شرط الوعي التاريخي في البناء المستقبلي

شرط الوعي التاريخي في البناء المستقبلي
أو شرط الوعي التاريخي في بناء قواعد الحرية

.1.
من لا يملك الوعي التاريخي الضروري لا يمكنه بناء المستقبل على وضوح كاف، بل لن يستطيع اختراق الواقع المعيش فضلا عن فتح آفاقه المستقبلية.
مبارك الموساوي

وإذا كان الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، استطاع أن يؤسس لمفهوم مركزي في الباب بالنسبة لتاريخ المسلمين، هو مفهوم "الانكسار التاريخي" باعتباره أداة كلية لقراءة الماضي قراءة صحيحة والتمكن من نقده نقدا جذريا حتى تتمكن حركة الأمة من فتح آفاق تحررها المستقبلي والقيام بمهمتها التاريخية، فإن المطلوب ليس الوقوف عند هذا المستوى، بل ينبغي تتبع خطوات إعمال المفهوم عند الرجل في مستويين تفصيليين؛ الأول في نقد بنية الاستبداد القائم على درجة هائلة من التفصيل وتجليات ذلك في بناء الموقف السياسي ومراحل تفعيله قطريا ارتباطا بوعي تاريخي يعني الدائرة القطرية التي تتحرك فيها هذه البنية، والثاني في بناء خطوات الدورة التاريخية الجديدة؛ دورة الحرية الشاملة، ويتجلى ذلك في تفاصيل إعادة بناء أداة تنفيذ المشروع التحرري، مشروع العدل والإحسان، وهي الجماعة الجامعة وأدوات اشتغالها الميداني.

إن تكريس أي اختلال في إعادة بناء هذا التاريخ لن يكون إلا لحظة ضعف أمام كلية الاستبداد المتحركة دوما عبر منظومة متكاملة من أداوتها الفرعية المشتغلة على الاحتواء الدائم والضعف المستمر لقوى المجتمع العاملة على التحرر، وبلغة أكثر دقة إنه إعادة إنتاج تجليات الانكسار التاريخي مجددا في مستوى تفصلي دقيق يحتاج درجة حادة من الوعي الحامي من السقوط في فخ دينامية البنية الاستبدادية القادرة على التجدد المستمر نظرا لاستنادها على عمق تاريخي حتى وإن أفقدها الشرعية الوجودية لكونه مزور حقيقة، لكنه يملك القدرة على صناعة الوهم واستطاعة تسويقه على صورة مؤثرة في الوعي والفكر والنفس، ومن ثمة في البناء المجتمعي.

لذلك، فإن احتكار التاريخ والإعلام وسلطة القرار ومواقعه ومواقع صناعة وسائل التأثير فيه القانونية والتنظيمية يشكل أهم مواقع التدافع بين حركية بنية الاستبداد وحركية بنية الحرية.

وتجد هذه الأخيرة درجة كبيرة من العنت لأنها في نفس الوقت تشتغل على محوريين متوازيين؛ محور بنائها الجذري الجديد، ومحور مقاومتها لحركة البنية الاستبدادية المهيمنة على كل تفاصيل الحياة الناسجة لعلاقات أخطبوطية داخليا وخارجيا.

.2.
ما يهم هنا ليس البحث في العوائق الخارجية، إذ قُتلت بحثا ولم تعد تفاصيلها خافية على أحد في الغالب، لكن يجب أن ينكب البحث حول أساسات الدورة التاريخية الجديدة؛ دورة بنية التحرر والحرية في إطار تفعيل تفاصيل مشروع العدل والإحسان.

فليس بالضرورة من يملك أسلوبا سرديا يصير مؤرخا، ولا ناقدا تاريخيا، كما أن السياسي المحترف للسياسة، حتى وإن كان متحركا في سياق مشروع كبير، لن يكون محايدا في قراءة التاريخ الذي شارك فيه، لكن يجب، من باب المسؤولية الفكرية والأخلاقية والتاريخية، أن يقدم الحدث التاريخي بكل موضوعية حتى وإن لم يكن هو الذي شارك فيه أو صنعه وكان مختلفا مع صناعه، لأن الإصرار على احتكار التاريخ واحتكار الإعلام الذي يعرض الحدث التاريخي واحتكار المواقع التي تحدد فلسفة العرض وخلفية التفسير لا يصبح هذا هو التاريخ الجماعي، نسبة إلى مفهوم الجماعة، لأنه يحد مباشرة من المساهمة في بناء التاريخ الجماعي، أي تاريخ الأمة حيث يختصره في تاريخ الفئة أو الطائفة أو المذهب أو فهم معين لحركة الإسلام العامة، ذلك أن عظمة التاريخ الإسلامي تكمن في صناعه الأخفياء، ومنهم الكثير من البسطاء، إذ لا يمكن بناء تاريخ جديد دون إنصاف الجميع من خلال صناعة التاريخ الجماعي وعرضه عرضا إحسانيا.


وهنا تكمن الخطورة، لأن الاحتكار تأسيس لحتمية الانشطار، لذلك تقتضي المسؤولية التاريخية والأخلاقية الصمود الواضح أمام هذا الاختيار وتصحيحه بما يساهم في الحفاظ على البناء الجماعي، لأن قدر التفتيت التي تعيشه الأمة لن يواجه إلا بقدر الجمع لا بتكريس واقع التفتت والتمزق مهما كانت النية صادقة.

.3.
تقتضي عملية بناء الدورة التاريخية الجديدة، دورة الحرية، شرطا عده الإمام المجدد في كتاب "الإسلام غدا" شرطا في العضوية في الجماعة بمعناها النبوي، وهو شرط امتلاك "العقل الناقد"، ذلك أن البناء العمراني لن يكون بغير هذا العقل.

وهنا يقتضي المقام تركيز الحديث عن هذا العقل الضروري في عملية البناء التاريخية فضلا عن السياسية.


فالعقل الناقد متأسس على قيم نبوية عظيمة من حيث هو ترجمان عن القلب العامر بقيم المحبة والرفق والحلم والتواضع والخدمة والإرادة الحرة وجميع العزة، لأنه القلب الخاضع لجلال المولى، لذلك فلن يكون إلا حكيما في تفكيره منظما لحركة قاصدة في الواقع الخاص والعام.

فإذا كان العقل هو مناط التكليف بالأحكام العملية بالنسبة لعموم المسلمين، فإن القلب هو مناط التكليف بتكاليف الجهاد، فيكون العقل الصادر عنه المترجم للمعاني المستقر فيه هو مناط الاجتهاد بالنسبة للمؤمنين المجاهدين، لذلك فالتفكير الصادر عنه يكون حكيما منظما لكل عمليات العمران بناء وتنزيلا، وواعيا بكل مراحل البناء ومضامينها ومطالبها.

ولذلك فالعقل الناقد مخالف تماما للعقل التبريري، ولا يقبله أبدا، لأن هذا الأخير عبر صيرورة التبرير ومنطقها لا ينتج إلا التزوير، وهي قاعدة مقررة عند الإمام رحمه الله، مفادها أن هيمنة المنطق التبريري لا ينتج إلا التزوير.
ويتجلى ذلك في قضية التاريخ تأريخا وتفسيرا.


وبما أنه عقل نقدي واجتهادي فلا يقبل إلا أن يكون مبدعا، لذلك لا تنفصل حركته عن الحالة القلبية المتجلية في حسن الظن بالغير، ومنهم المؤمنون المجاهدون، لكن مع امتلاك حاسة اليقظة المستمرة المحافظة على وعيه الحاد في كل اللحظات حتى لا تسقط الحركة التي يرعاها ويرعى تأريخها وتاريخها في فخاخ خصومها.

فالعقل الناقد الصادر عن القلب الخاضع لجلال المولى الكريم، والعامل على صناعة تاريخ الأمة، يتصف بثلاث صفات عظيمة: فهو عقل جماعي لأنه لا يشتغل إلا في إطار معنى الجماعة القرآني النبوي، وعقل شوري لأنه لن يكون جماعيا إلا إذا كان شوريا، وهذا من أعظم مصادر قوته وعظمته، حيث لا يشتغل دون قيمة الشورى فيتجلى ذلك في آداب جمة معنوية وعملية سامية، وعقل إحساني بنظر الجمع بين مصير صاحبه عند الله تعالى ومصير أمته في التاريخ، فيختم كل حركاته التي لا تنقطع وكل دعائه الملحاح الذي لا ينقطع بالدعاء القرآني: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"، كما فسره الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، إذ حسنة الدنيا التمكين في الأرض وحسنة الآخرة الفوز بالنعيم والنظر إلى وجه الله تعالى الكريم.

مبارك الموساوي