديدي في مرحلة المعارضة للحكم غير الشرعي مبنية على ركيزتي الإحسان والشورى، حيث تتجه مباشرة هذه الجماعة، المنظمة أفقيا على قواعد الولاية الخاصة من خلال ميثاق جامع، وعموديا من خلال التنظيمات المجتمعية المشتغلة على الروح وبالروح الميثاقية، إلى بناء ركيزة العدل، فيكون النظام السياسي، الذي تبنيه نظرية الدعوة والدولة باعتبارها نظرية سياسية كبيرة، قائما على قواعد: الشورى والعدل والإحسان.
ومعناه ومقتضاه أن تنظيم حركة المجتمع على معاني الإحسان وقواعد الشورى هو ما يجعله قوة زاحفة مباشرة لإقامة نظام العدل وإعادة تنظيم وبناء المجتمع وفتح أفقه المصيري بناء على تلاحم قيم الشورى والعدل والإحسان؛ فيصير هذا المجتمع قوة لا تقهر وحركة لا تهزم ونظاما لا ينهار مادام هذا التلاحم بين هذه الأركان الكلية قائما، وهو ما يكشف حتمية وجود مؤسسات الدعوة ومؤسسات الدولة لتعملا في تناغم تام، ولذلك بعد مرحلة المعارضة تجعل نظرية الدعوة والدولة الجماعة مكونة من هاتين المؤسستين حيث تغطي الدولة مجال التدبير اليومي لكل القطاعات وتغطي الدعوة مجال تنظيم المجتمع حفاظا على وضوح أفقه الاستراتيجي المصيري وتضامنه اليومي حماية له من تقلبات الحكومات والتناوب على السلطات.
وهكذا توفر لنا نظرية الدعوة والدولة أربعة مفاهيم تفضي علميا إلى وحدة العلم كمرجعية جامعة، وعمليا إلى وحدة المجتمع قوة واعية وممتدة في المستقبل:
الأول: الجماعة
وهو مفهوم يستمد معناه ومضمونه من التجربة النبوية الخلافية (نسبة إلى الخلافة الراشدة)، حيث يكشف على المعاني والقيم التي تهيمن على حياة الفرد والمجتمع، وعلى ماهية النظام الذي تنتظم به حركة هذا المجتمع وعلى أفق حركته وماهية الحوافز التي تنتظم بها هذه الحركة.
وبهذا المعنى نتخلص جملة من معنى الجماعة كما صاغه الفقه السياسي السني من خلال مفهوم أهل السنة والجماعة، ونتجاوز في نفس القوت معنى الجماعة كما حصره الفقه السياسي الشيعي في بعض أئمة أهل البيت، فننفتح على معنى الجماعة الجامع الذي يتحرك بالأمة بعد إعادة تنظيمها إلى أفق نظام عالمي جامع، خلافة وإمامة، ينصف المستضعفين عبر نظام العدل الدولي.
الثاني: الشورى
نظام تفكير واجتهاد يمتد إلى نظام حركة الفرد والجماعة والمجتمع؛ فهو نظام حياة، ومسألة حياة أو موت، إذ لا حياة للمجتمع، في ظل نظرية الدعوة والدولة، دون نظام الشورى الذي ينقل حركة الأمة من البعثرة والسطحية إلى قلب المؤسسات الساهرة على تدبير الشأن العام في كل المجالات، فتكون هذه المؤسسات صادرة من صلب حركة الأمة وخادمة لها.
العدل في الحكم قسمة الأرزاق وتحريك لقوة المجتمع لأجل إنتاج الثروة وتوزيعها بالإنصاف. والعدل في القضاء إنصاف ونصرة للمظلوم ودفاع عنه وإعطاؤه حقوقه.
الإحسان الذي يصوغ نظرية الدعوة والدولة وتسهر هذه النظرية على الحفاظ عليه، بل لأجله كانت، هو المعنى الغائي المصيري الذي يصبح فيه في فهم ووعي وسلوك الفرد مصيره الفردي عند الله تعالى لا ينفك ولا ينفصل عن مصير أمته التاريخي ومن ثمة عن مصير خدمة الإنسانية من خلال خدمة المستضعفين برفع الاستضعاف عنهم.
إن هذا المعنى الإحساني الكبير، الذي فتل فتلا كاملا بين مصير الفرد ومصير الأمة ومصير الإنسانية، هو ما غير جميع معادلات التفكير السياسي ضمن نظرية الدعوة والدولة وأخرجها تماما وحررها كليا من ثقل التاريخ؛ ثقل الانكسار التاريخي منذ الانقلاب الأموي على نظام الخلافة، ومن ثقل الواقع كما فرضته الأنظمة السياسية الاستبدادية والوراثية على حركة الأمة، ومن ثقل التجربة الغربية التي فرضت هيمنتها على أنظمة التفكير بقوة الانبهار أو النار أو هذه مجتمعة.

ب- نظرية الدعوة والدولة ومدخل النظام السياسي القطري لا التنظيم العالمي
ولذلك اشتغلت نظرية الدعوة والدولة على المعنى القطري في حركتها، لكنه منفتح على هذا الأفق الجامع للأمة لواجب قيام نظام عالمي ينصف المستضعفين، ويوفر الشروط، النفسية والمادية والسياسية للاختيار الحر للإنسانية، التي تشكل (هذه الشروط) الأرضية الصلبة للعرض الحر لرسالة الإسلام للناس حيث لا إكراه في الدين، وهو ما يعني أن هذه النظرية لا تطرح مفهوم الخلافة بديلا عن النظام السياسي الاستبدادي القطري، ولا تطرح فكرة التنظيم العالمي للحركة الإسلامية كما تعرضه بعض التجارب الإسلامية منها "جماعة الإخوان المسلمون" بل فتحت في هذا المستوى من البناء المجال لنظرية الميثاق لترتب نظام الحكم القطري الحر بروح جماعية واعية تكون فيها الأمة متابعة ومحاسبة وراعية، لذلك نجد الإمام عبد السلام ياسين أعطى أهمية كبيرة لهذه النظرية (نظرية الميثاق) وفصل فيها تفصيلا في جل مؤلفاته، خاصة المؤلفات الحوارية وكتاب "العدل الإسلاميون والحكمنظرا لأهميتها وجدواها، الأمر الذي أكدته كل تجارب ماسمي الربيع العربي وما سبقها من أوضاع في جل الأقطار العربية والإسلامية.
علما أن فكرة الميثاق كما تشتغل عليها نظرية الدعوة والدولة ليست حركة فوقية تراهن على وعي النخبة بها فقط، حيث أتبت التجارب أن التحالفات السياسية الفوقية لا تصمد أمام أول منعرج وتتفتت إلى حد التقاتل الذي يكون سببا رئيسيا للانشطار المجتمعي إلى حد اللارجعة، بل هي ثمرة لوعي مجتمعي زاحف عبر إرادة جماعية تتوج بصياغة الميثاق من خلال سيرورة هذا الوعي والإرادة الجماعيين المجتمعيين في احتلال المواقع المجتمعية والسياسية وتحريرها من قبضة الاستبداد وتقويضه إلى حد الزوال وتمريض المرحلة الانتقالية بروح ميثاقية والانتقال إلى مرحلة الاستقرار الكامل بكل أمان مهما كانت التحديات والعقبات.
ولذلك نظرية الدعوة والدولة لا تؤمن بأي شكل أو صورة من صور العنف، بل لها المقومات الذاتية لبناء القوة المجتمعية غير العنيفة ومن دون عنف وبلا عنف. وهنا يتدخل مفهوم القومة منظما وناظما للاستراتيجية السياسية، التي ترعى بناءها هذه النظرية، بديلا عن مفهوم الثورة؛ ذلك أن هذه الأخيرة في تجاربها التاريخية لم تنفصل عن العنف والحرب؛ فإما تكون بعد حروب ضارية فتنتج عنفا، أو تؤسس لحروب ضارية بعد أن يتخللها العنف بين الفئات والطبقات في معاجلة المرحلة الانتقالية أو عند لحظة التخلص من الأنظمة السياسية القائمة، وهو ما يؤدي مع مرور الزمن إلى أن تأكل الثورة نفسها إن لم تأكلها الثورة المضادة التي لا ترحم، مهما كان وجهها باشا، رموز الثورة ونتائجها.
فانتباه الإمام إلى أهمية هذه القضية الحيوية في إنجاز التغيير جعله لا يتوقف عن تكرار الحديث عن الفروق الجوهرية بين مفهوم الثورة وبين مفهوم القومة، حيث يتجلى الاختلاف بينهما في نوع ومستوى الحوافز والدوافع لدى الثائر ولدى القائم، ويتجلى في المقاصد والغاية لدى كل واحد منهما، ومن ثمة يتجلى في أسلوب إنجاز مراحل القومة وفي أسلوب تدبير وتمريض مراحلها وفي جوهر وطبيعة النظام السياسي الذي تقيمه، لذلك قد يكون الثائر جزءا من القومة لما يُقوِّض فيه سياق وسيرورة هذه الأخيرة نزعاته العنفية، في حين لا يمكن أن يكون القائم جزءا من الثورة بأي حال وعلى أية حالة.
ولذلك فالقومة تجعل من أهدافها المباشرة تقويض أي نزعة عنفية في حركة المجتمع لتَعارضها مع طبيعة النظام السياسي والمجتمعي الذي تريد بناءه نظرية الدعوة والدولة عبر إشاعة معاني الرحمة والرفق والبذل والفتوة والقوة، وأن عملية التدافع إنما هدفها المباشر إقامة العدل لإنصاف المستضعفين وتحريرهم من قبضة أجهزة الاستكبار وسياساته المفضية إلى الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وهو ما يجعل من مهام هذه النظرية بناء النظام العالمي الذي يقوض فعل الاستكبار من خلال الضغط على الدول المستكبرة لتكف عن استضعافها للشعوب أو الثورة/القومة ضدها إنصافا للمستضعفين، وهي وظيفة الأمة مجتمعة مع تحالفها مع الدول المستضعفة بغض النظر عن دينها. الأمر الذي يدلل على أن نظرية الدعوة والدولة لا تقف عند النظام القطري أو النظام العالمي بمعناه السياسي بل تتحرك إلى موافقة حركة الإنسانية لحركة الكون عملا على تقويض كل أنواع الفساد والإفساد التي يمكن أن تنتج بعامل هيمنة الاستكبار.

ت- نظرية الدعوة والدولة وشرط القيادة الربانية
وهنا تبرز أهمية، بل حتمية، القيادة الربانية لحركة المجتمع المسلم في اتجاه حريته والقيام بمهامه الوجودية، ذلك أن نظرية الدعوة والدولة غير متوفرة لا معنى ولا مبنى دون هذه القيادة الجامعة.
لذلك حرصت هذه النظرية على وصف نوع القيادة التي تبنيها وتسهر على تنزيل مقتضياتها، لأن هذه القيادة، الزاهدة في الدنيا وفي كل مظاهرها، والمميزة بنفاذ البصيرة وقمة في التواضع، والعاملة بحكمة الشريعة، والمتصفة بمعاني الرحمة والرفق والشجاعة في الحق، هي المؤهلة للجمع حيث في نفس الوقت الذي ترعى فيه حياة الدعوة إلى الله تعالى وبناء مؤسساتها الساهرة على قوة الأمة ووضوح أفق حركتها وقضيتها، في نفس الوقت ترعى، في سياق نظام الشورى والحرية، الفضاء الذي يسهر على حركة الدولة عبر مؤسساتها لتؤدي وظيفتها بكامل الثقة والاستقلالية وخدمة لأهداف القوة والوجود التاريخي للأمة وأفرادها ومكوناتها لتقوم برسالتها التاريخية.
لقد أثبتت تجارب الحركة الإسلامية المعاصرة، خاصة مع ما سمي بالربيع العربي، أن القيادة العلمائية لم توصل وحدها إلى بر الأمان، ونفس الأمر بالنسبة للقيادة الفكرية أو السياسية المحترفة للسياسة، أو حتى الجامعة بين الفكر والسياسة، مهما كان المضمون الفكري الذي تحمله هذه القيادة.
ومن هنا كان وضوح نظرية الدعوة والدولة عاملا هاما في كشف مضمون القيادة التي ينبغي أن تقود حركة التغيير داخل المجتمع المسلم، وتقود مقاومة الاستكبار العالمي، الأمر الذي لا ينقص من قيمة الفئات السابقة، وإنما يؤكد على أهمية هذه النماذج مع التدقيق في أدوارها ومواقع هذه الأدوار ضمن حركة المجتمع عامة التغييرية والبنائية.
إن من ميزات القيادة الربانية أنها زاهدة في السلطة، وهو ما يحقق الضمانة الحقيقية للرهان على الفصل بين مؤسسات الدعوة وبين مؤسسات الدولة، حيث تشكل الأولى الإطار المرجعي الجامع الذي يضمن الحرية للجميع والسند المنظم الكبير لحركة الدولة المتفرغة للسهر على نظام تدبير الحياة اليومية للمواطنين على مبادئ الحرية والكرامة والعدل السياسي والاجتماعي.
إن نظرية الدعوة والدولة لا تراهن بالأصل على المؤسسة كيت أوكيت لا في مرحلة المعارضة ولاما بعدها، لكنها تراهن على الشعب وتنظيمه على قوة ووضوح يضمنان التنافس والتدافع الشفاف والسليم، ثم بعد ذلك بالتبعية تأتي أدوار المؤسسات، وهو ما يجعل الشباب، وفق هذه النظرية، في قلب العملية السياسية والمجتمعية مرحليا واستراتيجيا ومصيريا.

ج- نظرية الدعوة والدولة وماهية الدولة
هنا يرد إشكال نوع الدولة التي تروم هذه النظرية إقامتها باعتبارها الوسيلة السياسية المحورية في المجتمع.
فمن الواضح أن نظرية الدعوة والدولة تُخرج الموضوع من دائرة النقاش العقيم الذي هيمن على النخبة مدة طويلة من الزمن، والمتعلق بماهية الدولة هل هي دينية أم مدنية، ذلك أن منطلق ومنطق النظرية ليس الجمع بين الدين والسياسة أو الفصل بينهما، لأن هذا أمر يتعلق بسياق التجربة الغربية، وأن إقحامه ضمن سياق آخر تَقَحم يؤدي إلى اضطراب شديد وارتباك بالغ الخطورة في العلاقات بين مكونات المجتمع؛ حيث لا يمكن إقناع إسلامي بدولة تحكم شعب مسلم لا علاقة لها بالدين الإسلامي، ولا إقناع لائكي بأن الدولة في مجتمع مسلم يجب أن تكون خادمة لهذا الاختيار العام.
فقاعدة النظرية أن الشعب مسلم. ومن هذا المنطلق يجب بناء النقاش حول ماهية الدولة، لأن الإصرار على فرض مضمون من خارج هذا المعطى إنما هو وسيلة التمزق وفرصة المتربص الخارجي للتدخل والذهاب مع معطى جزئي فرضته فترة الاستعمار وكان نتجية لواقع الانكسار القروني.
ولذلك، وفي هذا السياق الخاص، يناسب الموقف بحث العلاقة بين الدعوة والدولة حتى يحصل تجنب السقوط في فخ الانقسام "الإيديولوجي" الذي هو إفراز مرحلة الاستعمار وما ترتب عنها، وفي نفس الوقت تجنب هيمنة الفقيه ومنطق التفكير الفقهي على عملية تدبير الدولة وتسييرها، لأن نظرية الدعوة والدولة تعتبر الفقيه مجرد رجل دولة حيث عبر مؤسسته يواكب عملية الفتوى الجزئية وحصول المعنى الشرعي في جزئيات تصرفات ومبادرات الدولة في إطار عملية سلسلة ومنظمة ومفهومة. فالدعوة أكبر من وظيفة الفقيه التي تحتاج إليها الدولة في يوميات عملها، والدولة لايمكنها أن تتأبط الدعوة وتسخرها لأغراض محدودة وضيقة قد تعني شخصا أو أشخاص أو فئة أو فئات، إنها قضية الأمة التي تجني اليوم ويلات هيمنة السلطان على القرآن، حيث العكس في نظرية الدعوة والدولة؛ القرآن مهيمن على السلطان، لكن ليست الهيمنة التي عرفتها التجربة الغربية مع الكنيسة مطلقا.
هنا نستحضر تجربة نظرية ولاية الفقيه؛ حيث عند انتصار الثورة حرصت قيادتها مع الإمام الخميني على إعطاء الحكومة لشخصيات لها خبرة لكنها تؤمن بمفهوم الدولة كما صاغته التجربة الغربية؛ فكانت حكومة بني صدر وبازركان، ودعا الخميني الشعب إلى دعمهما، لكن الذي حصل أن هذه التجربة فشلت بعامل إصرار فريقي الحكومتين على إخراج حركة الدولة وبنائها من سياق الثورة الإسلامية المضمون إلى نمط الدولة كما تقدمها التجربة الغربية، وهو ما شكل رد فعل شعبي حيث اقتنعت قيادة الثورة بأن الحكومة يجب أن تكون بيد "رجال دين"، وهو رد فعل كان ضروريا للحفاظ على تماسك الثورة حينها، لكنه كرس انقساما حادا في وسط النخبة أفضى إلى مواجهات بين غالب التيارات اليسارية واللبيرالية وبين التيار الإسلامي استعملت فيه الأطراف السلاح فحسم بالسلاح المسند شعبيا ومن قيادة الثورة، الأمر الذي حافظ على هيمنة منطق الفقيه في تدبير الدولة وإن فتح لها عمقُ الثورة آفاقا عريضة.
وقد كرست هذا الانقسام تجارب ما سمي بالربيع العربي حيث القوة المجتمعية إسلامية في غالبيتها، لكن النخبة تصر إصرارا على نمط من الدولة لا يمثل إرادة غالبية الشعب، لذلك اتجهت الحركة الإسلامية في بعض هذه الدول إلى منطق التوافق الذي تريده الحركة الإسلامية آلية لتدبير المرحلة الانتقالية، في انتظار توفر شروط الاستقرار الكامل الذي يضمن الاختيار الحر الذي يبنى عليه مضمون العملية السياسية والدولة في ظل ما تفرزه الانتخابات الحرة، وتريده النخبة المغربة واقعا دائما يفرض تنازلات جوهرية ودائمة من طرف الحركة الإسلامية باعتبارها كما جماهيريا يجب أن يقوم بعملية ترويض وكبح إرادة المسلمين في تنظيم وجودهم على قواعد الإسلام ليبقى منشطا للعملية الديموقراطية الفوقية فقط. ومن الواضح أن عدم الخروج من هذا النفق سيؤدي إلى واقع من الاختناق والتشنج الذي يعرقل مسار استكمال الثورات التي لم يكن في جانب كبير منها الانتفاضة على أنظمة لفسادها واستبدادها فقط، بل لعدم التزامها بالدين ومحاربتها للتدين الإسلامي على الخصوص، وقد خاضت كثير من هذه الأنظمة العربية معارك ضارية تحت شعار "تجفيف المنابع" أي منابع التدين.
لقد عالجت نظرية ولاية الفقيه هذه اللحظة بالحسم الثوري، وأفرزت نظاما إسلاميا محكوما بهذه النظرية، ليبقى السؤال في تجربة الربيع العربي معروضا: هل هذا الإرباك والغموض في العملية السياسية والمجتمعية في هذه الدول سيبقى أصل هذه العملية مع الانتباه إلى ردود الفعل عليه المتنامية، والتي قد تصل إلى حد العنف الشامل، أم هناك مرحلة انتقالية، قد تطول لكنها تقدم مؤشرات على أن الحكم ونظامه ونمطه سيكون حسب أغلبية الشعب لا تحالف النخب؟
هنا تكون نظرية الدعوة والدولة -من خلال الفصل بين الدعوة والدولة والاشتغال على قاعدة الشورى العامة والتعبئة الشاملة للشعب والعمل على نظرية الميثاق، الذي قد يؤطر في لحظة اضطرارية حكومة توافق سياسي بين المكونات- تسهر على توظيف كل الطاقات في إدارة شؤون الأمة من خلال مؤسسات الدولة، لكنها لا تتنازل عن المضمون العام للعملية السياسية والمجتمعية الذي يجب أن يكون إسلاميا ما دام الكل مسلما طوعا لا كرها، لأن في التخلي عن هذا المضمون الذي لا يحرم الأمة من خدمات الكفاءات حتى ولو كانت من غير الدين الإسلامي، يهوديا أو مسيحيا مثلا، تدخل حركة الأمة العامة في نفق مظلم، وهو ما يعني تكريس التبعية والاستعمار بتكريس واقع الضعف والانشطار.
فليست نظرية الدعوة والدولة تكريسا لنوع من الدولة العلمانية اللائكية، كما هي ليست تكريسا لهيمنة رجال الدين عن الدولة كما عرفته التجربة الغربية، ولا فرض قبضة الفقيه والمنطق الفقهي المنحبس على حركة الدولة ونظامها الداخلي وعملها المجتمعي، بل لمصلحة الدعوة التي تهتم بالمصير، مصير الفرد عند الله تعالى ومصير الأمة التاريخي ومصير الإنسانية في حركتها الكونية أن لا تقحم نفسها في يوميات التدبير الحكومي البشري اليومي، كما لمصلحة هذا التدبير اليومي أن يتحرر من أي ثقل يعرقل نجاعة وجدوى الخدمة اليومية للمواطن والوطن حيث هذا الثقل تتكفل به مؤسسات الدعوة بحكم موقعها ومهمتها بما يوفر الكفاءة في التوجيه والارشاد المصيريين.
معنى هذا أن نظرية الدعوة والدولة لا تقبل في الوضع الطبيعي لحركة الأمة إلا الدولة الإسلامية التي تستثمر جميع كفاءات وخبرات الوطن مهما كانت اختياراتها مادامت منضبطة للاختيار المرجعي للأمة وهو الإسلام.
ودولة الإسلام، كما سلفت الإشارة، ليست دولة الفقيه وليست دولة رجل الدين وليست دولة عسكرية وفي نفس الوقت ليست دولة مدنية علمانية كما يريدها الغرب ونخبه المحلية، إنها دولة إسلامية لا تتحرك بمنطق الحد الفقهي سيفا مسلطا على رقاب الناس، لأن المعنى الفقهي الجزئي ترعاه حركة الوحي باعتباره كلية جامعة مبنية على معاني الرحمة والحكمة التي توظف قوة السلطان في مكانها المناسب والحكيم لترسيخ العدل وقيمه وقيامه، ومن بين مهام السلطان إجراءات تطبيق الحدود وفق نظام الوحي لا نظام الفقه الموروث كما تجسده بعض الحركات الإسلامية المعاصرة، لأن من مطالب وأسس نظرية الدعوة والدولة إرجاع العلاقة الصحيحة بين القرآن والسلطان وهي علاقة تحقق ثلاث كليات: كلية الرحمة وكلية الحكمة وكلية القوة التي لا تقبل العنف ولا تبني عليه، لأن كل ما يصدر منه وعنه شين، وتعمل بالرفق، لأن كل ما يصدر عنه ومنه زين. ومعناه أن الأصل هو إقامة واقع العدل والرحمة لا الحد الذي يأتي في درجة متأخرة في البناء مع الصرامة في القيام به في ظروفه وشروطه الشرعية.
ولذلك فالدولة الإسلامية، كما تعرضها وتبنيها نظرية الدعوة والدولة، هي دولة القرآن، كل القرآن، لا دولة الأحكام مجزأة مبعثرة، إذ في غير سياق حركة كل الوحي يكون تطبيق الأحكام الشرعية نقمة لا رحمة، وقطعا لا وصلا، وهو مقتضى مطالب وركائز هذه النظرية: الشورى والعدل والإحسان، إذ السياق الذي تصنعه حركة هذه الكليات الثلاثة هو محضن الاجتهاد الجزئي الفقهي الذي يرعاه وينظمه الاجتهاد الكلي باعتباره حركة جامعة تنظمها مؤسسات الدعوة على قواعد الشورى والإحسان وبنظام الجماعة الكامل.
ولذلك، فحركة الفقيه حركة جزئية، على أهميتها، ضمن نظرية الدعوة والدولة، حيث عمل الفقيه جزء من حركة الدولة ضمن تصديها لتفاصيل التدبير اليومي، إذ هو ليس رجل الدعوة بهذه الصفة.
وهذا التمييز الذي تعتمده هذه النظرية بين رجل الفقه وبين رجل الدعوة ضروري لتنظيم حركة الدعوة وبيان الأدوار، ذلك أن الخلط بين المهام في هذا المستوى عامل إرباك لحركة المجتمع عموما وللعملية السياسية خصوصا، وهو ما أكدته يوميات ماسمي بالربيع العربي، إذ كثير من التجارب الإسلامية أربكها، في لحظات حاسمة، هيمنة منطق الفقيه على تعبئتها وفتح آفاق عريضة لها (يكفي أن نذكر بنوع الخطاب الذي هيمن على ميادين رابعة والنهضة حيث كان لدى كثير ممن يصعدون المنصات خطاب انفعالي مبني على إثبات أحكام فقهية تجاه المخالفين، ونتذكر خطابات الشيخ علي بلحاج في الجزائر في مواكبة الحراك الجزائري بداية التسعينات، خاصة في فترة الانتخابات).
فنظرية الدعوة والدولة باعتبارها وسيلة علمية كبرى في تنظيم الحركة العامة للمجتمع ونظامه السياسي، فباستنادها إلى معنى الدعوة كما صاغته وجسدته التجربة النبوية كاملا تفتح الأفق الكبير لبناء نظام عالمي تستثمر فيه كل طاقات الأمة وخيراتها لتحقيق العدل بين المسلمين ليتأهلوا لقيامه مع تحالفهم مع المستضعفين في العالم، وذلك من مقتضى قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.

.5 خاتمة

تؤكد الأحداث القائمة اليوم في عالمنا العربي والإسلامي أن من أكبر عوامل الفشل، خاصة في تجربة الحركة الإسلامية المعاصرة، خوضها معركة الوجود والمصير من دون نظرية سياسية كبيرة وجامعة.
فقد رهنت هذه الحركة عملها السياسي الشامل بارتهانها إلى مواقف سياسية وأفكار سياسية تستند إلى موروث من الفقه والفكر السياسيين الإسلاميين لم يصبح من مقدورهما التصدي لموضوع الصراع والتدافع السياسي محليا وإقليميا ودوليا.
فقد شكلت العمليات السياسية لدى الحركة الإسلامية مجرد ردات فعل متتالية على قضايا جوهرية في تاريخ الإنسانية، خاصة اتجاه الاستعمار، وانهيار الدولة العثمانية، وحدث الثورة الإيرانية بقيادة الخميني، خاصة لما وجدت هذه الثورة نفسها في مرحلة تاريخية مضطرة إلى تحالف مصيري مع دول غربية، كروسيا، ومع أنظمة عربية استبدادية كالنظام السوري والعراقي الذي أفرزه الغزو الأمريكي للعراق.
ولما انتفضت الشعوب مع ماسمي بالربيع العربي تصدت هذه الحركات إلى قيادة حراك هذه الانتفاضات في ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد من دون نظرية سياسية واضحة ومتكاملة مما أوقعها في السقوط عند أول منعرجات مسار بناء الأنظمة السياسية الكبرى، خاصة بعد الثورة، وهو ما كشف في نفس الوقت عن السؤال الذي لم يخضع بعد للبحث الكافي المتعلق بماهية ونوعية القيادة التي يجب أن تقود عملية التغيير والإصلاح في المجتمعات الإسلامية.
في ظل هذه المعطيات العلمية والمعرفية والواقعية تظهر تجربتين في العامل الإسلامي.
الأولى جربت وتجرب من خلال الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخميني، وهي نظرية ولاية الفقيه، والثانية ما تقدم بعرضه منذ أواخر ستينيات القرن الميلادي الماضي الإمام عبد السلام ياسين تحت عنوان نظرية الدعوة والدولة وسهر على تفصيلها وبيان مضمونها طيلة حياته من خلال مؤلفاته الغزيرة والعديدة ومن خلال بناء تجربة جماعة العدل والإحسان عبر عرض مشروع العدل والإحسان منتظما في اجتهاد علمي جذري هو "المنهاج النبوي".
لقد وفرت نظرية ولاية الفقيه من الرصيد العلمي والعملي منذ الثورة عام 1979م إلى اليوم ما يكشف نتائجها ومدى صلاحيتها حيث تدلل الواقع على أنها لم تصمد أمام الأحداث التي عرفتها المنطقة والعالم.
في حين نجد أن تجربة بناء تنظيم وحركة العدل والإحسان على قواعد وأسس هذه النظرية الكبرى ما زالت تدلل على أنها اجتهاد علمي وعملي يستحق الدراسة والبحث في أفق استشراف واقع سياسي ومجتمعي يخرج الحركة الإسلامية من موقف ردة الفعل إلى موقع العمل التاريخي الذي يضمن بناء أمة قوية وموحدة وخادمة للمستضعفين. وهو ما حاول هذا البحث المتواضع عرضه.
والله وحده الموفق للصواب لا إله إلا هو والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه