نظرية البيان المرصوص في مشروع العدل والإحسان



نظرية البنيان المرصوص في حركة مشروع العدل والإحسان
-1- 


1.تمهيد في مستند نظرية البنيان المرصوص

تشكل نظرية البنيان المرصوص أداة علمية وعملية في نفس الآن لرعاية عمليات البناء الجهادي العمراني اقتحاما للعقبة، كما هي أداة كلية لتفسيره واستشراف مراحله ووسائله الهيكلية التنظيمية من خلال العلم الكامل بماهية المشروع وبمراحله البنائية والعمرانية.

لذلك توفر هذه النظرية كفاءة فكرية اجتهادية في تصور المهام البنائية ورسم وسائلها التنفيذية وتجاوز كل العوائق النظرية والعملية بما يضمن الفعالية في إنجاز أهداف المشروع وتحقيق مقاصده، لأن المستند العلمي لهذه النظرية يكمن في قواعد علم المنهاج النبوي الراجعة كلها إلى أصل "الصحبة والجماعة"، وتعتبر قاعدتها الذهبية أم قواعد علم المنهاج النبوي، وهي "أن في فهم ووعي وسلوك المؤمن لا ينفك ولا ينفصل مصيره الفردي عند الله تعالى عن مصير أمته التاريخي"، وهو ما يعني أن المستند العلمي غائي، أي متكئ على "علم الغاية".

كما تستند هذه النظرية على ما يتفرع عن هذه القاعدة الأم من قواعد؛ كقاعدة "لا جهاد إلا مع جماعة منظمة"، أي في تنظيم ينبغي أن يعكس مبناه معنى الجماعة المعنوي الجامع لمعاني الولاية الخاصة بين المؤمنين الفائضة على كل المسلمين والناس أجمعين من خلال معاني الولاية العامة بين المسلمين الظاهرة رحمة على العالمين والعاملة قصدا على تقويض كل معاني الاستكبار والاستضعاف في العلاقات بين الشعوب وبين الدول، كما تدلل هذه القاعدة على أن الجهاد العمراني يشترط تنظيم الجهود والحركة، وهو مقتضى نظرية البنيان المرصوص، لذلك نجد أن مفاهيم "القومة" و"الفتوة" و"الجندية" حاسمة في بناء السياق العملي لنظرية البنيان المرصوص وتحديد ذلك المقتضى، لأن هذه المفاهيم وأخواتها مرتبطة في معناها العملي بذمة الفرد المؤمن الصاعد إلى ذروة العقبة التي جعلت الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله يعطي معنى تجديديا للدعاء القرآني "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"، وذلك ضمن فقرة "أحب الأعمال إلى الله" التي جعل فيها رأس هذه الأعمال الخصال العشر بنظامها وتراتبها كما عرضه في كتاب "المنهاج النبوي" وكتاب "الإحسان" بجزئيه، قال رحمه الله: "في قوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين) وهم الذين إذا حكموا حكموا بالعدل، وحكموا باجتهاد، وحكموا بصواب، وحكموا حكما يكفل لهم ولعامة الناس وخاصتهم، لدنياهم وآخرتهم حسنة الدنيا وهي الاستخلاف والتمكين، وحسنة الآخرة وهي سكنى دار النعيم والنظر إلى وجه الله الكريم" الإحسان، ج2، ص: 108.

 فنلاحظ أن هذا الاجتهاد مكرس لذلك الجمع الاندماجي بين المصيرين الفردي والجماعي الذي لاشك ينعكس على تفاصيل البنيان المرصوص معنى ومبنى.

2.مراحل حركة نظرية البنيان المرصوص

تتحرك نظرية البنيان المرصوص عبر مرحلتين كبيرتين؛ مرحلة الإعداد الكبير، ومرحلة العمران الكبير، وبينهما مرحلة انتقالية لابد أن تملك هذه النظرية الكفاءة في استيعابها تصوريا وعلاجها عمليا.

دون أن نغفل أن نظرية البنيان المرصوص إنما هي فرع من فروع النظرية السياسية الكبرى، "نظرية الدعوة والدولة"، وتضاف إلى نظرية الميثاق وأخواتها لرسم الصورة الكاملة المتكاملة لحركة مشروع العدل والإحسان المؤطر عمليا بواسطة كلية "النظرية السياسية الكبرى" العاكسة والمجسدة جملة وتفصيلا لكلية "التربية" المجيبة عن سؤال كلية "الدعوة إلى الله تعالى" كما جددها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عبر تجديده لعلم المنهاج النبوي، والملخصة تلخيصا مركزا جامعا في شعبة "الدعوة إلى الله" السابعة السبعين في الخصلة العاشرة، خصلة الجهاد في كتاب "المنهاج النبوي؛ تربية وتنظيما وزحفا"، كما لها تلخيصا يحوي مضمونها العلمي ويعرض منهاجها العملي في فقرة "أحب الأعمال إلى الله" المشار إليها أعلاه، وهي أول فقرة في خصلة "العمل" الفصل الثامن من كتاب الإحسان.، قال رحمه الله: "ففي قراءتنا الإحسانية هذه لشعب الإيمان نجد أن أخص الأعمال وأكثرَها بُطونا في قلب العاملين، وهي أعمال القلب في حب الله ورسوله والتحاب في الله، تسيرُ خطا واحدا في طريق محابّ الله، في طريق الأعمال الأحب إليه سبحانه، في طريق الإحسان بكل معاني الإحسان، إلى أن تنتهي إلى أكثر الأعمال ظهورا، وأوسعها شمولا، وأبلغها أثرا في حياة الأمة، ألا وهي أعمال الجهاد وأعمال إقامة العدل، وهو الأمر الإلهي المكرَّرُ في القرآن، المقرَّرُ بمداد الكرامة وإمداد الولاية في قوله تعالى: ﴿إن الله يحب المقسطين﴾.
في مرحلة الإعداد الكبير تهيمن التربية على التنظيم حتى تكون النتيجة دعوية بالمعنى المنهاجي، وهي إشاعة معاني الرحمة والحكمة والقوة لا العنف، ويكون الهدف المباشر فيها بناء الجماعة، إذ باستمرارية هيمنة التربية على التنظيم يُحافظ على أساس البناء وجوهره ألا وهو محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين والخلق أجمعين حيث يكون المعيار الحب في الله والبغض في الله وحده معيار العلاقة ومنظار التواصل.

أما في مرحلة العمران الكبير فتهيمن الدعوة على الدولة وفق تفصيل هو من مهام النظرية السياسية الكبرى التي توفر الكفاءة لتمريض المراحل الانتقالية حتى تقويض الاستبداد وبناء نظام الحكم بالقسط، وهنا تتدخل "نظرية الميثاق" المستحضرة علميا وعمليا في المرحلة الأولى والممتدة كذلك في كل تفاصيل بناء المرحلة الثانية إذ هي الراعي الأول لعمليات تمريض المراحل الانتقالية.